كيف نُقلت أو سُرِقتْ علوم الطب والصيدلة المصرية قبل وبعد غزو الإسكندر؟
كيف انتقلت علوم الطب والصيدلة للعالم الخارجى قبل أن يحتل الإسكندر المقدونى مصر عام ٣٣٢ ق.م؟ إن كلمة السر الأولى هى «جزيرة كريت» من جزر بحر إيجة.
دون الدخول فى تفاصيل تاريخية محلية يونانية لا تهمنا فى هذا الموضع، يمكن القول إن جزيرة كريت قد ورثت ما يسمى الحضارة الهيلادية، والتى تسبق الحضارة الهيلينية أو ما يعرفها المعاصرون بالحضارة اليونانية. نشأت بين جزيرة كريت وبين مصر علاقات تجارية قوية قبل القرن ١٦ قبل الميلاد، ووصلت إلى شواطئ مصر أعداد كبيرة من أهل الجزيرة الذين انبهروا بمستوى الطب والصيدلة فى مصر، مقارنة بالحالة البدائية لهما فى كريت وما جاورها من الجزر اليونانية كما ذكر ذلك فى كتاباته الشاعر اليونانى الأشهر هوميروس وتأثرهم هناك بالسحر والشعوذة القادمين من شعوب آسيا الصغرى! انبهر أهل الجزيرة بالمدارس الطبية المصرية فحاول بعضهم الالتحاق بها ثم العودة إلى بلاده، حاملًا معه ما يستطيعه من مخطوطات طبية. فى القرنين من السادس عشر إلى الرابع عشر ق.م، تولت جزيرة كريت نقل بعض العلوم الطبية المصرية إلى جزر اليونان، ثم أضاف اليونانيون فلسفتهم إلى تلك العلوم المصرية، حتى تعرضت الجزيرة لغزو أجنبى وسلسلة من الهزات والزلازل الأرضية. قضت تلك العوامل على حضارة جزيرة كريت أو الحضارة المينوية!
ثم بدأت فى القرون التالية موجات هجرة من سكان جزر اليونان إلى مصر، كانت تتزايد حتى وصلت ذروتها فى القرن السابع قبل الميلاد. كونوا مستعمرة خاصة لهم فى شمال الدلتا سموها «نقراطيس».
التحق كثيرٌ من أبنائهم بالمدارس المصرية الطبية المنتشرة فى المعابد المصرية خاصة مدارس أون أو عين شمس ومنف وسايس فى الدلتا. بعد أن أتموا دراستهم الطب المصرى عادت أعداد منهم لموطنهم الأصلى فى مختلف الجزر والمدن اليونانية حاملين معهم نسخًا كاملة تقريبًا من جميع المؤلفات المصرية فى الطب والصيدلة وقاموا بنشرها فى بلادهم دون الإشارة إلى أصحابها الأصليين! ومن هذا التاريخ «من القرن السابع قبل الميلاد حتى غزو الإسكندر لمصر ٣٣٢ قبل الميلاد» تبدأ قصة محاولة سرقة علوم الطب والصيدلة المصرية!
يمكن أن نسمى هذه القرون الثلاثة فى بلاد وجزر اليونان أنها قرون المحاكاة والتقليد!
من عادوا إلى بلادهم بعد أن تخرجوا فى المدارس الطبية المصرية، ومعهم نسخ كاملة من المؤلفات المصرية الطبية، قرروا أن يحاكوا حضارة مصر الطبية فى الشكل المؤسسى التعليمى بخلاف المحاكاة العلمية، بأن قاموا بإنشاء العديد من المدارس الطبية هناك على غرار ما كان يفعله المصريون قبل ذلك بألفين وخمسمائة عام تقريبًا من إلحاق المدارس بالمعابد تمامًا مثل مدرسة «إمحوتب» فى منف. واختار اليونانيون لمعابدهم الطبية قمم التلال التى تحيطها الأشجار أو على منحدرات الجبال بالقرب من ينابيع المياه النقية أو المعدنية!
