لماذا أؤيد الرئيس؟.. المصريون والسيسى وعصا موسى «4»
طوال السنوات الماضية تعرض الذين يؤيدون الرئيس فى قراراته ورؤيته لسيل من الهجوم والاتهامات، ومن المتوقع أن تنشط تلك الموجة مع تأييدهم ترشحه لفترة رئاسة جديدة. واحتوت قائمة تلك الاتهامات على نقاط محددة- مثل قصة الأولويات- تناولتُ بعضها فى الأجزاء السابقة وبقيت نقطة أخيرة. هذه النقطة تتجاهل جميع الإنجازات على الأرض، وتتجاهل أوضاع مصر عام ٢٠١٤م، ومقارنتها بمصر الآن، وتقفز إلى سؤال وحيد.. لماذا كل تلك الإنجازات لم تغير- من وجهة نظرهم- أحوال المصريين تغييرًا جذريًا كبيرًا يتماشى مع ما نتحدث نحن المؤيدين عنه؟ ومن هؤلاء الذين يرددون هذا الحديث كثيرون ممن كانوا فى صفوف ثورة يونيو! وقد جمعتنا جميعًا- مؤيدين للرئيس ومعارضين له- مناقشات مستفيضة حول إجابة هذا السؤال!
يمكننى الآن أن أقدم إجابة عن هذا التساؤل تحتوى على شقين منفصلين: الشق الأول هو تساؤل مشروع: هل كان هؤلاء يوم ٣٠ يونيو يدركون بشكل حقيقى واقعى مفردات الحالة أو الواقع المصرى؟! سقف التوقعات يتم تحديده بشكل موضوعى فى أى مسألة حسب معلوماتنا عن هذه المسألة. حجم التوقعات لما يمكن إنجازه فى عام أو عشرة أعوام يتحدد حسب المعطيات والمعلومات عن الواقع وعن حجم الجهد والتمويل اللازمين لبلوغ تلك الطموحات، وأيضًا إدراك مسئوليات كل طرف متداخل فى تلك المسألة!
قطاع من المصريين لم يستوعب ما قاله المرشح الرئاسى عبدالفتاح السيسى قبيل انتخابه عام ٢٠١٤م. لقد قال الرجل بصراحة إن الأوضاع سيئة جدًا، ولو قمتم بانتخابى فتوقعوا أننى سأطالبكم بالعمل الشاق لسنوات طويلة، ثم قال على سبيل المداعبة «هصحيكم الساعة خمسة الصبح!» لكنها لم تكن مداعبة، وكان الرجل جادًا جدًا فيما قال، لدرجة لم يتوقعها من استمعوا إليه، وربما لم يستوعبوها!
انتخبت الملايين من المصريين عبدالفتاح السيسى، واحتفلوا بالتخلص من الجماعات التكفيرية وانحسار تهديداتها، ثم بدأت هذه الملايين فى ممارسة حياتها منتظرة أن يقوم من انتخبوه بحل مشاكل مصر المتراكمة عبر أكثر من أربعة عقود منذ انتهاء حرب أكتوبر تحديدًا- وبعضها الآخر تراكمات قرون- فى غضون أشهر أو سنوات لا تتجاوز فترة رئاسته الأولى!
بدأ التململ مبكرًا جدًا.. يتم الشروع فى إعادة البنية الأساسية المتداعية فلا نسمع سوى.. أين مشاريع الإنتاج؟
يتم تدشين مشاريع إنتاجية يكون الرد «لكن هذا لن يكفى كل صفوف العاطلين!»..
يتم تشغيل محطات كهرباء عملاقة.. يكون الرد.. «طب ليه الكهربا غالية؟» وكأن الدول الأخرى تقدمها مجانًا!
تداهمنا أخبار فى سنوات حكمه الأولى عن مواجهات عسكرية وشهداء.. نسمع عبارات سمجة.. «هم لسه مش قادرين يخلصوا على شوية عيال!» متناسين ما حدث منذ عام أو عامين وعرفه العالم بأن مصر تواجه منتخب إرهاب دوليًا مؤيدًا من جيوش نظامية متقدمة!
أين تطوير التعليم؟.. يقوم الرئيس باقتحام ملف التعليم وجودته وتتم الاستعانة بواحدٍ من أهم خبراء تطوير التعليم فى العالم د. طارق شوقى، فيتحالف الذين كانوا يملأون الدنيا ضجيجًا لتطوير التعليم مع مافيا الدروس الخصوصية والكتب الخارجية، ويتفقون جميعًا على التشبث بالنظم القديمة البالية! يحاول الرجل سنوات وينجح فى فرض تطوير نظم التعليم ثم يغادر المشهد!
