حمى البحر المتوسط
الحمى التي يصاب بها سكان المتوسط أصيب بها القاطنون في ارض فلسطين.. فالفيلم الذي يحمل اسم ( حمى البحر المتوسط ) يتحدث عن سكان مدينة حيفا من عرب ٤٨ واليهود الذين أتوا الى ارض الميعاد ( الاوهام ) والتي ظنوها موعدًا لا يخلف وخلدًا سيخلدون فيه فعاشوا الجحيم والازدواجية وكل ما هو مزيف وغير حقيقي وان بدى في الظاهر براقًا.. وكأن سكان تلك البلدة جميعًا مصابون بتلك الحمى وما يصاحبها من توعك دائم يودي بصاحبه حتمًا لاكتئاب مزمن ظهر جليًا في بادىء الامر على ( وليد ) الكاتب الفلسطيني الذي يرى ان دينه (فلسطيني ) فالوطن المسلوب بالنسبة اليه كالدين بالنسبة لغيره ويعلو الوطن عنده فوق كل المعتقدات ويحلق فوق فروقات الاديان واختلافاتها
لذلك عندما سألته الطبيبة الروسية التي هاجرت لتعيش في ارض الميعاد كغالبية المهاجرين اليهود الروس
عن دينه وهي تملىء استمارة ابنه الطفل المريض الذي شخصت مرضه بشكل خاطىء واعتقدت انه مصاب بحمى المتوسط كغالبية السكان لانها تعيش في كيان يمارس التمييز الديني والعرقي ويعتقد البعض خطأً وجهلا ان ذلك الكيان كيانًا علمانيًا لمجرد انه استطاع شراء ذمم وعلماء العالم ليبنوا لانفسهم وهمًا كبيرًا اسمه (ارض الميعاد )او جنتهم الموعودة والتي هي أقرب لل (لا لا لاند) والجنة الزائفة التي يعيش سكانها في خوف دائم وأمراض مزمنة ويعانون من تفسخ في العلاقات بل وشروخ في الروح لا تلتئم
في حين كان يعاني الطفل من تلك الازدواجية التي يعيشها متنقلًا بين بيته وأبيه الذي رباه على حب الوطن.. وان وطنه هو فلسطين وانه لا يوجد شيء يسمى (اسرائيل ) في حين انه في مدرسته وتحديدا في حصة الجغرافيا والتاريخ تعمد مدرسته على لي الحقائق وتزوير التاريخ والجغرافيا والادعاء -الذي صدقوه هم اولا - بأن ما هو كائن هو اسرائيل وان فلسطين لا مكان لها على الخارطة وأسقطوها من تاريخهم المزيف
و تلك الازدواجية لا يعيشها الطفل وحده بل يعيشها كل من يسكن تلك الارض المقدسة التي خضبت بالدماء منذ عهد المسيح وحتى الان.. فالشهداء يسقطون على ارضها شهيد ورا شهيد ومسيح ورا مسيح على تلك الارض الطاهرة المدنسة بالاحتلال وجرائمه وأكاذيبه التي لا تنتهي والتي تتسبب في تعاسة من يقطن على ارضها.. تعاسة تفضي حتما للاكتئاب المزمن الذي يعاني منه المثقف البائس العاجز عن انجاز عمله او روايته التي يحلم بها فالبوح والرواية التي يحاول ان يكتبها بطل العمل ( وليد ) ابدًا لم تكتمل كحياته التي لم تكن يومًامكتملةً او نموذجية وان بدت في الظاهر هكذا فهو اب لاسرة فيها زوجة وابنة وصبي ولديه اب وام يحبونه ولا ينقصه شيء في الظاهر في حين انه ينقصه الوطن وتنقصه الهوية وينقصه الوجود فأزمته هي أزمة وجود يعاني منها عرب الداخل فهو فلسطينيون أجبروا على العيش في اكذوبة تسمى دولة الاحتلال وصار وطنهم محتل يحارب المحتل فمحاه ذلك المحتل عمدًا من التاريخ والجغرافيا لذلك يعجز ابنائه عن فعل شيء حقيقي او مكتمل فكل شيء منقوص.. الوطن منقوص والسعادة منقوصة والرضا منقوص والازمة الوجودية متجذرة ولا حل لها ويزداد الامر تعقيدا يوما بعد يوم
