أم الفنون.. المصرى القديم.. الموسِيقِىّ والمطرب الأول «2»
الفلاحون المصريون فى القرن الخامس عشر قبل الميلاد كانوا يغنون أثناء عملهم فى دراسة الغلال
استبق الغناء كثيرًا من مفردات الأدب المصرى القديم فى التعبير عن نفسه، كما كانت الموسيقى سابقة غيرها من صور الفنون فى مصر، وفاضت الوثائق، مصورة كانت أو منحوتة أو مكتوبة، فى إمدادنا بفيض من المعلومات، سواء عن الآلات الموسيقية أو عن الموسيقيين والمغنين أو عن الأغانى بمختلف تنوعاتها.
لماذا كانت الموسيقى أولًا؟ لا شك أن المصرى القديم فى بدء استقراره على ضفاف النيل قد تأثر بما كان يسمعه من أصوات شجية من هديل الحمام وشقشقة العصافير وخرير الماء، فبدأ فى محاولات إصدار أصوات مماثلة تخلق له حالة رضا وتمنحه سعادة نفسية وقوة روحية تساعده فى تحمل عبء الأعمال الشاقة فى الحقول، هذه كانت البداية. فمن الثابت وثائقيًا أن المصرى كان يغنى أثناء عمله فى الحقول والمحاجر وعلى ضفاف النيل فى ساعات إبحاره الطويلة.
ففى مقبرة «باحيرى» بمنطقة الكاب الأثرية «الأسرة الثامنة عشرة القرن الخامس عشر قبل الميلاد» كان أحد الفلاحين، الذى يقود الثيران أثناء عملها فى «دراسة الغلال»، يغنى أغنية تم تدوينها فى المقبرة. كان يغنى للثيران وهو يقودها، وفى مناطق المحاجر وجدت بقايا بعض الأغانى التى كان العمال يغنونها.
وكانت أهم مناحى الترفيه للمصريين حفلات العشاء التى يصاحبها الغناء والموسيقى، خاصة فى الطبقات العليا من المجتمع. حيث يتم الاستماع للموسيقى والغناء بينما يقوم الخدم بأعمالهم بالمرور على الحاضرين، يقول الحكيم «آنى» إن الموسيقى والغناء والبخور هى طعام الآلهة.
المصريون القدماء عرفوا فكرة «المايسترو» الذى يضبط حركة الموسيقيين بيده وأشاروا إليه بـ«الموسيقى باليد»
عرف المصريون فكرة «المايسترو» الذى يضبط حركة الموسيقيين بيده وكان هو المغنى، ووجد تعبير «الموسيقى باليد» إشارة لدور المغنى المايسترو. ورغم ذلك فقد كان شائعًا أن يتعلم الموسيقى ويقوم بالعزف بعض فاقدى البصر، ولدينا مناظر عديدة لعازفى الهارب من فاقدى البصر.
تطور الغناء وتطورت الموسيقى مع تطور الحضارة المصرية حتى أصبح الغناء وعزف الموسيقى جزءًا أساسيًا فى هذه الحضارة، فعلى السياق الدينى صاحبت الموسيقى الطقوس الدينية وتعلمها بعض الكهنة ممن أصبحوا يتولون تعليم البادئين. كما أصبحت الموسيقى مصاحبة للأنشطة العسكرية.
وعرف المصريون فكرة احتراف مهنة الموسيقى والغناء، سواء داخل مصر أو خارجها، ففى وثيقة أدبية تُعرف برحلة «ونأمون» إلى بلاد سوريا لإحضار خشب لصناعة مركب مقدس لآمون فى القرن الحادى عشر قبل الميلاد، يصادف بطل الرحلة فى رحلته مغنية مصرية محترفة اسمها «تِنِتنوت».
لدينا ذكر صريح لمغنيات ومغنين فى بعض الآثار المصرية، مثل مقبرة عازف المزمار بدهشور التى يعود تاريخها لحوالى ٢٦٠٠ قبل الميلاد، وعازف الهارب «حيكنو» والمغنية «إيتى» حوالى ٢٤٧٠ق. م، وسجلت النصوص المصرية ألقابًا مثل «رئيس مجموعة الموسيقيين» أو «مغنية الإله». ولم يعرف الموسيقيون أو المغنون فى مصر القديمة زيًا خاصًا بهم، لكن بعضهم عرف فكرة «الوشم» خاصة النساء.