إعداد جيل متعلم بطريقة صحيحة يستغرق أكثر من عقدين من الزمان! د. أحمد زويل- رحمه الله- فى حوار مسجل له قال صراحة: إن مصر لكى تطور التعليم عليها أن تبدأ من الأجيال الصغيرة، وحدد ذلك بمن هم أقل من سن ١٣ سنة، لكن الأجيال الشابة لا أمل فى إدراكها، ويجب توفيق أوضاعها فى سوق العمل كما هى! وأضيفُ على ذلك أن هذا يمكنه أن يحدث بشرط أن تتوفر- بجانب الإرادة السياسية- الإرادة الشعبية لذلك، لا أن يقف جموع المصريين أنفسهم فى صفوف مقاومة هذا التطور!
تتم زراعة مئات الآلاف من الأفدنة فنفاجأ بالسؤال: لكن هذا لم يقضِ على أزمة رغيف الخبز؟!
كيف يشعر شعبٌ بقيمة إضافة مليون فدان زراعى وهو يتزايد سنويًا بأكثر من مليونين ونصف المليون نسمة؟! أخرج السيسى مصر لأول مرة منذ عقود من المركز الأول عالميًا فى استيراد القمح فى إنجازٍ كبير، وبدلًا من أن نعترف بحجم الإنجاز، يفاجئنا نفس التململ فى صيغة سؤالٍ محبط: «لكن متى يحقق لنا الاكتفاء الذاتى؟!» لماذا لا يقتدى بما قاله الشيخ فلان إنه حين يأتى طعامنا من الفأس يكون قرارنا من الرأس؟!
لكنهم لا يريدون الاعتراف بأن الشيوخ أنفسهم مَن أجهضوا طموحات الدولة المصرية فى الوصول لهذه الغاية بغرسهم فى عقول المصريين أن تنظيم الأسرة حرام! ولا يريدون أن يعترفوا بأن نتيجة استمرار تمسك المصريين بما قاله الشيوخ هو أن سقف الطموحات لا بد وأن ينخفض- قسرًا وجبرًا- من الاكتفاء الذاتى التام إلى الاكتفاء الذاتى بنسبة معقولة، مع الركض لمحاولة تأمين احتياجات الأفواه المضافة كل عام لمدد زمنية ستة أشهر أو يزيد! وهذا إنجاز كبير لم يكن ممكنًا تحقيقه مع قيادات أخرى لا تمتلك إرادة سياسية! فالفارق أنه لولا رؤية وطنية مخلصة بزيادة الرقعة المزروعة قمحًا لعانى المصريون فى الحصول على رغيف الخبز! هذه هى الحقيقة!
هل يدرك المصريون المتململون كم يستغرق تغيير مفردات حالة وطن يبلغ تعداد سكانه أكثر من مائة مليون نسمة ويعانى- وقت تولى السيسى الرئاسة- من تحلل وفساد وانهيار جميع أسسه؟!
ملف الفساد الذى كان السلعة الرائجة لكل المتاجرين سابقًا، أخيرًا وجدنا الطريق الصحيح لمواجهته حين تبنى السيسى رؤية «رقمنة مصر» باعتبار ذلك السبيل الوحيد لالتهام الفساد تدريجيًا. لماذا تدريجيًا، ولماذا لا نطبق الحلول الباترة؟! يؤسفنى أن الإجابة جارحة! لأننا كمجتمع استمرأنا الفساد كأسلوب حياة! أصبح من مفردات حياتنا كمصريين نمارسه وكأنه من طبائع الأمور! فى المؤسسات التجارية والصناعية الخاصة والعامة، وبين الأفراد، وفى أقل وفى أكبر تفاصيل الحياة! كلنا فاسدون بدرجة ما! وكلنا فى حاجة إلى علاج لهذه الحالة، علاج جماعى! لذلك كان لا بد من تغيير كبير لنظم الإدارة، يبدأ عصر محاصرة الفساد بإبعاد العنصر البشرى وتحويل المعاملات الإدارية والوظيفية والمالية إلى معاملات إلكترونية!