حتى الجار الجديد ( جلال ) الذي جاء ليسكن بمحاذاة ( وليد ) و بدى في بادىء الامر منتعشًا مقبلًا على الحياة و لا يبالي ويستمتع بحياة الصخب والمرح والتجمعات لنكتشف في نهاية الامر ان حياته -التي لم تكن سهلة ابدا- أدت به هو ايضا لاكتئاب حاول مداراته واخفائه بحياة خطرة صاخبة مدعيًا القوة والشجاعة والصمود متهمًا وليد الكاتب المأزوم بالجبن عندما افصح له عن رغبته في الموت منتحرًا لكنه لا يستطيع ذلك فطلب من جاره ذو الحياة المليئة بالمخاطر ورفقاء السوء ان يقتله ليسدي له بذلك صنيعًا ومعروفًا كبيرا ان خلصه من تلك الحياة البائسة فغضب ( جلال ) و لم نكن نعلم في البداية سبب غضبه الحقيقي اذ ادعى في بادىء الامر حزنه وغضبه
من وليد الذي لم يصارحه منذ البداية وانهما تجولا سويا معتقدًا انه يحب صحبته في حين انه أراده لتنفيذ خطة محددة وهي قتله ! وكما بدى ان (وليد ) كان في حاجة لجلال كان الامر متبادلا..الفرق الوحيد ان (جلال ) كان يخفي اكتئابه وراء ابتسامة وصخب ولهاث في الحياة والتقاطٍ لبعض الملذات والتصدي لظروفه السيئة وبلطجة الديانة الذين انتزعوا منه سيارته في حين كان (وليد )يصدر اكتئابه للعلن ويصرح به.. اما جلال فاعتقد انه يستطيع اخفاء اكتئابه ورغبته هو ايضا في انهاء حياته لذلك اسقط ما فيه على وليد واتهمه بالجبن قائلا له ( ان الجبان هو من يهاب الحياة لا الموت وانت تهاب الحياة ) في حين كان هو من يهابها وينوي التخلص منها واستطرد ان من يريد الموت انانيا لا يفكر فيمن سيخلفها من ورائه ( وبالطبع كان يقصد نفسه ) وهكذا فعل (جلال ) الجار الذي بدى قويًا محبا للحياة والذي اظهر كذلك لوليد انه غير مهتم بقضية الوطن والهوية وانه لا يعاني من تلك الازمة الوجودية ( ازمة الوطن ) و( فلسطين الضائعة ) وقال له ( فلسطين تبعتكم هاي بلوها واشربوا ميتها )
حتى اعترف له في نهاية الامر ان ما قاله كان مجرد استفزاز وجر شكل لوليد كي يصبح صديقا له
فقد كان (جلال ) وحيدًا عاطلا عن العمل وبلا هدف تماما كوليد لذلك التقى الاثنين ومرا سويا بمغامرات صغيرة اقترب كل واحد من خلالها بالاخر
دون ان يحكم عليه او يصنفه كما يصنف الجميع بعضهم البعض في تلك البلدة البائسة واهلها فاقدي الهوية والوجود..و خطط الاثنين بعد مقايضة واتفاق على ان يقتل (جلال ) صديقه وجاره ( وليد ) وان يبدو الامر وكأنه قتل خطأ فوليد لا يستطيع الانتحار رغم انه يريد الموت ويتمناه فتعهد لجلال بدفع ديونه نظير ان يقتله وهكذا يسدد جلال دينه ولا يترك اسرته للديانة وفي نفس الوقت يحقق لوليد ما أراده وسعى اليه
و ذهبا معًا لرحلة صيد بصحبة اخرين واتفق الاثنان على ان ينفصلا عن بقية المجموعة وان ينفردا ببعضهما البعض ليقتل جلال وليد ويبدو الامر انها رصاصة طائشة أصابته بالخطأ ووقف بالفعل وليد امام جلال ليخلصه من الحياة فطلب منه جلال اغماض عينيه لان كلاهما لن يستطيع النظر في عين الاخر فجلال بصعب عليه النظر في عين صديقه الذي سيقتله.. ومن سيقتل لن يستطيع أيضا رؤية صديقه وهو يصوب المسدس لرأسه
و بالفعل أغمض وليد عينيه ووضع يداه على أذنيه كي يصم آذانه عن سماع طلقة الرصاص وهو تنطلق لتخترق رأسه وبالفعل أطلق جلال الرصاصة من مسدسه لنكتشف انه صوبها لرأسه هو منتحرًا
فقد كان يرغب هو الاخر في انهاء حياته ولم يكن يهاب الموت او الانتحار كوليد..فحياته المليئة بالمخاطر كانت تجعل الموت دومًا قريبا منه
و كان السلاح ملازمًا له ويعرف جيدًا كيف يستخدمه فصوبه لرأسه هو..و بعد ان انطلقت الرصاصة وفتح وليد عيناه ووجد نفسه كما هو سليمًا ولم تصبه الرصاصة التي أطلقها جلال