ماذا كانت طبيعة الأغانى المصرية القديمة؟
تكتظ المراجع التاريخية بتراجم لنصوص الشعر والأدب المصرى، ومن ذلك الشعر المغنى أو الأغانى. يمكننا القول إن المصرى القديم غنى لكل شىء فى محيطه، بدءًا من حيواناته التى ترافقه فى رحلة عمله اليومية انتهاءً إلى الإله الخالق، غنى المصريون الأغانى العاطفية بكثرة، سواء تلك التى كُتبت على لسان الحبيبة أو الحبيب، وبعضها وصل فى جرأته إلى بعض الأشعار المعاصرة الجريئة، فكما غنى نزار قبانى لمفاتن حبيباته فى أشعاره، فقد تغنى المصرى بمفاتن حبيبته الجسدية من وصفه لنهودها وشعرها وتفاصيل وجهها ولون بشرتها إلى وصفه لألمه كعاشق جراء عدم استطاعته الحصول على محبوبته، كما تغنت المصرية بجمالها ودلالها وحيلها لإغراء عاشقها حتى يتجرأ ويخوض معركة مع أهلها ليتزوجها.. فتغنت كيف أنها تتعمد إظهار مفاتن جسدها أمامه، جيئة وذهابًا، وهى تسير برفقة قريناتها من فتيات القرية.
تغنى المصرى بحب «كمت» بلاده أو مصر ومجدها وانتصاراتها وانتصارات ملوكها العظام.
تغنى المصرى بنهر النيل وغنى له كثيرًا وعظّمه ووصفه بالنيل المقدس الذى خلقه الله لكى لا يصير هناك ظامىء.
طغى على الأغانى المصرية طابع الرومانسية وغلبت أغانى العشق على غيرها من الأغانى، فهذه هى مصر التى شن خصومها عليها طوال عقود طويلة حملة تشويه شرسة تتهمها بالتجبر والطغيان والوثنية، وبعضهم اتهمها بأنها أمة كان كل فرد من أفرادها غارقًا فى انتظار الموت بمجرد قدومه للحياة، حملات تشويه متعمدة من خصوم تاريخيين معروفين قابعين على حدودنا الشرقية.. لكن الأسوأ أن يسقط فى براثنها بعض الذين ينتمون لهذه الأمة.
مصر أمة عشقت مبادئ العدل والخيرية والجمال.. أمة منحت هذا العالم أسس حضارته التى ظلت تتنقل من بقعة إلى بقعة دون أن تفقد شخصية صُنّاعها الأوائل.
لم تهتم الأمة المصرية بفكرة الموت وما بعده، إلا يقينًا بوجود الحياة الحقيقية والخلود فيما بعد مشهد الموت.. فهى أمة كانت تبحث عن الحياة فى اهتمامها بمشهد الموت، أمة كانت تبحث عن الخلود.
المصرى القديم أبدع وابتكر مجموعة من الآلات الموسيقية أهمها «آلة الهارب» و«الكنارة»
تجمع المصادر التاريخية، مع بعض الاختلاف فى بعض التفاصيل، على أن المصريين أبدعوا وابتكروا مجموعة كبيرة من الآلات الموسيقية، بعضها، وهو الجزء الأكثر تنوعًا، يعتبر مصريًا خالصًا، والبعض الآخر القليل تم استقدامه فى فترات تاريخية متأخرة من شعوب أخرى وأضافه المصرى لآلاته الموسيقية بعد أن صبغه بطابعه المصرى. يُقسّم المتخصصون هذه الآلات إلى ثلاث مجموعات أساسية: آلات وترية، وآلات قرع ودق أو إيقاع، وآلات نفخ. كل مجموعة منها تحتوى تنوعًا كبيرًا فى الأحجام والأشكال والمواد المستخدمة فى صنعها. ولقد جادت علينا الحفائر الأثرية بكثير منها تزدان بها متاحف العالم، وقد استولت متاحف إنجلترا على نصيب كبير منها.