كيف استقبل المصريون هذا الاتجاه وهم الذين لا يكفون عن التغنى بالشكوى من الفساد؟! كل مجموعة قاومت الرقمنة فى مجالها بعدة طرق، واتخذت من بعض مشاهد الارتباك الطبيعية فى بدء التحولات الكبرى حجة لمهاجمة المشروع بأكمله، ومحاولة الضغط على الإدارة للتراجع عن هذا التوجه! نعم هناك مشاهد ارتباك لا يمكن إنكارها، لكن حين نضعها فى الصورة الكلية لن تتعدى نسبتها أقل من واحد فى المائة، لكن يتم تسليط الضوء عليها وتضخيمها واستغلالها من جانب مجموعات المصالح!
الذين كانوا يتاجرون بمشاهد العشوائيات فى الصحافة والإعلام والدراما والسينما، تخلوا عن الرئيس مرتين، حين تصدى لتغيير هذه المشاهد من أرض مصر، تخلوا عنه فى المرة الأولى حين أشاحوا بوجوههم عن تلك النقلة الكبرى ولم يسلطوا أى ضوء عليها، كما كانوا يفعلون مع سابقاتها السلبية. ثم تخلوا عنه بشكلٍ أقسى، وأكثر فظاظة، حين قرر الرئيس البحث عن حلول جذرية وتجفيف منابع أطفال الشوارع بقرارات إدارية، تضبط علاقات الطلاق بما يضمن حقوق الأطفال! مثقفون كثر تخلوا عن الرئيس وانساقوا خلف دعاوى بعض رجال الدين فى إجهاض تنفيذ رؤية الرئيس!
عصا موسى لا يملكها إلا النبى موسى- صلى الله عليه وسلم- الرؤساء والحكام ليسوا أنبياءً، ولا يملكون لا عصى موسى- صلى الله عليه وسلم- ولا أى قدرة معجزة أخرى مما تفرد بها الأنبياء بمنح خالصة من الله، وكل غاية نطمح إليها أن يكون الرئيس أو الحاكم مخلصًا شريفًا له رؤية وإرادة سياسية.
والأمم والشعوب لا تتغير إلا بتوفر إرادتين لا تغنى إحداهما عن الأخرى، الإرادة الشعبية والإرادة السياسية، وليس المقصود بالإرادة هنا مجرد الكلمة أو التمنى الشفهى، إنما ترجمة الرغبة فى صورة مخطط عمل محدد. تطرح القيادة السياسية رؤيتها أمام الشعب، ثم إن أراد هذا الشعب تحقيق تلك الرؤية فعليه أن يتشارك مسئولية العمل، ولا ينتظر أن الرئيس يملك عصا موسى! يكون الحُكم صالحًا وطنيًا مخلصًا حين تتوفر لديه رؤية طموح طويلة المدى، مبنية على إدراك حقيقى لمفردات البلاد المطلوب تغييرها.
لكن بعض الشعوب يعتقد أن صلاح الحكم يعنى أن يقوم هذا الحكم منفردًا بكل شىء! وهذه إحدى آفات الثقافة المصرية الشعبية! مصريون كثيرون لديهم أوهام كاملة عن الدول المتقدمة، ودور كل من سلطات الحكم والأفراد! وكيف وصلت كل أمة إلى ما وصلت إليه! وما هو الثمن الذى دفعته كل أمة فى بدء سيرها فى طريق التغيير! لا يعرفون شيئًا عن ساعات العمل الحقيقية، والتزامات كل فرد تجاه بلاده ونسب الضرائب، وعدم السماح بوجود أى أموال خارج النطاق الرسمى الموثق الذى بمقتضاه تعرف الدولة ما يحصل عليه كل مواطن تحديدًا قاطعًا ومصدره! فكرة أن هناك حتى الآن اقتصادًا مصريًا موازيًا للاقتصاد الرسمى ويتجاوز نسبة تفوق الخمسين بالمائة من هذا الاقتصاد الرسمى، مع توجيه أسهم النقد للإدارة الحاكمة هو جنون خالص!
هل نحن شعب متزن فى فكرة الموازنة بين حجم دخولنا وما ننفقه، وتطلعاتنا الاستهلاكية، ونماذج تلك التطلعات، ونوعيتها، من حيث ضروريتها أو سفاهتها؟! هل يدرك المصريون أن قيمة العملة المحلية لا تحددها قرارات رسمية، إنما يحددها كل شعب بما ينتجه كل عام مقارنة بما يستهلكه؟! بما ينتجه وليس بما يحصل عليه الأفراد ماليًا بطرق غير مشروعة وخارجة عن السياق الرسمى أو «بالفهلوة أو التهليب»! حالة وجود شعب تكون فيه قلة منتجة تتحمل عبء أغلبية متكاسلة تعتمد على ابتزاز الإدارة هى حالة شاذة اقتصاديًا!