كان العالم المعاصر حتى سنوات قليلة مضت يعتقد أن «أسكليبيوس» الإغريقى هو إله الطب فى العالم وليس فقط إله الطب عند الإغريق! كان يعتقد أنه شخصية أسطورية، لكن هناك رأيًا قويًا الآن بأنه شخصية حقيقية وقد عاش فى القرن ١٢ أو ١١ قبل الميلاد فى مدينة أثينا. وأنه قد أتى لمصر وتعلم الطب فى مدرسة أون أو عين شمس ومدرسة منف، ثم عاد لمدينته أثينا لممارسة ما تعلمه فى مصر، ثم غادر إلى مدينة «إبيداوروس» حيث أنشأ بها معبدًا كبيرًا ألحق به مدرسة للطب، ومستشفى على غرار مدرسة إمحوتب الطبية وأطلق عليها اسم «الأسكليبيون»، وقام باختيار عدد من الكهنة لتعليمهم الطب! وهو الذى اختار شعار الثعبان الملتف حول العصا، وهو الشعار المأخوذ من شعار أطباء مصر، كما ذكرت فى الجزء الأول!.
أما «أبوقراط» الذى عاش فى القرنين الخامس والرابع ق.م، والذى يُعتبر أشهر أطباء الإغريق على الإطلاق وأحيانًا يُلقب بأبى الطب، فهو قد ولد فى جزيرة «كوس» وبدأ بدراسة الطب على يد والده الطبيب، لكنه قرر السفر إلى مصر ليتعلم الطب فى معاهدها الطبية الشهيرة بمدينتى «عين شمس ومنف»! ثم عاد إلى موطنه وأصبح أستاذًا فى مدرسة «أسكليبيون» قبل أن يؤسس مدرسته الطبية الشهيرة عام ٤٣٠ قبل الميلاد! وأصبح له عشرات التلاميذ من الأطباء، وكانت له كتبه الطبية الخاصة به!
«فيثاغورث» الذى عاش فى القرن السادس قبل الميلاد ولد فى مدينة «ساموس»، ثم توجه لدراسة الرياضيات والفلسفة والطب فى مدارس مصر قبل أن يعود إلى موطنه، واقتبس من علوم مصر الطبية ما تم تدشينه عن «المخ» باعتباره المسئول عن كل نشاطات الإنسان الحيوية، وظلت نظرياته مسيطرة على عقول أطباء العالم حتى أوائل القرن ١٦ الميلادى مع عصر النهضة!
«ثاليس» فى القرنين السابع والسادس درس فى مصر ثم عاد إلى مدينته «ميليتوس»، ثم أسس مدرسته الطبية فى مدينة «كوس»!
عشرات الأسماء تكتظ بها المراجع التاريخية عن أطباء يونانيين أسسوا مدارس طبية فى مدنهم وجزرهم اليونانية.. وفى سيرة كل واحدٍ منهم تجد نفس العبارات «ذهب إلى مصر ليدرس فى المدرسة الطبية.. ثم عاد لموطنه وأسس مدرسة طبية!» وبخلاف المدارس التى سميت بأسماء مؤسسيها الأطباء بعد عودتهم من مصر، فهناك مدارس تسمّت بالمنهج العلمى الذى سارت عليه والذى لم يكن إلا سيرًا على ما كان يسمى بقوانين الطب أو العلاج المصرية المختلفة!.
من تلك المدارس مدرسة «صقلية» فى القرن الخامس ق.م بجنوب إيطاليا، التى تميز أعضاؤها باستخدام جثث الحيوانات للشرح، كما اهتموا أيضًا بفكرة تنظيم الغذاء المصرية القديمة! من هذه الجزر والمدن اليونانية والإيطالية انتشرت العلوم الطبية المصرية والمدارس الطبية ووجدت طريقها إلى روما!.
بل إن أهم الحقائق أن البطالمة- اليونانيين الذين حكموا مصر من ٣٢٣ إلى ٣١ قبل الميلاد- بعد أن أنشأوا جامعة الإسكندرية ومدرستها الطبية قاموا بنقل الكثيرين من أساتذة وعلماء وأطباء عين شمس أو هليوبوليس إلى جامعتهم الجديدة! وأُمروا بترجمة كل علوم مصر الطبية إلى لغة البطالمة؛ لكى ترتدى تلك العلوم ثوبًا يونانيًا خالصًا دون الإشارة إلى مصدرها الأول!
