«نقابة النشالين تهنئ جلالة الملك ومفاجأة صادمة لأصحاب الفضيلة!»
صدمة للمدافعين عن الحقبة الملكية!
«كتاب لطبيب إنجليزىيوثق لـ«حياة» المصريين فى الأربعينيات!» 2
١٧٩٨م، ١٨٠٥م، ١٨٨٢م، ١٩١٩م، ١٩٣٦م، ١٩٥٢م.. هذه تواريخ الأحداث السياسية الكبرى التى صاغت تاريخ مصر المعاصر، بدءًا بالحملة الفرنسية ووصولًا لآخرها ثورة يوليو، والذى بقى مثارًا للجدل الدائم، والذى ينشط سنويًا فى ذكراها وهو تاريخ ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م. ففى شهر يوليو كل عام ما زلنا نحيا زخم التباين الشديد فى النظر لذلك الحدث الكبير، بين أنصار يصلون بالحدث ومن قاموا به لدرجة القداسة، ومهاجمين يرجمون الحدث وأبطاله ويضعونهم كسبب أوحد لكل نقيصة أو مشهد انكسار أو تراجع- على كل الأصعدة وفى كل مجال- مرت به مصر حتى الآن!
فريقٌ حوّل الأحداث السياسية بصوابها وخطئها والقائمين بها فى درجة أقرب للعقيدة أو الأيديولوجيا ورفض رفضًا قاطعًا إدانة بعض السياسات أو القرارات التى ثبت خطأها، رغم إمكانية تلمس الأعذار لمن أخطأوا وأن ما فعلوه كان هو سقف قدراتهم العلمية وخبراتهم، ونتيجة ما تعرضوا له من ضغوط مختلفة، وأيضًا كان هو سقف قدرات المصريين آنذاك!
وفريقٌ يصر على أن يقنع المصريين بأنهم قبل ذلك الحدث كانوا يحيون أزهى عصور المدنية والتحضر، وأن الفلاح كان يصر على ممارسة الديمقراطية، وأن مصر كانت قطعة من أوروبا، وأن الحلاقين مثلًا كانوا من دولة أوروبية، والإسكافية كانوا من بلدٍ أوروبى آخر.. إلخ!
ساعة عدل واحدة.. هذا هو العنوان الذى اختاره الطبيب الإنجليزى سيسيل ألبورت لكتابه الصادر عام ١٩٤٦ والذى أعرض لأهم ما جاء به وصفًا لأحوال مصر والمصريين. يقول مؤلف الكتاب إنه استوحى العنوان من سكرتير الأمير محمد على، ولى عهد مصر، والذى استقاه من المقولة المنسوبة للنبى «صلى الله عليه وسلم»: «ساعة عدل واحدة تعدل سبعين عامًا من الصلاة المقبولة!». جاء هذا الطبيب إلى مصر عام ١٩٣٧ وعمل بمستشفياتها حتى عام ١٩٤٢م ثم غادر إلى كينيا حيث شرع فى كتابة كتابه. يقول إنه استقى مادة الكتاب من خلاصة تسع مذكرات كتبها أثناء تواجده بمصر، واستعان لكتابتها بمستندات جمعها فى شنطة صغيرة بالإضافة إلى مشاهداته العينية.. هو كتاب أشبه بطريقة علماء الحملة الفرنسية فى كتابهم «وصف مصر» وبه يوميات على طريقة الجبرتى.. يقول إنه مدين للعديد من الكتب التى قرأها عن مصر بالإضافة للمستندات.
أما مترجم الكتاب سمير محفوظ بشير فيقول عن أسباب اختياره لترجمة الكتاب «.. هو طبيب إنجليزى عمل أستاذًا للطب الإكلينيكى بمستشفى قصر العينى بين عامى ١٩٣٧ و١٩٤٣م. ينصب موضوع هذا الكتاب كله على دفاع هذا الرجل المستميت عن الفلاحين المصريين الفقراء خاصة المرضى منهم ويوجه خطابه ومظلمته هذه مخاطبًا الرأى العام فى بريطانيا وأمريكا. إن دفاعه هذا أشبه بملحمة دون كيشوت التى صارع فيها طواحين الهواء.. هذا الطبيب من جنس المستعمرين الذين أرهقوا مصر أكثر من سبعين عامًا، مع ذلك هو ينتقد ساسة بلاده بعنف شديد، ويبدى إعجابًا غريبًا بالإنسان المصرى.. الكاتب يتمتع بروح مرحة بالرغم من معاناته وقتاله بمفرده ضد العديد من الفئات منها زملاؤه أساتذة كلية الطب ورؤساؤه والباشوات وساسة بلاده والساسة المصريون.. ما ورد فى هذا الكتاب هو ما شاهده بعينيه ولمسه بحواسه وجرح مشاعره وألهب فؤاده..».