لذلك فإننى أقول إن النصف الأول من إجابة سؤال المتململين هو أن كثيرًا من المصريين لا يدركون بشكل واقعى حقيقة مفردات المشهد المصرى، سواء كانت مفردات اقتصادية أو اجتماعية، ولذلك فقد كانت طموحاتهم أعلى بكثير من هذا الواقع! بالإضافة إلى أنهم أسهموا بشكلٍ سلبى- عن طريق عدم المشاركة أو تقمص دور المحايدين فى قضايا تخصهم ولا يصلح فيها حيادية- تسبب فى بطء تنفيذ بعضٍ من رؤية إدارة الرئيس السيسى.
قطاع من هؤلاء كان لديهم ارتباك أو خلل معرفى بحقيقة مفردات الحالة المصرية، وتخيلوا أنهم قد أدوا ما عليهم بمجرد وقوفهم فى صفوف المنتخبين، وأن السيسى سوف يقوم فى أسابيع أو شهور أو سنوات معدودة باستخدام عصاه السحرية ليحول المصريين إلى مليونيرات!
ومما أسهم فى ذلك أن الجميع كان قد شرب حتى الثمالة مجموعة من الأساطير، أن مصر دولة غنية الموارد جدًا، وأن حكامها ينهبون هذه الموارد، وأن كل أزمة مصر فى إدارتها المالية وفى مدى نقاء وطهارة أيدى حكامها!
عفوًا لقد خدعوهم! وبعضهم استمرأ الخديعة ومررها وعاش عليها، وعاش على وهم أنه المواطن المظلوم منهوب الحق على طريقة فيلم «عايز حقى!»..
لم يستوعبوا أن مصر الآن دولة محدودة الموارد الاقتصادية، بل مع تزايد أعداد السكان قد أصبحت فقيرة الموارد! نصيب الفرد من المياه كان يومًا ما كبيرًا، ثم أصبح معقولًا، ثم أخذ فى التضاؤل حتى جذب مصر إلى دول الفقر المائى! نصيب الفرد من كل مورد طبيعى تضاءل وجذب مصر قسرًا إلى الدول الفقيرة فى هذا المورد أو ذاك!
والذين ينهبون مصر هم أبناؤها الذين يعيشون عالة على من يعملون! هم كل مافيا تمتص جزءًا من الموارد المالية دون وجه حق قانونى أو رسمى من مافيا الدروس الخصوصية إلى كل موظف مرتش إلى كل مواطن يدفع رشاوى للاستيلاء على ما ليس من حقه! القائمة طويلة بطول كل الوظائف والطوائف المهنية التى لم تدخل حتى الآن وبشكل تام فى برامج الرقمنة وبطول البلاد وامتداد حدودها الجغرافية وحتى اكتمال برامج الرقمنة!
أما نصف الإجابة الآخر فهو الأكثر خطورة.. إذا اعتبرنا أن انتخاب السيسى عام ٢٠١٤م هو عقد بين طرفين، كل طرف وافق على رؤية الطرف الآخر، فالآن وبعد عشر سنوات على توقيع هذا العقد، مَن الذى التزم ببنود العقد؟ ومَن تكاسل؟ ومَن نكث صراحة وعمل ضد الاتفاق؟!
إن ما اتفق وتوافق عليه الطرفان لم يكن كثيرًا أو معقدًا، لقد طلب المصريون من المشير عبدالفتاح السيسى أن يتقدم بأوراق ترشحه للرئاسة، فوافق موافقة مشروطة بأنه سوف يرهق المصريين عملًا وسوف يوقظهم مبكرًا للعمل، ثم حدد برنامجه الانتخابى فى هدف محدد «المشاركة فى إعادة بناء مصر» أو كما قال نصًا «نبنى بلدنا»، فاتفق وتوافق الطرفان على ذلك! لم يعدنا السيسى بأن يجعلنا أثرياء أو أن تبقى الأوضاع الفاسدة كما هى، أو أنه- وحسب التعبير الصعيدى- «هيضرب الأرض هتطلع بطيخ!» كان اتفاقًا على العمل من أجل إعادة بناء مصر بما يتفق مع طموحات أى مواطن شريف لبلاده ولنفسه ولأبنائه من بعده، وبما يتفق مع أى قيادة شريفة وطنية مخلصة!
