رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ألعاب حسين عبدالعليم

يمكن وصف كتاب «ألعاب حسين عبدالعليم» للكاتبة الصحفية والباحثة إسراء النمر، بالقارب الخشبي الذي يطفو ويتهادى فوق بحيرة. وهذه البحيرة الهادئة بطبيعتها، وصف يليق بأديب حقيقي طالما عاش في الظل وعلى الهامش، وهو الراحل حسين عبدالعليم.

الكتاب رحلة إنسانية في حياة الرجل الذي قدم إبداعًا مختلفًا، يعبّر عن ذاته الحرة وعن قضاياه الخاصة وإشكالياته وتساؤلاته ونظرته إلى الواقع والحياة والموت. رجل عاش هادئًا بينما تضطرب الأمواج داخل روحه، صامدًا أمام تقلبات إنسانية واجتماعية هائلة وظروف معيشية مثل الفخاخ المنصوبة له بعناية فائقة.

ونرى حسين عبدالعليم وهو يطل علينا برأسه في ذلك الكتاب، فاتحًا لنا صدره، فنرى خباياه وآلامه وأفراحه القليلة وأحلامه الطفولية البسيطة، ويجعلنا ذلك نتساءل كيف عاش ذلك الرجل كل هذا الصراع الداخلي دون أن ينفجر، وكيف لم يلتفت الواقع الثقافي جيدًا إلى صراخه المكتوم الذي تبدى في أعماله القليلة، التي لم تحظَ بالعناية والاهتمام النقدي ولا حتى النشر في ظروف وأشكال جيدة، فعاش هادئًا مثل البحيرة.

اعتنت إسراء النمر جيدًا بما تبقى من حسين عبدالعليم من أوراق ورسائل، لتفتح لنا بابًا للدخول إلى ملكوت هذه الرجل، كما تمر كذلك على آثاره الإنسانية التي تركها، مثل مكتبه للمحاماة الذي قضى سنوات طويلة من الكد والعمل داخله، وكذلك منزله القديم في الفيوم الذي جعلتنا نشم روائحه وهي تتجول بنا في غرفه، كما أطلعتنا على وجه من وجوهه متمثل في نجلته مريم، التي باحت بالكثير من دواخل وأسرار والدها الراحل.

في أول الألعاب الذي يضمها الكتاب، والتي حملت اسم «القاهرة- الفيوم، والعكس»، نتحرك مع حسين عبدالعليم بين المدينتين، ونمر بين الأحداث الرئيسة في نشأته وعلاقته بوالده كاتب القصة القصيرة، وأسفاره داخل روحه وخارجها أيضًا، ورحلة عمله القصيرة إلى الخارج.

 لم يكن الرجل يستقر على حال كأنما يتقلب على جمر، كما يصف نفسه في أحد خطاباته لزوجته: «لقد تحولت للأسف إلى إنسان يعيش فوق لغم متحرك».

غلاف ألعاب حسين عبد العليم

لم يكن ناقمًا على تلك الحياة ولا رافضًا للواقع، بل يتعاطى معه بتصالح كامل، وهو يدرك من قرارة ذاته بأن هذا العالم لا يمكن استبداله، فلا مناص من التسليم بمعطياته، ولا بديل عن العمل، ولا بديل عن الكفاح في الظل، ولا بديل عن الكتابة حتى ولو على الهامش.

وفي اللعبة الثانية التي تحمل اسم «على درج البيت»، تصعد إسراء النمر سلالم شقة حسين عبدالعليم في بولاق الدكرور، وتُطلعنا على روحه ورائحته، ونرى بقايا الرجل ما زالت نابضة بالحياة وتتنفس رغم تهالكها، ونطالع أيضًا جدار مكتبته المليئة بالكتب القيمة، والتي تصفها إسراء بقولها: «كان طبيعيًا أن يغلب على المكتبة القدم، فكأنها تنتمي لشخص لم يعش في زماننا هذا، فغالبية الكتب متهالكة وأوراقها صفراء وتنبعث منها تلك الرائحة التي تحرك داخلك الحنين لشيء ما».