عنوان هذا الجزء ليس من باب الدعابة أو التهكم، لكنه واقعة حقيقية أوردها المؤلف وأورد مصدرها الصحفى، الذى قام بنشر هذا الخطاب الموجّه من نقابة النشالين! يصدمنا الكتاب بوقائع ربما لم تخطر على بال أحدنا عن الأعداد التى مارست «النشل» فى القاهرة وحدها، وعن الأسباب الحقيقية لذلك. أورد الكتاب أرقامًا من مصادر رسمية عن أعداد الأطفال الذين كانوا يُختطفون فى سن الثالثة أو الرابعة ثم يُزج بهم فى أتون عصابات محترفة.. بخلاف أطفال الشوارع والرقم الذى أورده!
يقول المؤلف نصًا: «فى عام ١٩٤٢م كان عدد الزيجات التى عُقدت ٢٢٦٥٧٦ أى ما يزيد على ربع مليون حالة زواج. بينما كانت حالات الطلاق فى نفس العام ٦٨٠٥٥ حالة. بما يعنى نسبة تزيد على ٢٥٪! وأدى هذا إلى تواجد ٦٣ ألف طفل ملقى فى الشوارع، ينشب المرض فى أجسادهم ويحولهم فى الواقع إلى مجرمين قساة القلوب».
ملاحظة.. هذا الرقم نسبة إلى عدد سكان مصر آنذاك «١٧ مليون نسمة» يوازى اليوم ما يقارب من ٤٠٠ ألف طفل من أطفال الشوارع!
يستكمل المؤلف شهادته قائلًا: «لسنواتٍ دُرب صبية الشوارع هؤلاء ليكونوا نشالين. هناك كشف أعلن عنه البوليس، فقد عثر على مدرسة نظامية لتدريس النشل، فى حجرة تدريس النشل وجدت سبورة رُسم عليها بعض التخطيطات التى توضح كيفية نشل الجيوب بطريقة علمية. مشابهين فى ذلك ما كان يُرسم على السبورة المنتشرة فى عنابر مستشفيات جامعة القاهرة موضحًا فيها كيف يستمع طلبة الطب إلى النبضات المختلفة للقلب!».
«فى عام ١٩٤٠م قبض على ٢٤٠ نشالًا وأرسلوهم لأماكن عزل مختلفة ليقضوا فيها الثلاثة أيام الخاصة بعيد الأضحى.. معظم النشالين امتهنوا عملهم هذا عندما ألقى الأزواج بأمهاتهم فى عرض الشارع لتحل محلهن زوجات أصغر. هؤلاء النشالون يشعرون دائمًا بالعزة والفخار بمهنتهم تلك».
خطاب نقابة النشالين الموجه لجلالة الملك لم يكن خيالًا جامحًا بل واقعة أوردها الكاتب.. «عندما عاد المرحوم سعد زغلول باشا من نفيه أرسل نشالو القاهرة بيانًا للصحف مفاده أنهم لن يمارسوا مهنتهم فى يوم عودة زعيمهم الوفدى عرفانًا وتقديرًا لما أداه لبلاده من خدمات جليلة!».
«ذكرت جريدة الإيجبشيان ميل أن هناك خطابًا مماثلًا أرسلته نقابة النشالين فى مناسبة زواج الملك فاروق.. وجاء فيه أنهم وعدوا بأن يمتنعوا عن عملهم لمدة ثلاثة أيام احتفالًا بزواج مليكهم المحبوب!».
