إنعام من الله.. فى حب وصيفة بنت المرزوقى
مع انتصاف شهر سبتمبر من عام ١٩٣٩.. وبينما يعيش العالم حالة توتر وترقب بعد إشعال هتلر فتيل حرب ضروس شغلت الدنيا بعدها سنوات تالية.. كانت هناك طفلة صغيرة تولد فى مدينة ساحلية ساحرة على البحر المتوسط تسمى دمياط فى شمال مصر.. وهى الدولة التى وجدت نفسها رغم أنفها مغروسة فى الحرب العالمية الثانية دون إرادة منها.
تلك الطفلة الصغيرة التى سماها أبوها «إنعام»، ونُسبت للقب العائلة «سالوسة»، كانت بعد هذا التاريخ بـ٧٥ عامًا بطلة لحرب عالمية ثالثة، وهو اسم الفيلم السينمائى الذى صدر فى عام ٢٠١٤.. لتصبح رضيعة الحرب العالمية الثانية بعد ٧ عقود هى نفسها الفنانة القديرة على تتر فيلم «الحرب العالمية الثالثة».. وبين هذا وذاك حياة غاية فى الثراء الفنى غير المسبوق لواحدة من أهم ممثلات مصر على مدار تاريخها لكنها مظلومة ظلمًا يجعلها تشبه إلى حد كبير شخصيتها الأيقونة «وصيفة بنت المرزوقى»، إحدى بطلات «ليالى الحلمية»، درة تاج الدراما المصرية.. حيث عاشت «وصيفة» مع العمدة سليمان غانم وتحملت شطط زوجها الذى هجر أرضه وعرشه فى قريته الصغيرة الواقعة ضمن زمام مديرية البحيرة وراح يجرى فى ماراثونات من الفشل المتكرر أمام غريمه التقليدى سليم باشا البدرى، متوهمًا بأنه سوف يأخذ بثأر والده الذى مات كمدًا من البدرى الكبير أبوسليم.. ولكنه، ويا للحسرة، ما يكاد يخرج سليمان من «حفرة» صنعها له سليم حتى يجد «الدحديرة» فى انتظاره، فلا يرى غير وصيفة بنت المرزوقى، زوجته، لينفث فيها دخان فشله قائلًا بأعلى صوت: «جااااااى»، فتقوم وصيفة بدورها على أكمل وجه وتغفر لسليمان أخطاءه فى حقها حتى لو كان الزواج من نازك السلحدار، طليقة سليم، فى إطار حربه السيزيفية التى لا تنتهى.
ولم تكن إنعام سالوسة قد برحت دور وصيفة بعد حتى وجدت نفسها فى دور أكثر قهرًا وظلمًا وهو «نعمة»، المرأة التى تعيش فى بؤس دائم مع علوان البكرى ضمن رائعة التسعينيات «ذئاب الجبل».. لترسخ إنعام- دون قصد- فى وجدان الناس صورة ذهنية عنها وهى المرأة المظلومة التى تعطى دون حساب ولا تنتظر كلمة تقدير لعطائها.
ويا للعجب ينسحب هذا التصور عليها فى الواقع لتبتعد عن أى وسيلة إعلامية فهى لا تحب الأضواء.. لا تفضل أن تسمع أى كلمة ثناء على إبداعها.. لديها إيمان لا يتزعزع بأنها تؤدى عملها وحسب دون انتظار شىء من أحد.. لذلك لم أتعجب من صعوبة الوصول إلى مواد صحفية كثيرة عن إنعام سالوسة تكافئ قيمتها الفنية وموهبتها الأصيلة التى تجعل مجرد ظهورها على أى شاشة فى أى وقت كفيلًا بإيصال رسالة بعلم الوصول لكل مشاهد.. مفادها أنك أمام واحدة من عظيمات فن التشخيص المصرى.. فانتبه يا عزيزى.
