أسماك الله فى كفرالشيخ
إنها تتقافز في الماء، لا تحيط بها شباك الصيادين من عنفوانها وحركاتها السريعة وأعدادها الهائلة.. لكنها حنونة.
لا يلقي فتى صغير سن سنارته إلا وتلقمه واحدةٌ صغيرة، ولا يدس رجل «جُوبْيةً» في مكان سري على الشاطئ إلا وتدخلها أعداد منها راضية مرضيّة.. لحمها طري وقلبها نظيف كمياهها.
إنها أسماك الله التي كانت في هذه البقعة السحرية من بلادنا، محافظة كفر الشيخ.
هي روحها وكينونتها وتركيبتها التاريخية ورمزها وطعام أبنائها الشهي، ومصدر شهرتها بين بقاع «المحروسة»، حتى رسم الناس في الأقاليم الأخرى صورة ذهنية يوتوبية لها، وكأن المارة في شوارعها كلما مشوا تعثرت أقدامهم في تلك الكائنات البحرية اللدنة العفية.
سمك سمك يا كفر الشيخ، لكأن يد الله الخلاقة قد نذرتك لهذه المهمة، حاضنة أسماكه وحوضها ومعينها البكر الفطري، كل شيء فيكِ قد هُيئ لهذا الدور، بداية من التكوين الجغرافي العبقري للمحافظة، مرورا بطبيعتها الزراعية وأراضيها المانحة عظيمة الخصوبة والنماء، ووجودها كدُرّة تاج للدلتا تتوسطها توسط الملكات، فيرطب عليها من الشمال البحر الأبيض المتوسط مادًّا لها ملاءته في طول ساحلي يبلغ نحو مئة كيلو متر، ثم تفرش لها بحيرة البرلس وسادة تضع عليها رأسها وتغفو، وتنتظر النسيم القادم إليها من الغرب حيث نهر النيل، يحفها مخترقا مدينة دسوق ويرسم حدود المحافظة بطول نحو 85 كيلو متر مع جارتها محافظة البحيرة، باذرًا فيها بذور العطاء والخير.
ويحميها من الجنوب مدى شاسع من الخضار في أراضٍ زراعية تمتد حتى حدود محافظة الغربية، ونفس الأمر في الشرق فيمتد بساط الخضرة والجمال البسيط حتى حدود الدقهلية.
بلد محصن بالأخضر، لا ظهيرٌ صحراوي ولا قفارٌ، فلا يعرف اللون الأصفر إلا في جبال النرجس المطلة على بحر بلطيم، والمليئة ببساتين جبلية تنتشر فيها ثمار التين والبطيخ والجوافة وفواكه أخرى نادرة ولا مثيل لطعمها السريِّ الخصوصيّ في الأرجاء، هذا إلى جانب الرمال السوداء المشبعة بالمعادن النفيسة المستخدمة في الصناعات الخطيرة.
هذا هو المكان يا أسماك الله، أما الزمان فهو العبقرية ذاتها، عتيقٌ راسخ، وقديمٌ زاخر، ومتوسطٌ مبهر، وحديثٌ ما زلنا نعيش على ذكراه.
كفر الشيخ هي شاعرية الزمان والمكان، في تصرف جريء لعنوان جمال حمدان الشهير «شخصية مصر.. عبقرية المكان».
والذكريات القريبة مع زمانها الحديث، تبدأ من مدينتها وعاصمتها التي تحمل اسم كفر الشيخ وهي أساس التسمية، والتي يتأسس تاريخها الحديث مع قدوم وليّها وصاحبها الشيخ طلحة التلمساني إليها قادما من المغرب عام 600 هجريا، فكان قدوم البركة وهو حفيد أسطورة الشهداء الحسين بن علي سبط النبي محمد.
عاش فيها 30 عاما فكان نموذج الرجل العالم الفقيه ناشر الخير والحكمة والعلم، ومات هناك في المدينة القديمة بالقرب من الحي العتيق المسمى بـ«الحِكْر»، حيث بني له مقام وجامع شاهق البنيان، وهو الحي الذي امتد مُشكلا أصل المدينة، والتي كان خط السكة الحديد بمثابة نيلها، لتلتف هي حوله كأنها الوادي، وحتى محطة القطارات وامتدادها إلى منطقة السوق حيث أصل التجارة وبيوت عائلات التجار القدامى، مرورا بـ«المزلقان الوسطاني»، فتتشعب أحياء السوق وشوارعه المقسمة والمخططة بشكل حضاري رغم بدائيتها وقدمها، في شبكة مُحكمة من محال التجار والصُّناع وأرباب الحرف في كل شيء.