كان هناك مصدران للحصول على أطفال لضمهم لمدارس وعصابات النشل، المصدر الأول هو أطفال الشوارع، أما المصدر الثانى فيذكره الكاتب قائلًا: «فى ٢٧ نوفمبر ١٩٣٩م قبض بوليس القاهرة على عصابة خطيرة تخصصت فى خطف الأطفال من القرى وتدريبهم ليصبحوا نشالين محترفين. كشفت التحقيقات عن أن هؤلاء الأطفال كان يتم بيعهم من نشالين إلى نشالين آخرين. هؤلاء الضحايا لا يعرفون ذويهم لأنهم اُختطفوا وهم فى سن الثالثة أو الرابعة من العمر، وقد أُعطيت لهم دروس مكثفة فى طرق النشل، ومن يفشل منهم فى التعلم يعاقب بقسوة ويحرم من الطعام لفترات طويلة!».
«إن الزائر الأجنبى لمصر والذى يُصدم من مناظر القذارة التى ترتع فيها المدن الكبرى سوف يشاهد نساء بائسات يملأن الشوارع، وسوف يرى صبية صغارًا يمدون أيديهم طالبين الصدقة.. وكثيرًا ما رأيتُ أطفالًا وجوههم كوجوه الملائكة وهم يتسولون فى الشوارع بهلاهيلهم الممزقة!».
أفاض الكاتب بوصفه طبيبًا فى وصف سوء حال القطاع الطبى فى مصر وسوء معاملة المرضى الفقراء الذين يمثلون غالبية المصريين لدرجة تصل إلى التعدى بالضرب: «فى النصف الثانى من عام ١٩٤٢م كان عدد حالات التيفوس المبلغ عنها ٣٢ ألف حالة فى مصر كلها، وكانت نسبة الوفيات ٣٠٪ من عدد المرضى. فى المراحل الأولى من العدوى كان من المعتاد أن ترى مريضين وقد احتلا سريرًا واحدًا، أو أن يوضع أربعة مرضى فى سريرين ملتصقين، كانوا يتصارعون وسقط أحدهم ومات فى الحال وآخر جُرح رأسه.. تعرض أعضاء لجنة مكافحة مرض التيفوس الأمريكية لصدمة عنيفة حينما شاهدوا ما يحدث فى مستشفى حميات العباسية!.. تقضى البلهارسيا على الآلاف كل عام، فى القرى خصوصًا فى الدلتا يعانى من ٩٠٪ إلى ١٠٠٪ كل عام من هذا المرض!».
ومنحنا الكاتب وصفًا دقيقًا عن أحوال أكبر مستشفيات القاهرة آنذاك: «المستشفيات الجامعية فى القاهرة ثلاثة، مستشفى قصر العينى وهو الأقدم به ٩٦٧ سريرًا، ومستشفى فؤاد الأول به ١١٥١ سريرًا، ومستشفى الأطفال وبه ١٥٠ سريرًا.. فكرة بناء مستشفى فؤاد الأول تعود لمستر ريتشارد، أستاذ الجراحة قبل سنة ١٩١٤م، وبدأ فى تنفيذ مشروعه وتعهدت مؤسسة إنجليزية بإعداد الرسوم الهندسية، لكن مخططه تعرض للهجوم ولم يبدأ المشروع إلا فى عام ١٩٢٩ واستمر حتى عام ١٩٣٧م بمبالغ ضخمة بلغت مليونين من الجنيهات.. يؤسفنى القول إن المستشفى الجديد ليس إلا فيلًا أبيض أو كأنما ضريح جسيم أكثر من كونه مستشفى. التجهيزات داخل المستشفى مزرية وسيئة وأحوال المستشفى تؤدى إلى انتشار حمى التيفوس بين المرضى وذويهم خاصة فى الشتاء.. برد قارس دون أن يكون هناك نظام تدفئة يؤدى إلى انتشار الالتهاب الرئوى بين المرضى.. جحافل من الذباب تشن هجومًا على المرضى وتنقل الدوسنتاريا فى الصيف.. الطبقة العليا والأوروبيون لا يرسلون خدمهم إلى ذلك المستشفى ويفضلون إلحاقهم بمستشفيات خاصة. السفرجى الخاص بى رفض أن يرسل زوجته إلى مستشفى فؤاد الأول أو مستشفى قصر العينى.. عويل النساء تسمعه باستمرار.. الفلاحون لديهم قولٌ مأثور من يدخل قصر العينى مفقود ومن يخرج منه مولود..!».
