عاش هنا
يعتبر مشروع «عاش هنا» بحق من أهم المشاريع الثقافية القومية فى السنوات الأخيرة. وتأتى أهمية المشروع من الحرص على الحفاظ على الذاكرة الوطنية فى أوقات صعبة يمر بها العالم، من خلال شيوع ظاهرة العولمة، والتأثيرات السلبية لها على مسألة الهوية الوطنية.
من هنا طرح جهاز التنسيق الحضارى مشروع «عاش هنا» فى محاولة جادة للحفاظ ليس فقط على ذاكرة المكان، ولكن ذاكرة المكان كجزءٍ لا يتجزأ من الذاكرة الوطنية. وأتذكر كم الحسرة التى كانت تعتصرنا أثناء جولاتنا الحرة فى شوارع بعض المدن الأوروبية، عندما نجد الاحتفاء بذاكرة المكان، كسبيل للحفاظ على الذاكرة الوطنية من خلال لوحات إرشادية على جدران المنازل التى سكن فيها رموز الوطن. وبذهنية المؤرخ كنت أدرك أهمية ذلك فى مسألة التأريخ، لكننى كنت أرى فيها أيضًا رسالة اعتراف بالجميل من الوطن لرموزه الراحلين، الخالدين فى الذاكرة الوطنية.
لذلك لا أستطيع أن أصف كم سعادتى عندما تمت دعوتى للانضمام للجنة العلمية لمشروع «عاش هنا». ولا أُبالغ إذا قلت إن هذه اللجنة ضمت نخبة من خيرة المتخصصين فى شتى المجالات، من العمارة والآثار والتوثيق والسينما والفنون التشكيلية والأدب والعلوم البحتة والتاريخ. وأشهد أن أسلوب إدارة هذه اللجنة، ربما لم أشهد له مثيلًا فى الكثير من اللجان الأخرى، فبداية كان الهدف هو الحفاظ على الذاكرة الوطنية، وبالتالى يقتصر المشروع على الراحلين من رموز الوطن، ويتم طرح الأسماء المرشحة على اللجنة للتداول بشأنها، وإذا حدث خلاف حول أحد هذه الأسماء يتم فتح باب النقاش حول الأمر، وإذا لم يتم الحسم، تأخذ اللجنة بمبدأ التصويت، واحترام رأى الأغلبية، وأحيانًا نُعطى الأولوية لأسماء معينة نظرًا لريادتها فى مجال ما وخدماتها الجليلة للوطن، ونؤجل أسماء أخرى للمرحلة التالية من المشروع احترامًا لمبدأ الريادة.
ولا يقتصر المشروع على مجرد لوحة تذكارية تُعلَّق على جدران المبنى، وإنما يُلحَق باللوحة كود معين يستطيع مَن يريد التزود بمعلومات إضافية عن هذه الشخصية تتبعه عن طريق الهاتف المحمول؛ ليقوده إلى صفحة معلومات تمت مراجعتها بدقة.
ويواجه المشروع بعض الصعوبات مثل تهدُّم بيوت بعض الرموز الوطنية، وتغيير معالم المكان، أو اعتراض مالك العقار على وضع اللوحة، لتصور خاطئ أن المنزل على هذا النحو سيصبح مسجلًا حكوميًا كمبنى ذى طرازٍ خاص، وهى وضعية معمارية قانونية، وأحيانًا أخرى تكون المُعضِلة أن الشخصية الوطنية قد عاشت فى أكثر من مكان، ووضعت اللجنة معايير لمثل هذه الحالة.
لكن المشكلة الأخيرة والغريبة هى سرقة بعض هذه اللوحات؛ نظرًا لأنها مصنوعة من النحاس! وتوصل جهاز التنسيق الحضارى إلى حل لهذه المشكلة من خلال استخدام مادة أخرى لصنع اللوحة، مع الاحتفاظ بالشكل الجميل نفسه.
ويبقى فى النهاية أن نُحَيِّى استمرارية هذا المشروع، والاستمرارية فى حد ذاتها نجاح، والدور المهم فى الحفاظ على الذاكرة الوطنية.