كما أحضروا إليها كل الإغريق الذين سبق أن تعلموا فى مصر وعادوا لبلادهم ليعملوا فى جامعة الإسكندرية!
هذه الحقائق لم تُعرف أو تُعلن قبل نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بعد أن تم فك طلاسم اللغة المصرية بداية من شامبليون ١٨٢٢م!.
بعد عدة عقود من هذا التاريخ بدأ يتكون جيلٌ قليل العدد جدًا من علماء المصريات يلمون باللغة المصرية القديمة مثل هنرى برستد وآلان جاردنر وغيرهما، فهؤلاء هم من أماطوا اللثام عن هذه الحقائق بعد أن ترجموا البرديات الطبية المصرية فأصبح متاحًا أمامهم وجها العملة! البرديات الطبية المصرية والنصوص الطبية اليونانية، والأولى تسبق الثانية بقرونٍ طويلة! ثم أصبحت سِير علماء وأطباء اليونان مترجمة ومعروفة، وعُرف متى درسوا فى مصر وأين درسوا!
بدأت الأسرار تتكشف عن وجود تطابق شبه كامل بين البرديات المصرية، وما سطره أطباء اليونان بعدها بقرون طويلة!.
فمثلًا فى مؤلفات أبقراط «القرن الخامس ق.م» عن أمراض النساء نجد هذا التطابق مع ما ورد فى بردية كاهون الطبية التى كُتبت حوالى ١٩٠٠ق.م!
ما ورد فى بردية إدوين سميث الجراحية- التى يعود أصلها الأول للألفية الثالثة قبل الميلاد- عن إصابات الجمجمة بطريقة منظمة دقيقة يتطابق مع ما كتبه أبقراط عن إصابات الرأس!
وما ورد فى نفس البردية المصرية عن الأعراض الملاحظة فى الجسم المصاحبة لإصابات المعدة، تتطابق مع ما كتبه الطبيب والفيلسوف الإغريقى «ألكساندر تراليانوس»!.
ما ورد فى بردية إيبرس المصرية بخصوص الأورام يتشابه تمامًا مع ما كتبه فيما بعد الطبيب الرومانى «جالينوس» عن الأورام غير الطبيعية!
هذه كانت المشاهد التى سبقت غزو الإسكندر مصر عام ٣٣٢ق.م فيما يخص العلوم الطبية والصيدلانية المصرية، أكثر من خمسة وعشرين قرنًا من التفرد الطبى والصيدلى المصرى كونيًا، ثم عدة قرون سبقت الغزو قامت فيها مجموعات كبيرة العدد بالتوجه إلى المدارس الطبية المصرية للتعلم، ثم لنقل المخطوطات الطبية والصيدلانية المصرية إلى جزر ومدن اليونان، ومنها إلى مدن وجزر إيطاليا. فى هذه القرون تمت محاكاة المدارس المصرية الطبية فى اليونان من حيث الفكرة، والمؤسسية، وطرق التعليم، وأيضًا المواد العلمية الطبية! فى تلك القرون الفاصلة بين السابع والرابع قبل الميلاد، قام فلاسفة وأطباء يونانيون بتأليف كتب طبية- أو بالأدق نقلوها عن كتب الطب والصيدلة المصرية- هى التى بقى كثيرٌ منها للعصور المعاصرة وتمت ترجمتها واعتبرها العالم أنها أصول علوم الطب والصيدلة! حتى حين نقرأ مثلًا فى سِير علماء العصور الوسطى فيما يسمى بالحضارة الإسلامية- وسوف أتعرض لذلك فى الجزء الأخير من هذا الموضوع- نجد فى سيرة العالم المسلم مثلًا أنه قرأ بعض الفلسفة والطب والرياضة من مؤلفات فيثاغورث مثلًا من علماء الحضارة اليونانية، دون أن تتم أية إشارة إلى المصدر الأول الذى اقتبس منه هؤلاء علومهم وهو مصر ومدارسها الطبية! ويمكن ألا نلوم علماء العصور الوسطى على هذا التجاهل، لأنهم لم يكونوا يعلمون كل شىء عن الدور الأول للأم الشرعية لهذه العلوم! لكن اللوم التاريخى المنطقى والعادل إنما يُصبُّ فى تاريخ من قاموا بالاقتباس الأول دون أن يوثقوا بشكلٍ موضوعى ما اقتبسوه!