خصص المؤلف الطبيب فصلًا كاملًا لوصف ما كان يتعرض له مرضى المصريين الفقراء الذين لا يجدون مفرًا من اللجوء لمستشفيات القاهرة الحكومية، وخصّ مستشفى فؤاد الأول بمزيدٍ من التفصيل عمن سماهم عصابات: «فى أبريل ١٩٤٢م أبلغتُ مكرم باشا عبيد، وزير المالية آنذاك، أن مستشفى فؤاد الأول يمثل تهديدًا بالغًا لحياة وصحة المرضى الفقراء ويجب أن يُغلق فورًا.. ولم يكن ذلك بسبب ما يتعرضون له من سوء معاملة الممرضين، لكنهم يلتقطون بكل سهولة أمراضًا أخرى داخل المستشفى مثل الدوسنتاريا والالتهاب الرؤى.. أكثر الأمور المقززة التى يتعرض لها المرضى هو الابتزاز الذى يتعرض له الفلاحون التعساء الفقراء على يد التمرجية.. هؤلاء ليسوا إلا رجال عصابات من أسوأ الأنواع.. أجور هؤلاء تتراوح من ٢ إلى ٤ جنيهات شهريًا، لكن بالرغم من أجورهم الضئيلة يتهافتون على تلك الوظيفة بسبب ما يسلبونه من المرضى.. المرضى يجب أن يدفعوا مقابل الدواء أو الأكل وإلا سوف يغادرون المستشفى وهم مرضى أو نصف جائعين أو مضروبون.. أحد المرضى قادوه إلى قسم خارجى وفى الطريق اعتدوا عليه ضربًا وسرقوه.. ممرضٌ يمسك مرتبة عليها صبى مصاب بجروح خطيرة فى ساقه ويلقى به على الأرض.. عصابات تسرق مهمات المستشفى وأجهزتها وأدويتها.. بمجرد قدومى إلى مصر أخبرونى أنه باستطاعتى شراء كل الأدوية والحقن وكل الأدوات الطبية من المقاهى المنتشرة فى بولاق.. وجميعها مسروقة من قصر العينى.. وتلك العصابات تبيع ما تسرقه حتى تصل به إلى الصعيد.. سرق تمرجى أرغفة خبز وخبأها فى ملاءة سرير ووضعها فى المسجد الصغير الملحق بالمستشفى، رآه آخر فسرقها وضبطه السارق الأول وتشاجرا! قبل مغادرتى القاهرة سرقت عصابات التمرجية إحدى عشرة مروحة كهربائية و٩٠٠ متر من الأسلاك التى تربط بين الساعات الكهربائية الأربع داخل المستشفى.. يمثلون خطرًا على حياة المرضى، فقد لاحظنا أن عددًا من مرضى السكر على مشارف الموت واكتشفنا لاحقًا أن إحدى عصابات التمرجية يسحب الأنسولين بحقنة من الزجاجات ذات الغطاء المطاطى ويستبدله بالماء!.. أطباء يتقاضون رشاوى من المرضى.. أطباء يتقاضون خمسين قرشًا من المريض حتى يرسلوه إلى المستشفى، وجراحون يتقاضون رشوة جنيهين أو ثلاثة حتى يرسلوه إلى المستشفى لتجرى له عملية جراحية! طبيب أسنان يرد إليه طلبة طب الأسنان قبل الامتحانات فيصنع فى أسنانهم حفرة صغيرة ثم يعالجهم بأجرٍ مرتفع أربعين جنيهًا، ثم ينجح هؤلاء الطلبة بتفوق فى امتحان نهاية العام!».