نبوءة «آخر ساعة» لإنعام سالوسة فى الستينيات: فنانة استثنائية وكوميديانة مفيش زيها
فى عددها الصادر فى ٥ يونيو ١٩٦٨ بعد النكسة بعام خرجت علينا مجلة «آخر ساعة» كعادتها بتحقيق جميل تشجيعًا لوجوه جديدة لمعت فى المسرح بعد نهاية الموسم المسرحى لعام ٦٨ وأسماء الشباب الذين احتفت بهم «آخر ساعة»، على سبيل المثال عايدة عبدالعزيز وفاروق نجيب وفؤاد أحمد وأحمد فريد وشاكر عبداللطيف، وكلهم أصبحوا ذوى شأن فى الحياة الفنية بعد ذلك.. أما الممثلة الشابة الأكثر بروزًا ولمعانًا فى تحقيق «آخر ساعة» فلم تكن سوى «إنعام سالوسة». قالت عنها سامية عثمان، صاحبة التحقيق الجميل، كلامًا يعد نبوءة ستتحقق متأخرًا وهو بالنص: «فى اعتقادى أن إنعام سالوسة من أصلح الوجوه الجديدة التى ظهرت فى الفترة الأخيرة فى أداء اللون الكوميدى»، ثم تتعجب سامية قائلة: «ومع ذلك لم يفكر أحد المخرجين فى تقديمها فى تجربة كوميدية».
ثم تستطرد: «إن إنعام تتميز بكل مواصفات الكوميديان الناجح.. خفة الروح وموهبة الحضور على خشبة المسرح والأداء التمثيلى الجديد». ثم تنهى صحفية «آخر ساعة» كلامها عنها بإقرار الظلم الواقع عليها والذى لازم، على ما يبدو، إنعام فى كل مراحل حياتها، حيث قالت فى نهاية كلامها: «قد تكون إنعام مظلومة لأنها لم تجد خلال هذه السنوات الثلاث نفس فرص زملائها وزميلاتها مع أنها لا تقل عنهم من ناحية المستوى الفنى بل هى تتفوق على كثيرين منهم.. وإنى أتمنى أن أرى إنعام سالوسة فى دور كوميدى الموسم المقبل».
لكن على ما يبدو أن إنعام سالوسة بعد هذا التحقيق الستيناتى لم تنسجم فى علاقتها مع الصحافة.. وهى فى ذلك ضمن نوع نادر من الفنانين لأن أغلب أهل الفن فى تلك الأوقات يعرف، تمام المعرفة، أهمية الصحافة كعنصر مكمل لنجوميتهم يضيف لمعانًا على شخصية النجم أو النجمة، لذلك تجد متلازمة الصداقات الدائمة بين الصحفيين والفنانين بطبيعة الحال.
وإن كان هناك بعض الفنانين الكبار القلائل الذين لم تتفق شخصياتهم الكتومة الجادة مع طبيعة الصحافة الفنية القائمة على الفضفضة والحوارات الشخصية غزيرة التفاصيل، ناهيك بالطبع عن الأخبار والشائعات المغلوطة التى دائمًا ما تجد صفحات الجرائد والمجلات مرتعًا لها، ومن أهم الأمثلة على تلك الفئة من الفنانين، كما ذكرنا قبل ذلك، كان الفنان محمود مرسى الذى يشترك مع إنعام سالوسة فى ندرة ظهوره الإعلامى والصحفى حتى فى أكثر فترات حياته الفنية توهجًا، وفى فترة تالية جاءت الفنانة عبلة كامل فى علاقتها الملتبسة مع الظهور الصحفى لتؤكد أن إنعام ومرسى ليسا استثناءً.
الأمر ليس عداءً للصحافة ولكنه قناعة شخصية بأن دورها كفنانة ينتهى أمام الكاميرات مع كلمة «فركش» التى يطلقها المخرج أو مع غلق ستارة المسرح، وبعدها تتحول إنعام إلى إنسانة عادية غاية فى البساطة والوداعة.. أم وزوجة تمارس كل طقوسها التى يخولها لها هذان الوصفان من أول التسوق فى سوق الخضار وحتى رضاعة أطفالها أو صنع أكلة حلوة لزوجها سمير العصفورى بعد رجوعه من المسرح. إذن تلك هى رغبتها وتلك خلطتها التى فسرت لغز فتور علاقتها بالصحافة.. إنعام النجمة تختفى عندما تحضر إنعام ست البيت والزوجة المحبة للجو الأسرى.