والآن بعد عشر سنوات فهؤلاء الذين يريدون أن يقفزوا فوق كل ما أنجزه الرجل فى سبيل تحقيق ما اتفق الطرفان عليه، ويحتجون بأن أوضاعهم الحياتية لم تتغير التغيير الكبير الذى كانوا يطمحون إليه، هؤلاء مطالبون بالإجابة عن سؤالٍ مشروع: هل قاموا هم- بصفتهم أحد طرفى الاتفاق- بما تعهدوا به؟!
إننى أعتقد وبالمتابعة على الأرض أن كثيرًا منا قام بدورٍ مضاد تمامًا لما تم الاتفاق عليه، ولم يكتفِ هذا الكثير بالممارسة السلبية، إنما عمل بشكل حقيقى كموجة مضادة لما كان يقوم به الطرف الآخر- ممثلًا فى الرئيس وفريق عمله ومنفذى رؤيته- على أرض مصر!
فى أوقات التغييرات الكبرى، من ثورات أو كوارث طبيعية أو أوبئة أو حروب، تحدث فى المجتمعات تغييرات وتحركات وتبديل للأماكن فى نطاق الهرم الاجتماعى، وعادة ما تدفع الطبقة الوسطى الحقيقية التى تمثل عنصر أمان واستقرار المجتمعات القسط الأكبر من ثمن هذه التغييرات. فى مصر وبعد يوم ٢٨ يناير ٢٠١١م حدث هذا، ثم بعد انتخاب السيسى ووضعه كأولوية اجتماعية حفاظًا على الأمن المجتمعى دفعت الطبقة المتوسطة الثمن الأكبر فى سبيل إنقاذ الطبقات الدنيا والأكثر فقرًا، أو فى سبيل إنقاذ مصر مجتمعيًا! ثم كانت الأزمات الاقتصادية الدولية الواحدة تلو الأخرى تلقى بظلالها على تلك الطبقة الوسطى، ثم بناء مصر! كل ذلك لا يمكن إنكاره ولا يمكن وضعه أو اعتباره تقصيرًا من إدارة الرئيس أو عدم التزام بما اتفق عليه، إنما هو من طبائع الأمور والنتائج الحتمية التى تتزامن مع أى تغييرات كبرى، خاصة ما حدث فى مصر!
فى هذه المشاهد لا يمكن أن نلوم السيسى، ولا يمكن أن نلوم الطبقة الوسطى على تململها العادل، ما دام فى نطاقه الإنسانى المشروع، فحدوث ذلك حتمى، ورد فعل الطبقة الوسطى الإنسانى أيضًا حتمى، واحتمال الساسة لرد الفعل هذا أيضًا حتمى! كله فى إطار ديناميكية أى مجتمعات!
لكن ما ليس قدرًا حتميًا، وما يمكن اعتباره أعمالًا عدائية مثبطة لجهود الجميع ومقاومة لاستكمال الهدف المشترك وهو «التشارك فى بناء مصر»، هو ما قامت به طبقات وفئات وأفراد مصريون ممن وقعوا على الاتفاق المشترك!
فى السنوات الثلاث من أحداث يناير وحتى انتخاب السيسى، وربما فى أول عام أو أكثر من حكمه، تكونت فى مصر ومن مصريين عاديين- ربما يكونون ممن اصطفوا فى طوابير المنتخبين، وربما يكونون الآن ممن تسمع تنظيرهم عن أوضاع مصر وما لم يقدمه السيسى!- طبقة جديدة مما تتم تسميتهم «نوفو ريش» أو أغنياء الحروب، كونوا ثرواتهم الحرام على حساب هذه البلاد وخصمًا من مواردها وقدرتها على الحركة للأمام!
مِن هؤلاء مَن اتجهوا لتجارة السلاح غير المشروعة فى قرى ومحافظات الصعيد، أعتقد أن أكبر كميات سلاح تم بيعها لمواطنين مصريين قد تمت فى هذه الأعوام الثلاثة! من ينتمون لقرى الصعيد أو حتى أقاموا بإحدى قراه ليلة أو ليلتين فى هذه الفترة قطعًا يعرف بهذا.. من بعد صلاة المغرب وحتى قبل شروق الشمس لا تتوقف طلقات الرصاص! الكل يعلن على سبيل الردع امتلاكه للسلاح! أطفال امتلكوا أسلحة! لقد جنت مافيا السلاح فى مصر ثروات طائلة من أسر ثرية وأخرى فقيرة!