كيف كانت تتعاطى الصحف مع معاناة المصريين فى القطاع الطبى مثلًا؟! سؤال يستحق الإشارة إليه، ولم يخلُ الكتاب من ذكر وقائع كثيرة فى سبيل الإجابة عليه منها تلك الواقعة: «فى صيف عام ١٩٤٣م وجد أحد مساعدىّ فى أحد شوارع جاردن سيتى الفاخرة رجلًا بملابس رثة يرقد على الرصيف أمام منزل يقطن فيه أحد نواب البرلمان. كان بائعًا متجولًا يعانى من عدة أمراض، منها الأنيميا والسل والالتهاب البريونى.. كان راقدًا فى مكانه هذا لمدة أسبوع.. قال البائعون فى المحلات المجاورة إنهم أخطروا الكراكون وكذلك رجل البوليس وأخطروا الإسعاف تليفونيًا لإرسال سيارة إسعاف تحمله.. انصرف مساعدى بعدما استعلم عن حالته واطمأن بأن الإسعاف فى طريقها.. بعد أسبوع كامل أصيب مساعدى بالذعر حينما وجد نفس الرجل ملقى على الرصيف بنفس وضعه السابق.. أخبره البائعون أن الإسعاف رفض حمله أو حتى لمسه وكذلك البوليس!.. كتب مساعدى بعد ذلك خطابًا إلى الصحف المصرية واصفًا ما رآه.. نشرت الصحف خطابه بعد أن حذفت الجزء الخاص برفض الإسعاف والبوليس التعامل مع الرجل! تتعمد الصحف المصرية عدم نشر الأمور التى تخص الشعب والتى تعتبر نقدًا للمسئولين الحكوميين.. لو كان هذا الرجل كلبًا لسارع المسئولون فى مستشفى رعاية الحيوانات لإسعافه، لكن من الواضح أن حياة الفقير المصرى لا تعدل أو توازى حياة جاموسة أو حتى جمل!».
ربما يكون من المنصف لمؤلف الكتاب أن أوضح أن الكاتب لم يكن يقصد بعنوان كتابه «ساعة عدل» أن يروج لأفكار اشتراكية مثلًا، لأنه انتقد فى أكثر من موضع ممارسات الحكم الاشتراكى الفاشتى كما وصفه، فلم يقصد مثلًا أن يتساوى الجميع فى الممتلكات، وانتقد الدعايات والوعود الألمانية للمصريين أثناء الحرب بتقسيم الأراضى بين الفلاحين. لكنه كان يوجه انتقاداته فى المقام الأول لبلاده واتهمها صراحة بعدم قيامها بتقديم أى دعم ثقافى للمصريين طوال حكمها لمصر بشكل مباشر، حيث يقول: «لم يتلق المصريون أى دعم ثقافى أو تدريب على يد الإنجليز طوال مدة حكمهم المباشر لهذه البلاد، وما يحظى به بعض المصريين من مستويات ثقافية مرتفعة أصلها فرنسى..».
وهذه الرؤية منطقية جدًا. فليس العدل أن نطالب بأن يتساوى الجميع فيما يملكون أو يصلون إليه من درجات علمية أو وظائف، لأن هذا ضد الطبيعة الإنسانية. فالبشر مختلفون فى طاقاتهم وقدراتهم ومواهبهم وطموحاتهم وما يمكن أن يصلوا إليه عبر سنوات كفاحهم. ومن الطبيعى أن تكون لكل مجتمع قاطرته الفكرية والثقافية والعلمية والاقتصادية التى تقوده. من الطبيعى أن يكون هناك أصحاب رءوس أموال ومصانع حتى يكون هناك عمال ومهندسون وصناعة ونهضة، ومن المنطقى أن يكون هناك مفكرون ومثقفون بنسبة معينة من المجتمع. فالعدل الحقيقى الذى قصده المؤلف هو أن تتمتع جميع الطبقات بحماية القانون، وأن يحصل الجميع على دخول تتناسب مع ما يبذلونه من جهد، وأن يكون لدى الدولة قانون يضمن حماية صحية ومجتمعية للجميع.. أن يخضع الحكام وأصحاب رءوس الأموال للمساءلة القانونية، ولا يكون هناك حكمٌ مطلق وفسادٌ مطلقٌ.. أن يكون الهرم المجتمعى صحيحًا وصحيًا وتكون العلاقات بين مختلف طبقاته علاقات صحيحة.