أهم آلة من المجموعة الوترية هى آلة «الهارب» أو القيثارة. ابتكر المصريون منها شكلين، الأول هو القيثارة المقوسة، وهى الأقدم تاريخًا، ويرجح أن تاريخها الأول يعود للدولة القديمة، الأسرة السادسة القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد، بينما تأخر الشكل الثانى المستقيم فى الظهور إلى الدولة الحديثة، منذ القرن السادس عشر قبل الميلاد،. تباينت أعداد أوتار القيثارة من بين أربعة أوتار وعشرة. وبعض المصادر تعتقد أن العدد وصل إلى تسعة عشر وترًا. هى صندوق خشبى «صندوق الصوت» تخرج منه الأوتار إلى الساق الطويلة. اختلف حجمها، ومنها ما كان يلامس الأرض مباشرة أو كان يوضع فوق قاعدة لصغر حجمها. فى مقدمتها تشد الأوتار بواسطة قطع خشبية أو معدنية تشبه المسامير. وأحيانًا كان تتم صناعة الصندوق من المعدن. وأحيانًا كان الصندوق عبارة عن محارة السلحفاة. ويعزف عليها رجال ونساء.
الآلة الوترية الثانية تشبه السمسمية وتسمى «الكنارة»، وهو اسم يستخدمه العرب لها، وهو اسم أصله مصرى «كِنِر» نقله العبريون بلفظ «كنور» ثم لفظه العرب «كنارة». لم يُتفق على أصلها الأول، إن كانت مصرية خالصة أم آسيوية أخذها المصريون فطوروها. هى صندوق الصوت الخشبى الذى يخرج منه ذراعان تنتهيان بقضيب خشبى وتشد الأوتار التى تباين عددها من خمسة إلى ثلاثة عشر وترًا بين ذلك القضيب وصندوق الصوت. أحيانًا كان يغطى صندوق الصوت بقطعة من الجلد أو القماش.
آلة العود أو «لوت» بالإنجليزية هى آلة مصرية المنشأ وتضاف لقائمة الآلات المصرية الوترية. تتكون من صندوق الصوت الخشبى الصغير البيضاوى أو محارة السلحفاة تخرج منه ذراع طويلة تشد عليها الأوتار قليلة العدد حوالى أربعة أوتار، وكانت تعلق على الصدر أو تمسك مثل الربابة. وفى مرحلة متأخرة أُضيفت الربابة لتلك الآلات، وهى صندوق خشبى صغير به وتر واحد ويغطى الصندوق بجلد الماعز أو الغزال. وكان الوتر من ذيل الحصان.
«الصاجات».. ابتكار مصرى أصيل
تحتوى مجموعة آلات النفخ على عدد كبير مختلف الأشكال والمواد المستخدمة فى الصنع، تأتى على رأسها آلات البوص التى يمكن تسميتها المزمار أو الناى، وكان الأكثر شيوعًا والأكثر تنوعًا ويحوى المتحف البريطانى عددًا غير قليل منه، فكرته بسيطة.. بوص بأطوال مختلفة ومثقوب، وقد يكون مفردًا أو مزدوجًا، وقد عرف منذ الدولة القديمة، ومنه ما يشبه آلة «الكلارينت» الحديثة.
أما آلة البوق المعدنية فكان استخدامها بشكل أساسى فى الأغراض العسكرية والدينية. ولدينا عشرات المناظر التى تصور عازف البوق فى مشاهد عسكرية، منها منظر معبد حورمحب فى منطقة جبل السلسلة الحجرية الشهيرة. ومنظر عازف البوق الشهير بمناظر معركة قادش فى معبد رمسيس الثانى بمنطقة أبى سمبل الأثرية. كانت الأبواق متعددة الأطوال، ومنها ما وصل إلى أكثر من نصف متر.
المجموعة الثالثة هى آلات القرع أو الطبول بمختلف مسمياتها وأشكالها، ابتكر المصريون «طبلة» من المعدن أو الخشب عليها طبقة رقيقة من جلد الماعز أو الغزال تضرب بمضارب خشبية، منها كبير الحجم المستخدم فى مصاحبة الحملات العسكرية، ومنها صغير الحجم المستخدم فى «الأوركسترا» الخاصة بالحفلات والمناسبات الخاصة. لكن «الطبلة» لم تنتشر مثل «الدف» الذى بدأ فى مصر مستطيل الشكل ثم أصبح أسطوانيًا، نراه فى مئات المناظر على جدران المعابد والمقابر منذ عصر الدولة الحديثة حتى العصر اليونانى الرومانى.