وبعدما كان اسمها «دنقيون»، سميت المدينة تيمنًا ومحبة «كفر الشيخ طلحة» وظلت كذلك ردحا من الزمن، حتى زارها ذات يوم فؤاد الأول ملك مصر والسودان، فأحبها وبنى لنفسه قصرا صغيرا على أرضها يقصده للاستجمام وسماها «الفؤادية» نسبة إليه، وصارت كذلك حتى جاء الضباط الأحرار في يوليو 52، وأعادوا إليها اسمها القديم ضمن جهود إزالة آثار العهد السابق، وصار اسمها كفر الشيخ مع حذف «طلحة» اختصارا للاسم.
والعجيب أن المدينة هي جزء مصغر من التكوين الجغرافي العام للمحافظة، فهي محاطة ومحصنة من جميع جهاتها بسياج أخضر جعلها لقرون عصية على الامتدادات العمرانية العشوائية والنتوءات الطُّفيلية، رغم ما نما على بعض جوانبها مع الزمن، من عِزب صغيرة يسكنها أهل الريف من جذور الدلتا وقواعدها، لكنها لم تؤثر بأي شكل على النسيج الجغرافي لهذه المدينة، التي ظلت هكذا في صورتها وحتى 40 عاما مضت، لا تضم أكثر من 4 أحياء على الأكثر، الحِكْر والسوق والعِشّة وشارع الجيش بما فيه من منازل على الطرازات الأوروبية وحتى منطقة مبنى المحافظة، وقرية صغيرة قديمة شرق المدينة اسمها ميت علوان صارت مع الزمن جزءا من المدينة بعدما التحمت بالأحياء الجديدة التي بدأ بناؤها منذ أواخر الستينات وأوائل السبعينات مثل تقسيم 2.
ووسط هذا التشكيل البسيط، تمر بالمدينة، ترعتان رئيسيتان واحدة في شرقها وواحدة في غربها، وتتفرع منهما مع امتداداتهما ترع أخرى صغيرة تجري في مختلف أنحاء المحافظة.
وتظل الترعتان الرئيسيتان القادمتان من فرع النيل بالقرب من محافظة الغربية، محافظتين على اتساعهما وسرعة جريان مائهما حتى تصلا إلى بحيرة البرلس في الشمال.
إحدى هذه الترع تمر شرق المدينة بمحاذاة قرية «أبو عمر»، فترسم الحدود الشرقية للمدينة، لكن من يراها لا يصدق أنها مجرد ترعة من شدة اتساعها وعنفوان وسرعة جريان مائها، لا أبالغ لو قلت إن اتساعها قد يتجاوز اتساع مجرى النيل الصغير المار أسفل كوبري الجلاء ذاهبا إلى جاردن سيتي في القاهرة، حتى صار الناس مع الزمن يسمون هذه الترعة بـ"البحر".
ومنذ أواخر الخمسينيات تكونت بنايات طفيلية على شط هذه الترعة العملاقة من الناحية الأخرى للمدينة، وصار سكان هذا البناء العشوائي يحارون وهم يعبرون مجرى الترعة الضخم إلى المدينة ذهابا وإيابا، فبُنيت بعرض المجرى الشاسع قنطرة للتسهيل على الناس، وسمي ذلك النتوء العمراني «القنطرة البيضاء»، لكن ظلت تلك الترعة أو الرافد النهري الصغير عروس المكان فانتشرت على سطحها قوارب الصيادين بالشباك، وعلى شطوطها الأنفار الموزّعون بالبوص والعيدان لا يعدمون وسيلة للصيد، فمنهم من يصيد بالغلال ومنهم من يستخدم الريم أو الطعوم من الديدان وحتى السمك «الشِّرّ» الصغير.
ترعٌ واسعة عريضة يجري ماؤها بسرعة وتدفق حيٍّ، فلا يعرف سطحها الركود أو التعطن، وهي مبطنة بنسيج هائل من الأعشاب التي هي طعام الأسماك ومصدر غذائها الرئيسي، فلا يشوّهُها ورد النيل أو البوص والغاب وغيرها من النبات الضار المقيت.
على هذا نشأ الناس في كفر الشيخ في الزمان البسيط، يعملون صباحا في مهنهم المختلفة التي أغلبها وظائف حكومية، وفي ساعات العصاري يهجعون إلى الصيد من الترع المارة بالمدينة أو يخرجون إلى الترع المنتشرة حول القرى، ومنهم من يسافر ليصل إلى ترع وروافد معينة أو يتعمق حتى الوصول إلى مصارف مزارع الأسماك ناحية الوحّال والحامول وحتى مشارف بلطيم، وهي الترع التي يتكاثر فيها ما يتسرب من المزارع من زرّيعة وسمك صغير، فيلتقطه الصيادون هنيئا مريئا.
وكثير من الناس لا يخرجون إلى الصيد إلا بعد منتصف الليل، فيستعملون أعوادا وخيوطا مزودة بأصابع من الفوسفور المضيء، ومنهم من يواصل الصيد لمنتصف نهار اليوم التالي، فتكون عيَّاشته قد امتلأت بما يملأ ثلاجته عن آخرها، والعياشة هي علبة من الشبك مزودة بحبل، توضع فيها الأسماك بعد صيدها، وتغلق ثم تلقى في الماء للحفاظ على طزاجة ما بها، وعندما يأزف الرحيل يسحبها الصياد من الماء بحبله، فتكون أسماكها لا تزال حية طاهرة.