بعد غزو الإسكندر مصر ٣٣٢ ق.م، ثم موته المفاجئ وتقسيم إمبراطوريته وبدء بطليموس الأول اليونانى ما يُعرف بالعصر اليونانى فى مصر، قرر بطليموس الأول إنشاء جامعة أو أكاديمية الإسكندرية الشهيرة فى أحد قصوره بمنطقة الميناء الشرقى أو الحى الملكى! ضمت الجامعة عشر مدارس، منها مدرستان للطب والصيدلة. وصل عدد ما احتوته مكتبة الجامعة الكبرى من مؤلفات ٧٥٠ ألف مجلد من لفائف البردى فى شتى العلوم، على رأسها الطب والصيدلة. الأمين الأول للجامعة والذى أشرف على إنشائها «ديمتريوس الفاليرى» ٢٨٣ق.م جمع مؤلفات المكتبة من ثلاثة مصادر رئيسية، المؤلفات المصرية التى اقتبسها الإغريق ونسخوها باللغة اليونانية ونسبوها لأنفسهم، ومكتبة أرسطو، ثم المصدر الثالث وهو السطو على السفن التى ترسو فى ميناء الإسكندرية، حيث كان يقوم بمصادرة أى كتاب على ظهر أى سفينة، ويقوم بعمل عدة نسخ منه، يعطى صاحب الكتاب نسخة ويحتفظ بالأصل فى المكتبة! وحرصوا على ترجمة معظمها باللغة اليونانية لنشر الثقافة الإغريقية!.
احتوت الجامعة على معهد للتشريح خاصة تشريح الحيوانات، واهتموا بعلوم التغذية الصحية ووظائف الأعضاء، كما أنشأوا عددًا من المستشفيات واستمروا فى تشريح الأجساد البشرية لمدة قرن حتى بدأ استبدالها بأجساد حيوانات! وبقيت طريقة المصريين فى التحنيط بشق الجسم، واستخراج الأعضاء كما هى فى القرن الأول، ثم بدأ التحنيط يتخذ شكلًا ظاهريًا فقط بعد ذلك. ذاع صيت جامعة الإسكندرية ومدارسها الطبية فى أنحاء العالم الإغريقى حتى أصبح كل من يرغب فى امتهان الطب يكفيه فخرًا أنه تعلم فى مدارسها، ثم انتقلت تلك الشهرة إلى أنحاء الإمبراطورية الرومانية حتى قبل أن تصبح مصر ولاية رومانية ٣١ق.م!.
كان هذا هو الانتقال الثانى لعلوم الطب المصرية، فبعد انتقاله خارج مصر، عاد يرتدى ثوبًا إغريقيًا مزيفًا إلى الإسكندرية! ثم حدث الانتقال الثالث فى القرن الأول قبل الميلاد إلى روما عن طريق «أسكليبيوس»، الذى كان طبيبًا ذا شخصية قوية متفوقًا فى الطب والفسلفة وطبيبًا خاصًا للطبقة الراقية فى روما! هكذا يمكننا القول إن الإسكندرية فى العصر اليونانى- من ٣٣٢ إلى ٣١ قبل الميلاد- أصبحت قبلة العالم الطبية بلا منازع! وحين سقطت مدينتا أثينا وكورينث فى أيدى الرومان ١٤٦ق.م بدأت شمس روما الحضارية فى البزوغ، حتى نُقلت إليها علوم الطب مصرية الأصل يونانية الادعاء فى نهايات القرن الأول قبل الميلاد!