ثم رأى بعينيه المفتوحتين جلال وهو غارق في دمائه
و هكذا عاد وليد وحيدًا لحياته البائسة وظل يائسًا متمنيًا للموت الرحيم.. و يختتم الفيلم بمشهد طريف يلتقي فيه وليد على سلم العمارة التي يسكن فيها بجاره الجديد الذي جاء ليسكن في شقة جلال المنتحر فسأله وليد عن مهنته فرد بأنه طبيب تخدير
فابتسم وليد وابتهج وانفرجت أساريره مخططًا كما بدى على وجهه المبتسم لان يوطد علاقته بالجار الجديد الذي ربما سيكون خلاصه على يديه ويحقنه بمادة قاتلة..فطالما تمنى وليد تلك النهاية الرحيمة وذلك القتل الرحيم على يد طبيب يحقنه بمادة تنهي حياته دون الم ودون اراقة دماء ودون ان يقدم هم على خطوة الانتحار التي لا يستطيع فعليًا الاقدام عليها
و ينتهي الفيلم ويطله الاساسي مازال يحلم ويخطط لانهاء حياته التي ظلت بائسة بل ويزداد بؤسها وخوائه يومًا بعد يوم.. وتركت مخرجة وكاتبه العمل ( مها الحاج ) نهاية الفيلم مفتوحة
فنحن لا نعرف ان كان حقًا الجار الجديد لوليد سيساعده على الانتحار والقتل الرحيم أم لا.. ولا نعرف ايضا ان كان الجار الجديد هو نفسه راضيا بحياته متمسكًا بها ام ربما يكون حاله كحال ( وليد ) و( جلال ) ويقدم ايضا على الانتحار !
و كل تلك التفاصيل في اعتقادي لا تهم.. فما أرادت ايصاله صانعة العمل هو حالة الاكتئاب المزمن المحموم التي يعاني منها رجال الداخل الفلسطيني ممن لا يستطيعون فعل شيء او تغيير شيء في واقعهم البائس وحياتهم التي بلا معنى وبلا امل تماما كوطنهم المسلوب الذي لا امل في نجاته او انقاذه من ايادي المحتل الذي يمارس يوميا ابشع انواع الجرائم في حق الوطن ومواطنيه الذين اصبحوا مسوخًا بلا هوية ولا وجود وضاعت حيواتهم وصاروا مسلوبي الارادة تماما كما سلب منهم وطنهم وسلبت منهم هويتهم
و ذلك هو المعنى والمغزى الحقيقي التي حاولت ونحجت ( مها الحاج ) في ايصاله للمتلقي.. وتعبيرها عن حياتها وحياة اهل الداخل الفلسطيني الذي لا يعرف ولا يقدر كثيرون معاناتهم بل وتزايد عليهم الاغلبية ويتم تخوينهم ويظن فيهم انهم سعداء وان لهم هوية وحياة حقيقية وانهم راضين مطبعين مع المحتل متواطئين معه ومتجانسين في حين ان الامر عكس ذلك تماما وان بدى غير ذلك وخدعتنا المظاهر وأخذنا بالظاهر..فليس كل من يحمل جواز سفر اسرائيليا هو بالضرورة صهيونيًا يحب ويوالي وينتمي للكيان الصهيونى الغاشم
فكثير من هؤلاء يمقت ويعادي ذلك الكيان المغتصب ويحاربه من الداخل وسيظل هؤلاء مع بقية افراد الشعب الفلسطيني شوكة في ظهر ذلك الاحتلال تدميه وتناهضه وتعكر عليه صفو حياته التي لن يهنأ بها ابدًا طالما هنالك من يعي ويدرك ان ارض فلسطين للفلسطينيين وان فلسطين باقية لا تزول ولا تفنى ولن يفنى اصحابها وسيظلون ثابتون يحاربون المحتل ويتمسكون بأرضهم وحقهم فيها وحقهم في تقرير مصيرهم
و ان تعلو فلسطين فوق الجميع وفوق اي خلاف
و لا تنجر لصراعات الطوائف والفصائل وان تكون المقاومة موحدة ولا يتم تعريبها او أسلمتها بل أنسنتها وفلسطنة فلسطين التي تعلو وتحلق فوق اي صراعات او فروقات او معتقدات او أديان
ففلسطين للفلسطيني هي دين وشرف وارض وهوية ووجود.. ولا يساوم بها بل ولا يساوم عليها وتسمو فوق الجميع وفوق فروقاتهم وانتماءاتهم لفصيل او دين بعينه.