مفاجأة هذا الجزء من الكتاب وثيقة سوف تصدم كثيرًا من أصحاب الفضيلة ممن يتولون قيادة بعض المؤسسات الدينية اليوم! مفاجأة تنصف الرئيس عبدالفتاح السيسى ورؤيته التى طرحها بشجاعة للتصدى لإحدى القضايا المجتمعية المأساوية المشينة التى وجدها فى انتظاره عند توليه منصبه! كلنا يذكر ظاهرة «أطفال الشوارع» التى كانت تمثل عارًا مجتمعيًا مصريًا تراكم فى العقد الأخير من سنوات حكم مبارك! أطفال تم إلقاؤهم فى الشارع فكبروا أسفل الكبارى وصارعوا حيوانات الشوارع للحصول على طعامهم وتحولوا إلى أعضاء فى عصابات خارج السيطرة الأمنية! تمامًا كما حدث فى أربعينيات القرن الماضى، وكما ذكر المؤلف الإنجليزى أن عددهم وصل إلى ٦٣ ألفًا فى دولة يبلغ تعداد سكانها آنذاك ١٧ مليون نسمة بما يعادل ٤٠٠ ألف الآن! بدراسة الظاهرة وقتها وجِدَ أن غالبية هؤلاء هم نتاج حالات الطلاق المرتفعة التى وصلت إلى حوالى ٢٥٪ من حالات الزواج وقتها. فى بداية تولى السيسى حكم مصر كانت نسبة الطلاق تتجاوز ٣٥٪، ما يعنى أن الظاهرة كانت على درجة أخطر من أربعينيات القرن الماضى! اقترح الرئيس السيسى وضع قيود على الرجل المصرى فى الطلاق بأن يُمنع الطلاق الشفهى ولا يُعتد به، ولا يُعتد إلا بالطلاق القانونى أمام القاضى أو المأذون، وبعد ضمان الالتزام بحقوق الأطفال! حين أعلن الرئيس عن رؤيته انتفض بعض أصحاب الفضيلة واجتمعوا فى وقت قياسى ليستبقوا تنفيذ الرئيس لرؤيته المشروعة كرئيس للسلطة التنفيذية، وأصدروا بياناتهم معرضين بتلك الرؤية وأنها تتعارض مع صحيح الدين! هذا ما حدث فى بداية القرن الواحد والعشرين!
مفاجأة الكتاب التى قطعًا ستصدم بعض أصحاب الفضيلة، وستصدم من تخلوا عن الرئيس من المصريين فى تلك القضية رافعين شعارًا خادعًا تم تمريره إليهم وهو «لا كله إلا الدين!» وقعوا فى الفخ وتعطل المشروع.
يفاجئنا المؤلف بأن القيادات الدينية آنذاك فكرت فى حل لارتفاع معدل نسبة الطلاق وما يترتب على ذلك من آثار اجتماعية خطيرة على النساء والأطفال الذين يتم إلقاؤهم فى الشوارع فيتحولون إلى أفراد فى عصابات النشل.. فكرت تلك القيادات وتقدمت بالفعل بمشروع قانون هو ذاته ما فكر فيه الرئيس عبدالفتاح السيسى وطرحه للحوار المجتمعى!.
يقول الكاتب الإنجليزى نصًا: «مسألة الأطفال ذوى المنبت الفقير ذات شأن خطير ومأساوى وتدعو للاهتمام بمعالجتها، وقد علمتُ أن هناك مشروع قانون سيُطرح أمام البرلمان المصرى يدعو إلى منع المصرى المسلم من تطليق زوجته أو الزواج من امرأة أخرى إلا أمام محكمة مختصة! إن هذا القانون- حسب ما ارتآه شيخ الأزهر السابق وكذلك مفتى الديار- هو تمثيل صادق لروح الإسلام! إذا نُفذ هذا القانون بحذافيره فإنه سيكون هدية عظمى للأطفال والزوجات المصريين. وسيكون عونًا مفيدًا لأى وزير للشئون الاجتماعية يكون فى السلطة حين صدوره، وكذلك لرؤساء الدين الإسلامى المناصرين له!».
فى الجزء الثالث والأخير من هذا العرض.. «نساء مصر فى العصر الملكى»