لكن يصدمنا التاريخ بما فعله البطالمة تجاه المصريين أصحاب الحق الأصيل فى البلاد وفى علومها! فلقد حُرم المصريون من الالتحاق بهذه الجامعة الكونية المتفردة! لقد تمتع بالمدينة وبجامعتها الغزاة اليونانيون واليهود! فلم يكن للمصريين أهل البلاد فى الإسكندرية سوى دور الخدم، أما باقى المصريين من جميع أنحاء مصر فلم يكن لهم حق الإقامة فى المدينة أكثر من عشرين يومًا يُطردون بعدها! لقد سن الغزاة قوانين جعلت من الإسكندرية مدينة مغلقة على الحكام اليونانيين واليهود وبعض الأجانب المنفيين والمتحدثين باليونانية، بينما حرم المصريون من التعلم فى جامعتها وأريد لهم جميعًا أن يكونوا إما مجرد خدم أو فلاحين يزرعون الأرض! لقد نصت قوانين تنظيم التعليم بالجامعة على أن يقتصر على قبول الطلاب الإغريق فقط وليس المصريين؛ للاحتفاظ بما ادعوه أنه نقاء إغريقى للجامعة وعلومها!.
مع تطبيق هذه السياسة الاستعمارية كان يمكن أن تندثر العلوم المصرية بين المصريين، وكان يمكن أن تندثر اللغة المصرية كلغة للعلوم، وكان يمكن أن يتخلف المصريون ويعودوا فى القرى إلى مراحل الطب البدائية الأولى بعد أن تم الاستيلاء على بلادهم وعلومهم، وتم التخطيط لحرمانهم من كل شىء! لكن هذا لم يحدث لوجود المعابد المصرية فى مختلف أرجاء مصر! لقد استمرت بعض معابد مصر فى تعليم علوم الطب والصيدلة، واحتفظت بمدارسها العريقة واستمرت فى قبول المصريين فى تلك المدارس، وتعليمهم بلغتهم المصرية وبأحد خطوطها «الخط الديموطيقى!» لقد قام البطالمة عن عمد بحجب علوم مصر عن العالم لكى يبرزوا مصر كدولة إغريقية خالصة، وربما يكونون قد نجحوا بالفعل فى ذلك خارجيًا حتى إن العالم أصبح مؤمنًا- وحتى بدايات القرن العشرين- بأن علوم الطب والصيدلة أصلها يونانى! لكن البطالمة فشلوا فى ذلك داخليًا فى أنحاء مصر، وكان سبب ذلك الفشل هو استمرار المعابد المصرية والتصاق المصريين بها، حيث قامت تلك المؤسسات الدينية بدور قومى ربما لم ينل حقه كاملًا من الضوء بعد! كان البطالمة يتزلفون لطبقة رجال الدين المصريين ويبحثون على عتبات المعابد عن شرعية حكم تضمن لهم استقرار حكمهم!، وبسبب هذا التزلف استمرت علوم مصر الطبية على قيد الحياة فى صورتها المصرية وبلغتها المصرية، واستمر بعض المصريين فى نقل تلك العلوم للأجيال اللاحقة! لدينا صورة نادرة من معبد كوم أمبو تصور لنا أدوات جراحية تعود للعصر البطلمى، ولا تختلف كثيرًا عن تلك الأدوات التى عثر عليها فى إحدى مقابر الدولة القديمة، أى قبل منظر معبد كوم أمبو بحوالى خمسة وعشرين قرنًا!.
كما استطاع بعض المصريين وفى حالات استثنائية نادرة أن يصلوا لمكانة سامية فى جامعة الإسكندرية مثل «سيرابيون الإسكندرى القرن الثانى ق.م»، «أبوللودوروس بداية القرن الثالث ق.م»، لكن ظل هذا هو الاستثناء!