أما المدهش أيضًا أن إنعام بالرغم من نجاحها الأسرى الاستثنائى فى وسط يعج بحالات الطلاق الفضائحية.. فهى لم تتاجر بذلك ولم تتباه به، بل على العكس انتقدت آثار الحكيم فى بداية التسعينيات، فى مداخلة تليفزيونية نادرة أجرتها معها صفاء أبوالسعود، وكانت ضيفتها فى الاستديو آثار الحكيم التى كانت حينها تذكر بشكل متكرر فى حواراتها الصحفية أن سبب اعتذارها عن عدم استكمال بعض أدوارها المهمة، مثل زهرة سليمان غانم فى «ليالى الحلمية»، أنها تفرغت لأولادها وبيتها حتى ترعاهم.. قالت لها إنعام، بمنتهى الصراحة المدهشة: «بطلى يا آثار تقولى كده كل شوية إنك سيبتى شغلك عشان تربى العيال.. هو محدش خلّف غيرك»، وهذا كلام بالنص كما قالته إنعام وموجود على اليوتيوب، وهى مداخلة قصيرة جدًا لكنها كاشفة عن شخصية إنعام الرافضة أى متاجرة بأمور شخصية على حساب الفن.
لماذا كرهت إنعام الصحافة؟
فى تصورى أن إنعام لم تكره الصحافة بقدر ما كرهت أى احتمالية لعدم الصدق.. وهناك شواهد حديثة نسبيًا تقول الكثير عن شخصية إنعام المدهشة فى تحريها الصدق فى كل حياتها.
الشاهد الأول هو المعلومة التى يتم تداولها على شبكات الإنترنت بشكل متزايد ومتسارع بدافع الاحتفاء بها، خاصة علاقتها بسعاد حسنى.
والمعلومة ببساطة هى أن إنعام سالوسة هى من دربت سعاد حسنى على الإلقاء والتمثيل، وأصبحت تلك المعلومة المدسوسة تُلاك على الشبكة العنكبوتية، بجوار ملايين المعلومات الأخرى الخاطئة التى تدور فى محراب الإنترنت حتى تصير مع الوقت واقعًا لا ينفى.
كان من الممكن أن تظل إنعام على صمتها.. تاركة تلك المعلومة تأخد دورتها لأنها تصب فى تاريخها بالطبع.. وبالتأكيد تمنحها هالة إضافية.. فهى المرأة التى علمت سعاد حسنى بجلالة قدرها.. والسندريلا غير موجودة لتنفى ذلك الكلام.. فما المانع؟.
لكن إنعام الصادقة مع نفسها، قبل أن تكون مع الآخرين، لا تحب أن تكون طرفًا فى كذبة بهذا الشكل، فخرجت عن صمتها مع الزميلة زينب عبداللاه عبر جريدة «اليوم السابع» فى عام ٢٠١٩ وقالت بنص ما صاغته زينب فى عنوان الحوار القصير معها: «إنعام سالوسة: علاقتى بالسندريلا بدأت وإحنا مجهولين ولم أدربها على التمثيل»، ثم شرحت إنعام أكثر داخل الحوار قائلة بالنص: «أنا ماكنتش أعرف حاجة عن التمثيل وقتها، وكنت لسه طالبة فى الجامعة بكلية الآداب ولم ألتحق بعد بمعهد التمثيل، واتعرفت على سعاد فى فرقة عبدالرحمن الخميسى، ولم أعلمها شيئًا».. وتابعت: «ماكنش حد يعرفنى ولا يعرفها وكنا إحنا الاتنين مجهولين ولا كان حد فينا لسه اشتغل فى أى عمل، إزاى أدربها وأنا ماكنتش وقتها أعرف أمثل وكنت لسه مبتدئة».