فكرة «الشخليلة»، التى كان المصريون يصنعونها حتى فترات قريبة فى الموالد الشعبية من الورق المقوى بداخله قطع أحجار صغيرة، هى فكرة مصرية قديمة خالصة. الشخاليل أو الصلاصل هى رمز للإلهة «حتحور»، ربة الموسيقى فى مصر القديمة. صنعها المصريون على هيئة حدوة حصان من معدن مثل النحاس تخترقها قضبان رقيقة تحدث صوتًا عند تحريكها.. كانت تستخدم بشكل رئيسى لمصاحبة طقوس دينية فى المعابد.
«الصاجات» هى ابتكار مصرى قديم من مجموعة آلات الإيقاع. عبارة عن رقائق صغيرة من النحاس تمسك بالأصابع تصدر صوتًا عند ارتطامها ببعضها البعض. ويضاف للقائمة ما يعرف بالكاسات المعدنية الصغيرة.
كانت هناك فرق موسيقية رسمية تابعة للمؤسسة الدينية وأخرى خاصة.. والموسيقيون الرجال كانوا أكثر من النساء
هل عرف المصريون فكرة الفرقة الموسيقية أو الأوركسترا التى يقودها مايسترو؟ وهل كانوا يقومون بعمل بروفات حقيقية قبل العزف الرسمى؟!
يقينًا عرف المصريون فكرة الأوركسترا التى تحتوى على عدد كبير من العازفات والعازفين بآلات متنوعة ويقودهم قائد هو المغنى الذى يحركهم بيده ليضبط النغمات، وكانت النظرة العامة للموسيقى بصفتها «أصواتًا سماوية» ناتجة عن حركة الكون، وأنها أصوات آلهة، هذه النظرة جعلت الموسيقى أو المغنى يفخر بحمله لقب موسيقى أو مغنٍ، حتى لو لم يكن من الفرق التابعة لمعابد بعينها.
لدينا منظر مهم يصور إحدى العازفات وهى تقوم بضبط آلتها الموسيقية «العود» قبل بدء عملها، ومعلومات عن تولى بعض الكهنة- بشكل رسمى- مسئولية تعليم الموسيقى للمبتدئين، ما يجزم بأن الفرق الموسيقية فى مصر القديمة كانت تقوم بالفعل بعمل بروفات كثيرة جدًا، شأنها شأن أى فئة أخرى تقوم بالتدرب على عملها قبل القيام به، مثل تعليم النحاتين فن النحت فى محاجر جبل السلسلة قبل أن يتم اعتمادهم رسميًا كنحاتين، قطعة حجرية منحوتة وموجودة بالمتحف البريطانى تصور فرقة موسيقية مصرية مكونة من عازف الهارب وعازف مزمار ومغنيين اثنين، أحدهما يتولى توجيه العازفين بيده كمايسترو للفرقة.
مما تقدم يمكننا أن نوجز حقائق عامة موثقة عن إسهام الحضارة المصرية فى فن الموسيقى والغناء. من تلك الحقائق أن مصر أبدعت آلات موسيقية متعددة على الأقل منذ الدولة القديمة أى فى بدايات الألفية الثالثة قبل الميلاد، عشرات الآلات الموسيقية تم العثور عليها وتتناثر اليوم بين متاحف العالم. تكونت فرق موسيقية رسمية تابعة للمؤسسة الدينية وأخرى خاصة. عرف المصريون فكرة احتراف الموسيقى والغناء خارج مصر. لم ينغلق المصريون وتقبلوا دخول آلات جديدة وصبغوها بالصبغة المصرية. فى الدولة القديمة كان عدد الذكور من الموسيقيين والمغنين أكثر من النساء، بينما تغير ذلك فى الدولة الحديثة وغلبت النساء على حرفتى الغناء والموسيقى فى مصر. كثير من الآلات الموسيقية المعاصرة هى تطور لما ابتكره المصريون الأوائل وبعضها ظل كما هو، حفلات العشاء على نغمات الموسيقى وأصوات المغنين كانت ابتكارًا مصريًا خالصًا.