حديث الزلازل والبراكين
قبل العام اتنين وتسعين من القرن الماضى لم تكن كلمة زلزال بالنسبة لى إلا مفردة جميلة كتبها حسين السيد فى أغنية بديعة لمحمد رشدى يصف فيها مشية الغزال الذى يحبه.. أحببنا كعب الغزال وأحببنا الزلزال الذى يخشاه محمد رشدى حتى حدث ما حدث وشاهدنا بأعيننا نهاية العالم فى لحظة.. وقتها عرفنا أهمية العلم ورحنا نفتش عن مصير الأرض والجغرافيا.. رحنا نبحث عن الأفلام التى تتحدث عن غضب الطبيعة.. ولأسابيع صرنا جميعًا نفهم كل شىء عن البراكين وما تحت الأرض والمجرات وعلوم الفلك.. وسرعان ما نسينا وانشغلنا بأحاديث الأهلى والزمالك والأسعار والنساء والمدارس وغيرها من التفاصيل التى تشغلنا لساعات وسرعان ما نبحث عن غيرها.
هذا الأسبوع عدنا إلى ما نسيناه منذ سنوات.. زلزال يضرب المغرب الشقيق وبعده إعصار يجتاح ليبيا الحبيبة ويمر من أمام سواحلنا، لكنه يترك لنا خلفه حزنًا لا يرحل عن الصدور.. عشرات البيوت فى مصر لديها أبناء يعيشون فى ليبيا.. قبائل وعائلات مصرية تربطها علاقات نسب ومصاهرة لعائلات ليبية.. رغم كل ما يجرى هناك ورغم عدم استقرار البلاد منذ رحيل القذافى فإن العمال المصريين ما زالوا هناك.. قرى كاملة فى الفيوم والمنيا وبنى سويف وسوهاج أولادها يمارسون حياتهم المعتادة وصراعهم المعتاد مع الحياة.. من أجل لقمة العيش.. ليبيون كثيرون يعيشون ويعملون هنا.. هذه المرة تأخذ كلمتا الزلزال والإعصار معانى مختلفة.. الخوف يتسلل إلى البيوت والقلوب.. الرعشة تطارد العيون وهى تبحث فى شاشات الأخبار عن السكينة المفقودة.. آلاف البشر يغمرهم السيل.. الجسور تتداعى.. الغرقى بالآلاف تجرفهم ريح السيل التى لا تتوقف.. المشهد مرعب والذاكرة تستدعى تاريخًا طويلًا من غضب الطبيعة.
هناك.. كانت القيادة السياسية تنظر للأمر بشكل مختلف.. إنقاذ أهلنا فى ليبيا أمر لا يحتمل الانتظار.. وقبل أن تبرد بيانات الدعم والمساندة كانت أرتال من أبناء الجيش المصرى تخترق الحدود التى اصطنعها الاستعمار القديم فى طريقها إلى أهلنا.. الشعب الليبى يستقبل الجنود والمعدات المصرية بفرح نبيل.. الصيحات تتعالى.. مش غريب على مصر.. ويرد من هم أمام الشاشات: ولا ليبيا غريبة.. ساعات قليلة أعادت الوعى المهاجر إلى موقعه فى الرأس.. وأعادت الدموع الناشفة إلى العيون.. تلك المودة التى رحلت فى سنوات مضت مع خلافات غبية، غضب الطبيعة يعيدها مجددًا.. مصر وليبيا وطن واحد ومصير واحد.. ما يجرحهم يجرحنا.. ما يحزنهم يحزننا.. ولن نفرح إلا معًا.
الأمر أكبر من كونه إغاثة أو إسعافًا او إنقاذًا.. إنه إعادة لعقارب الساعات عند توقيتها الصحيح.. ربما تكون إشارة الطبيعة فرصة للأشقاء المختلفين هناك أن يستعيدوا بوصلتهم من أجل وطن مزقته الفرقة والاختلافات ولن ينجوا دون وحدة واصطفاف عاجل.. لن تنجو ليبيا أو أى بلد عربى دون أهله.. ومحيطه.
كرهت كلمة إعادة الأعمار من كثرة ما سمعتها عقب انهيار العراق على مدار تلاتين سنة.. وأشد ما أخشاه الآن.. أن نسمع هذه المفردة كثيرًا عن ليبيا دون عمار حقيقى لن يحدث دون توافق سياسى عاجل.. وأشعر أيضًا بأننا هذه المرة لن نغادر كتب الجغرافيا.. فيلم غضب الطبيعة مستمر.. العرض مستمر.. وأهلنا فى الدلتا يتعشمون أن تكذب توقعات العلماء.. الدلتا وسواحل مصر لا تتحمل أوجاعًا جديدة.. فهل نعيد قراءة ما حذر العلماء منه منذ سنوات ولا نتعامل معه باعتباره أغنية راقصة لمحمود الليثى...؟