وتصدمنا تلك اللعبة أيضًا بالنظرة الإشراقية لدى حسين تجاه معضلة الموت، فهو لا يخشاه بالمرة، ويعبر عن ذلك ليس بالكلام، ولكن بالتمازج العجيب مع الحياة والاستهانة المُهلكة بفكرة الرحيل، فالمرض بالنسبة له ليس أكثر من وسيلة للتفاني النهائي الذي يطمح إليه ويتمناه كأنه يقين أبدي يسعى للوصول إليه، ونراه وهو يمعن في اللا مبالاة وهو يتحدث عن رحلته مع مرض الفشل الكلوي وجلسات غسيل الكلى التي كان يخضع إليها، بقوله: «هو مرض كأي مرض، له مساوئه ومتاعبه ومحاسنه أيضًا، يكفي أن الغسيل يمنحك كل يومين أربع ساعات تستلقي فيها، وتتوحد مع نفسك وتجتر ماضيك وتتصور مستقبلك».

وتسلمنا اللعبة الثالثة «شريعة الأفوكاتو» إلى تصورات حسين عبدالعليم عن التوجه اليساري الذي ربما ينتمي إليه فكريًا وليس تنظيميًا، فنكتشف أن «حسين» يؤمن في قرارة نفسه بأن الأيديولوجيات التحررية قد تصبح في يوم من الأيام أحد أسوأ أوجه الاستبداد في ذاتها، من ناحية نفي الآخر وفرض تصور ومنهج فكري بعينه.

نراه في رسالة أرسلها لزوجته من عمان، التي سافر إليها فترة قصيرة للعمل، يقول لها: «أليست الشيوعية هي حكم الطاغي الجديد البروليتاريا، (طبقة العمال)، وهل هناك رجل حر يقبل حكم أي طاغ حتى لو كانت البروليتاريا، وماذا تفهم البروليتاريا في الحكم؟ وماذا تفهم في الفكر والفن؟ فمنذ قيام الثورة الفرنسية قام الرعاع بقتل مئات النبلاء دونما ذنب، إنها ستكون ثورة عمياء ضد الحضارة والفن».

وفي نفس اللعبة أيضًا، تعرض إسراء النمر جانبًا عجيبًا من جوانب حياة الرجل، وهو الجانب المهني، فنرى كيف تفانى في مهنة المحاماة وسخر ذاته وأعصابه في قضايا الناس البسطاء الذين يقطنون الحي الفقير الذي يقع فيه مكتبه، وتفاجئنا بتفاصيل عبقرية عن وقائع استلهم منها حسين عبدالعليم الخيوط الرئيسية لأعماله الأدبية.

أما اللعبة الرابعة، فنعيش دراما القنص مع عينيْ «حسين» الصياد، لقد تشبعت روحه بتلك الهواية «الصيد»، وكأن ما كان يصطاده من حيوانات مفترسة وطيور جارحة هو المجاز المعبر عما أراد أن يقتنصه في الحياة من أشياء دنيوية أو حتى جوائز أدبية ولم يستطع، أو كأنه رأى في البرية مساحة حرة لتخليص روحه من شوائبها وأعبائها الهائلة.

وفي اللعبة الخامسة والأخيرة «عمر من النعناع»، والتي تحمل نفس اسم روايته، نقرأ صفحة شفافة من صفحات ذلك الرجل، في رحلة رصدت فيها إسراء النمر جذوره، واستخرجت آثاره من على أوراق الصحف القديمة وأرشيفها، لنختتم معها العمل، ولدينا بورتريه رائق لوجوه حسين عبدالعليم، التي رغم أنها مليئة بالحزن والألم، تفيض أيضًا بالعطاء والأمل والتصالح والرضا عن الذات والحياة.