كثير من هؤلاء الذين دفعوا أموالًا طائلة لتجار السلاح قد تجدهم الآن فى صفوف المستفيدين من برنامج حياة كريمة! وكثير منهم على قدر لا بأس به من التعليم! ألم تكن هذه الأموال جديرًا بها أن تصب فى صالح بناء مصر؟! أو على أقل تقدير أن تصب فى صالح تعظيم جزء من موارد الدولة التى تم إنفاقها فى مشروع حياة كريمة!
كثير ممن ينتقدون الأوضاع حاليًا حرموا مصر من مليارات الجنيهات كل عام بأن ألقوها فى خزائن تجار المخدرات من حشيش إلى أحدث وأسوأ ما يتم ترويجه بين شباب جنوب مصر الآن «الشابو»، وهى مواد مخلقة مجهولة المصدر، للأسف ليست قاتلة، ولكنها مدمرة عصبيًا تترك لنا مسوخًا مشوهة، أو كائنات لا يؤمن فعلها، ولا يأمن الأب أو الأم ابنهما! مسوخًا تستنزف قطاعًا كبيرًا من موارد مصر المالية وقدراتها العلاجية.
فى ثلاث سنوات تكونت طبقة من «أغنياء الحروب» الذين منحوها الحياة وفتحوا لها مغارة على بابا المصرية، هم قطاعات كبيرة من مصريين ربما تراهم اليوم على رأس قوائم المتململين!
أزمة العملة الصعبة، أو الدولار تكررت كثيرًا فى سنوات حكم السيسى. تم توجيه الاتهامات الباطلة للرجل وإدارته بأنه يهدر ممتلكات مصر من الدولارات فى مشروعات غير ذات جدوى! هذه الاتهامات هى عبث بالعقول! أزمة الدولار فى مصر أن قطاعات من المصريين قررت أن تحاول القفز واللحاق بركاب الـ«نوفو ريش» من عصابات تجار السلاح والمخدرات وعصابات تجار العملة القدامى من أيام عصر مبارك! أصبح هناك مغامرون جدد من أجيال شابة جديدة يحلمون بالثراء الفاحش السريع! الفكرة بسيطة.. لو أننا وضعنا مثلًا أى سلعة، وليكن الملح بدل الدولار، وقلنا إن الملح أصبح سلعة ثمينة، سوف يختفى من الأسواق، وسوف تكدسه مجموعات بعينها، وسوف تلهث خلف الثراء منه أعداد كبيرة! تحول الدولار إلى سلعة ثمينة!
فى إحدى المناطق السياحية عرض سائق حافلة أن أغير له بعض اليوروهات المعدنية فاعتذرت له، لأن من معى من سائحين لم يكونوا من بلاد اليورو.. لكن ما علق به يستحق الدراسة والتأمل..قال بتلقائية صعيدية.. «أنا مش عايز الزباين تغيرلى.. عايزك إنت.. طب ما فيه ناس هنا بتغير وبسعر الصرافة كمان بس أنا مش عايز أخسر».. أنا عايزك تغيرلى بسعر السوق السودا!
أفراد وكيانات وشركات- فى قطاع السياحة، وفى قطاعات أخرى غيرها- يحصلون على بعض الدولارات قرروا مقاطعة البنوك، وحتى شركات الصرافة وتنشيط السوق السوداء الموازية حتى أنه فى بعض المواقع الصحفية الإلكترونية ستجد عنوانًا هزليًا، لكنه حقيقى «السعر حسب السوق السوداء!».
كم بالمائة ممن يحصلون على عملة صعبة أثناء عملهم يتوجهون بها إلى البنوك الوطنية، أو شركات الصرافة، وكم بالمائة انضموا طواعية للسوق السوداء للحصول على أعلى مقابل؟! أين تذهب تلك العملة الصعبة بعد أن يستولى عليها أباطرة السوق السوداء؟! فى الظروف العادية يمكن أن نتخيل الموضوع تجاريًا بحتًا، لكن فى ظل ما تواجهه مصر، فلا أستبعد أن تكون حملة ممنهجة وجزءًا من المعركة لإنهاك مصر اقتصاديًا، وإلا ما هو المنطق فى أن يكون الفارق يقرب من عشرة جنيهات فى سعر الدولار بين السعر الرسمى وبين السوق الموازية الحرام؟! هذا السعر المرتفع أعتقد أنه سعر سياسى، وهناك من يدفع لتنفيذ خطة معادية مدفوعة!