بعد أن تحولت مصر إلى ولاية رومانية بعد هزيمة كليوباترا السابعة واستيلاء أوكتافيوس- الإمبراطور أغسطس- على مصر ٣١ق.م، حدثت تغيرات كبيرة على مكانة جامعة الإسكندرية. قبل ذلك كان قد تعلم فى جامعة الإسكندرية الطبية كثيرٌ من الرومان، واستطاع هؤلاء نقل العلوم الطبية- التى نسخها اليونانيون من المدارس المصرية ونسبوها لأنفسهم- إلى روما فاستطاعوا أن يحولوا الطب عند الرومان من البدائية والسحر إلى مستويات أعلى، بل وأطلقوا أسماء آلهة رومانية على آلهة الطب والشفاء مثل الإلهة «سالوس»، وهى نفسها «هيجيا» عند الإغريق والمقتبسة من الإلهة المصرية إيزيس! وفى أواخر القرن الثانى قبل الميلاد بدأ الرومان فى بناء معابد ملحقة بها مدارس طبية وأماكن استشفاء تمامًا كما رأوا فى الإسكندرية! كما استخدم الرومان أدوات جراحية مطابقة للمصرية مثل الملاقط والمعالق والمجسات والمشارط! بعد الغزو الرومانى لمصر أبقوا على المؤسسات التعليمية الطبية فى الإسكندرية وشجعوها، لكنها لم تعد فى نفس مكانتها مثل العصر الإغريقى، لأن الإمبراطور الرومانى الأول أغسطس قام بترحيل كثير من أساتذتها بالقوة إلى روما لتدريس علومهم فى الأكاديمية الجديدة هناك! وهؤلاء قاموا بنقل العلوم الطبية مصرية الأصل إلى روما! وظلت مدرسة الإسكندرية الطبية طوال العصر الرومانى والبيزنطى- من ٣١ ق.م إلى ٦٤٢م- تقوم بتدريس الطب المصرى القديم مترجمًا إلى اليونانية، بالإضافة إلى طب أبقراط وطب أرسطو وأبحاث أطباء الإسكندرية!
حدث تغير نوعى فى العصر الرومانى، فرغم استمرار سياسات التمييز ضد المصريين والتضييق عليهم وحرمانهم من التعلم بالإسكندرية، لكن الأمر لم يتخذ شكل القانون مثلما فعل البطالمة. ترتب على ذلك أن أصبحت الأغلبية المتاح لها التعلم هناك من الإغريق واليهود المتأغرقين، لكن استطاعت قلة من الأسر المصرية إلحاق أبنائهم بمدارس الإسكندرية، وبعض هؤلاء استطاعوا الالتحاق بمدرسة الطب هناك!
أما بالنسبة لغالبية المصريين، فقد ظلوا يتحدثون اللغة المصرية وكتبوها بالخط الديموطيقى بالرغم من صعوبته لعدم وجود حروف متحركة به، لذلك أخذوا حروف اللغة اليونانية وأضافوا إليها سبعة حروف ديموطيقية وسميت اللغة القبطية! واستمروا فى دراسة وممارسة علوم الطب فى المدارس الملحقة بالمعابد المصرية، وكان ذلك سببًا فى بقاء علمى الطب والصيدلة فى مصر بين المصريين حتى بدأ تحول المصريين إلى المسيحيية سرا، بدءًا من حوالى ٦٠م.
ظهرت المسيحية فى مصر حوالى عام ٦٤ ميلادية وسط هذا المشهد، جامعة الإسكندرية ومدارسها بها بعض المصريين وغالبية من الإغريق والرومان واليهود، ومصريون يتعلمون العلوم المصرية الطبية فى المعابد، وواصل المصريون براعتهم فى علوم الطب والتشريح والصيدلة التى توارثوها عن أجدادهم!.