واقعة أخرى عمرها أيام ترسخ فكرة الصدق الغريزى الذى تتمتع به إنعام سالوسة، وبطلتها أيضًا السوشيال ميديا مرتع الأكاذيب وحديقة الأباطيل الغنّاء.. حيث انتشرت معلومات مفبركة عن حوار وهمى مختلق بين إنعام سالوسة والإعلامية منى الشاذلى، وتسأل «منى» إنعام عن ديانتها فتفاجأ بأنها مسلمة، ثم كلام من نوعية أن إنعام الفنانة الكبيرة علمت الإعلامية آداب الحوار وأحرجتها أشد الإحراج لسؤالها الغريب.. وأخذ الحوار المزعوم يتنقل بين صفحات فيسبوك، وفى كل نقلة تضاف تفاصيل وبهارات تزيد الأمر سخونة.. لكن إنعام بكلمات قليلة أنهت سيل الأكاذيب عبر بوست حاسم على صفحتها الصغيرة على فيسبوك تقول فيه إنها لم تجر حوارًا مع منى الشاذلى من الأساس وهذا الحوار مختلق.. وهو ما دفع الإعلامية التى كانت فى مرمى النيران بسبب الحوار الكاذب لشكرها بشكل علنى بكتابة بوست طويل للرد على نبل إنعام، قالت فيه بالنص: «شكرًا جزيلًا للفنانة العظيمة والإنسانة الرائعة الأستاذة إنعام سالوسة على تكذيبها واقعة مختلقة عنى تم تداولها دون التأكد من صحتها. القديرة إنعام سالوسة استاءت من أن يتم تداول خبر يسىء لى مهنيًا وفكريًا، فقررت بنبل شديد أن ترفع عنى الحرج وتكتب على صفحتها الرسمية بشكل واضح أن الحوار الذى تداوله البعض حوار مختلق. كل الشكر، والتقدير لها».
تلك ببساطة هى إنعام سالوسة.
سمير العصفورى حب العمر وسند الأيام العجاف
استثمرت إنعام سالوسة فى حياتها الزوجية أفضل استثمار وساعدتها الظروف التى وضعت أمامها حبيب العمر سمير العصفورى، فى قسم اللغة العربية بآداب عين شمس فى الستينيات، وهو المكان الذى شهد قصة حب رائقة غير متكلفة بين إنعام وسمير، وكما هو متوقع ابتعدت بها إنعام عن الإعلام خاصة الصحافة.. باختصار «حوّطت» بلغة الأمهات على حياتها الزوجية والأسرية.
الجميل أن سمير العصفورى، هذا المخرج العملاق الذى يمتلك بصماته الجلية على جدار تاريخ المسرح، شارك إنعام، على ما يبدو، حرصها الشديد على إنجاح تلك العلاقة التى بدأت رومانسية بنكهة الستينيات داخل أروقة قسم اللغة العربية بآداب عين شمس، ولم تنته حتى الآن بعد أن قطع الزوجان شوطًا كبيرًا فى العقد الثامن من عمريهما، نرجو أن يطيلهما الله أكثر وأكثر.. وهو القادر على كل شىء. عائلة إنعام وسمير كانت عائلة فنية مثالية لم تتأثر بأجواء الوسط الفنى المثيرة للخلافات الزوجية.. فهى من العائلات الفنية التى تعد على الأصابع، أكملت الرحلة دون منغصات ولا أخبار خلافات أو طلاق أو محاكم.. وعلى ما يبدو أن فلسفة إنعام لإنجاح سفينة أسرتها هو بعدها عن الصحافة والإعلام على طريقة «يا نحلة لا تقرصينى ولا عاوزة عسلك».. لذلك ضحت بحالة التلميع الفنى التى كانت من الممكن أن تحدث لها حال قربها من الصحافة، لكنها حينها ستكون عرضة للشائعات أو تحريف التصريحات مثلما حدث كثيرًا مع زميلاتها، وأولهن صديقة شبابها سندريلا الشاشة سعاد حسنى. وحتى بخصوص أنجح أدوارها «وصيفة» لم تحاول إنعام الاستفادة من حالة الزخم الإعلامى والشعبى التى أحدثها المسلسل، فلو تتبعت عشرات الندوات التى أُقيمت لصناع ملحمة «ليالى الحلمية» فى الثمانينيات والتسعينيات، وعلى رأسهم مبدعها أسامة أنور عكاشة، غالبًا ستجد بجوار أسامة دائمًا كل الأبطال، وفى ندوات صغيرة من الممكن أن تجد الدكتور سيد عبدالكريم وسيد عزمى مثلًا فقط، ومرة أخرى سهير المرشدى وصلاح السعدنى ويحيى الفخرانى.. لكن إنعام فلن تجدها أغلب الظن فى حدود ما رأينا من تغطيات صحفية لتلك الندوات التى أغرقت جرائد ومجلات الثمانينيات.