منذ عامين قامت بعض الأجهزة بمحاولة كبح جماح هذه السوق، لكنها فعلت هذا بشكل متشنج عصبى، أعتقد أنه أتى بمردود عكسى تمامًا! سائقو الحناطير أو سائقو التاكسى الذين يحصلون على بعض الدولارات كانوا يذهبون بها مباشرة إلى شركات الصرافة- التى من المفترض خضوعها للقانون والبنك المركزى وعملها بشكل شرعى- بدأوا يخافون من التوجه إليها بعد تلك الإجراءات وانضموا كرهًا إلى السوق السوداء!
بمَ نسمى هذا الجزء منا كمصريين؟ هذا الجزء منا الذى انضم طواعية لمحاربة مصر اقتصاديًا فى معارك الدولار؟ وبم نصف اتهاماته المتكررة ضد السيسى بأنه يهدر ممتلكات مصر الدولارية فيما لا يفيد؟!
فى المعارك الفكرية التجديدية التى خاضها الرئيس، كيف تصرف المصريون؟ ولماذا اعتبروا أن هذه معارك خاصة بالرئيس وحده؟! كم مرة خذلوه وتركوه وحيدًا يواجه تكتلات دينية لا يستهان بها وبقوتها فى الشارع؟ نعم الشعوب تحتاج لأوقات للتغيير، وهو نفسه قال ذلك صراحة، وإنه يفهم هذا ولا يتعجل، أو يدفع المصريين دفعًا للتغيير، لكننى هنا أتحدث عن القاطرة العقلية للمجتمع.. هل قامت بدورها حين هُيئت لمصر قيادة ذات رؤية فكرية تجديدية؟! بعد واقعة «الطلاق الشفهى» الشهيرة، التى تصرفت فيها بعض المؤسسات الدينية بشكل فظ فيه مصادرة لحق الإدارة السياسية للبلاد فى الاضطلاع بأمور الناس المجتمعية، بعد هذه الواقعة فجأة وجدت صفحات كثيرة تحمل أسماء متعلمين ومثقفين تمتلئ بصور قيادة دينية معينة وتمتلئ بعبارات المديح، وأنه شجاع وغيور على الدين.. إلخ.. كان ذلك تعريضًا مشينًا برئيسٍ يخوض معركة تغيير من أجل بلاده، ولا يخوض حربًا شخصية، وكان خذلانًا كبيرًا ربما تكون آثاره بعيدة المدى أخطر مما يتصور البعض!
عشر سنوات هى بالقطع أكبر كثيرًا من الإحاطة بكل تفاصيلها فى مقال واحد مهما تعددت أجزاؤه، لكننى عرضت فقط بعض الأمثلة والأسباب التى صاغت موقفى الضميرى من هذا الرجل الذى لا أخجل من إعلانه بصراحة.. إننى أرضى- كمواطن متابع عن كثب لما يجرى فى مصر طوال سنوات إدراكى- عن سيرة هذا الرجل فى الحكم، وأعتبر أنه قد كان ربما أكثر من توقعات أكثر المتفائلين به، كما أننى أعتقد أنه لا يزال فى ذروة توهجه وقدرته على العمل والعطاء.. لذلك فإننى أؤيد ترشحه لفترة رئاسية ثالثة بقوة.
إننى قطعًا لا أدعى أنه لا توجد أخطاء هنا أو هناك أو مشاهد ارتباك، لكننى أضعها فى إطار الصورة الكلية لمصر الآن، وأقارن تلك الصورة الكلية بما كانت عليه مصر عام ٢٠١٤م!
وأنهى حديثى بأنه من تمام العدل والمنطق أن يراجع كل مصرى موقفه منفصلًا.. أن يقف كل منا أمام مرآة ذاتية ويرى ماذا قدم لبلاده طوال عشر سنوات ماضية وهى الفترة التى نمنح أنفسنا حق تقييم إدارة السيسى للبلاد خلالها.. لقد قام الرجل بما ألزم نفسه به.. فهل قام كل منا بما يمليه عليه ضميره وانتماؤه لهذه البلاد؟!