فى عام ٦٥م أسس القديس مرقس مدرسة أخرى فى الإسكندرية أولًا لتدريس علوم اللاهوت الدينية وهى التى تُعرف بالمدرسة القبطية اللاهوتية، لكنها توسعت فى علومها وضمت إليها باقى العلوم المصرية القديمة ومنها علوم الطب والصيدلة! رغم انغماس المسيحيين المصريين فى صراعهم الدينى ضد أتباع الديانات القديمة، وتعرضهم لموجات اضطهاد فى أول ثلاثة قرون بعد الميلاد، ثم قيامهم باضطهاد بقايا أتباع تلك الديانات بعد أن أصبحت المسيحية هى الديانة الرسمية السائدة، رغم ذلك فقد بقيت علوم الطب والصيدلة مزدهرة فى الإسكندرية واتخذت وجهًا مصريًا، وكانت المدرسة القبطية هى مركز هذا الازدهار حتى نهايات القرن الرابع الميلادى! أصبحت هناك المدرسة القديمة الوثنية بجانب المدرسة القبطية، مما أعاد للإسكندرية بعض زخمها العلمى الطبى فى محيطها القديم!
بعد تحول الإمبراطورية للمسيحية حدث تطور فريد فى علوم الطب والصيدلة! ففى مصر استمر التوهج العلمى الطبى رغم انتقال مقر الجامعة القبطية فى نهايات القرن الرابع إلى أحد الأديرة، بينما حدثت انتكاسة علمية طبية فى أنحاء الإمبراطورية، حيث أهملت النظريات الطبية العلمية هناك حتى بدأ الطب يتحول فى بعض المراحل الزمنية إلى غموض كامل، وسُجنت الثقافة العلمية داخل جدران الأديرة، بينما فى مصر كان الحامى لتلك العلوم هو أنها كانت علومًا مصرية عريقة ولم تكن عَرضية فلم يلق بها رجال الدين إلى الكهوف الغامضة مثلما حدث فى أوروبا، ومثّل مقدمة لدخولها عصور الظلام أو العصور الوسطى!.
فى القرون الأربعة الأولى عادت الإسكندرية إلى سابق عهدها العلمى بسيادة مصرية طبية وأصبح كثيرٌ من الطلاب يفدون إليها مرة أخرى من سوريا، واليونان وبيزنطة وإثيوبيا والهند! ولم يؤثر فى كفاءتها ما قام به البيزنطيون عام ٣٣٠م بنقل عددٍ من خيرة علماء مصر وأساتذة الطب بها إلى القسطنطينية فى ذروة الصراعات الدينية، وتوزيعهم بين المدارس الطبية التى أنشأوها هناك!.
فى نهايات القرن الرابع الميلادى قام الحاكم الرومانى لمصر بغلق الجامعة القبطية بالإسكندرية بعد أن ظلت لمدة تزيد على ثلاثة قرون مركزًا لتدريس علوم مصر، وعلى رأسها الطب والصيدلة والرياضيات وغيرها! قرر المصريون نقل جامعتهم إلى دير الأنبا مقار فى وادى النطرون، وسرعان ما تطورت هناك حتى غدت فى سنوات قليلة من أقوى جامعات العالم القديم. فتحت تلك الجامعة أبوابها لكل طوائف المصريين، وأحيت ما كان سائدًا فى مصر القديمة من إتاحة التعليم للذكور والإناث! بل وفتحت أبوابها لبعض العلماء والفلاسفة الوثنيين!.
هكذا استمرت مصر- فى الإسكندرية وفى جامعة وادى النطرون- كعبة للطلاب من كل مكان وذاعت رسالة طبية شهيرة ألفها أحد أطباء الإسكندرية «القس هارون» وظلت مرجعًا علميًا حتى غزو العرب مصر! وأقيم فى حصن بابليون مستشفى كبير عام ٤٦٠م! وتحول بعض الرهبان إلى تعلم بعض علوم الطب والصيدلة بعد أن كانوا منغمسين تمامًا فى الصراع الدينى!
من أشهر أطباء مصر فى هذه الفترة «زابولون» القبطى ٣٧٠م، «كلوثوس بن أنطوان حاكم الفيوم» الذى قتله الرومان عام ٢٩٥م، «يؤانس» أو «هنس» القبطى المتخصص فى طب العيون، «هيلياس» فى القرن الخامس، «أبا كيرلس» قبيل الغزو العربى، وغيرهم!
هذا هو المشهد الذى سبق الغزو العربى مباشرة عام ٦٤٢م!