ولطالما أذكر والد أعز أصدقاء الطفولة، العم متولي إسماعيل رحمة الله عليه، وكان موظفا في مصلحة الضرائب.. أذكر كيف كان صيادا عتيدًا مخضرما، وكيف كان يخرج في رحلات خطيرة ومغامرات قد تمتد لأيام، فيستخرج من الترع المختلفة أطعم الأسماك، وعلى كثرة ما كان يصيده في الرحلة الواحدة، لم يكن يجد المكان والمساحة التي يخزنه فيها، فيهادي منه الجيران والأصدقاء والأحباء.
هذا النسق الهادئ العليل لم يكن إلا جزءا متصلا اتصالا ماديا ومعنويا بالمكان، فالبيوت مُخططة والخلاء شاسع والشوارع مُنظمة هندسيا لتصل إلى وجهتك بأيسر الطرق.
لقد كنت هناك حيث مراتع الصبا، وأذكر كيف كنا نخرج للعب كرة القدم في مساحات رهيبة نطلق عليها لفظ «الأراضي الزراعية» شرق المدينة، وحول منطقة المصنع، وما أدراك ما المصنع!
هو مجمع صناعي ضخم بني في الستينات ضمن سياسة التوسع الصناعي في عهد الرئيس «عبد الناصر»، فكان يضم مصنعا للزيوت ومصنعا للغزل والنسيج ومصنعا للصابون.
وأذكر وأنا لا أزال بعد طفلا في المرحلة الابتدائية، كيف كانت صافرة الوردية تزلزل المنطقة على بعد عدة كيلو مترات حول المجمع، صافرة في السابعة صباحا وأخرى في الثالثة وغيرها في الحادية عشرة مساء، وأذكر مشهد العمال وهم يخرجون في لحظة الصافرة أفواجا أفواجا من بوابات المصانع الواسعة، كأنه مشهد الحجيج في المشاعر المقدسة، وهم يزحفون مخترقين شوارع تقسيم 2 ليصلوا إلى وجهاتهم المختلفة حيث الحافلات التي تقلهم إلى مناطق سكنهم وبلدانهم.
إنني أذكر ذلك الخلاء والفضاء الشاسع الذي عشت فيه في صباي، كل هذا الحُسن كان موجودا قبل نحو 30 عاما بل قبل نحو 20 عاما بل حتى قبل 15 عاما.. يا ألله.. لقد تغير كل شيء الآن.
هذه المدينة الجميلة التي كان الناس يصيدون من بحارها أسماك الله لحما طريا، تبدلت أو كأنها لم تكن.. هذا الخلاء صار هياكل خرسانية مرعبة، وصارت أيادي اللصوص تُعمل معاولها في الأراضي الزراعية تبويرا وتدميرا، فدانا تلو آخر وقطعة تلو أخرى، فنشأت في ذلك الفضاء أحياء عمرانية مخططة تخطيطا ميتا بلا روح، وانتشرت الناطحات في أرجاء المدينة مثل الحِراب.
هذا مجمع المصانع قد توقفت معظم منشآته عن العمل وبيعت أرضه في غفلة من الزمان لتُبنى أبراجًا شائهة، وهذه منطقة «الأراضي الزاعية» مرتع الصبا واللهو ولعب الكرة، قد صارت أحياء جديدة يسكنها الأغراب من كل حدب وصوب.
وهذه الأراضي الخضراء غرب المدينة وبعد شريط السكة الحديد الذي كان مثل النيل، صارت عمائر عمائر عمائر تحجب النور عن الطرقات الآسنة، وهذه الأراضي في المدخل الجنوبي الشرقي للمدينة وبمحاذاة الترعة الشاسعة قد صارت حصيدا كأن لم تغن بالأمس.
وتضخمت الدائرة العمرانية الجهنمية وصارت تتسع تتسع وتقضي في طريقها على الأخضر، ويتسع العمران وتتغير معالم المدينة القديمة، وتُسحق معها ذكريات طفولتنا وبراءتنا.
ولأن كل شيء متصل اتصالا ماديا ومعنويا ببعضه كما قلنا، فقدت الأشياء زهوها ولم تعد روح المكان كما هي.. لا الهواء ظل هواء ولا الألوان ظلت ألوانا ولا الأسماك ظلت أسماكا ولا الناس كما عهدناهم، فقد سكنت المدينة أعداد ضخمة من خارج جذورها وقواعدها، بدل الانتقال إلى المدن الجديدة الواسعة المنتشرة في البلاد، فصار البراح زحاما وتكدّسا في الأجساد والأنفاس.
صار كل شيء بخيلا وصارت الطبيعة أكثر بُخلا، فلم تعد الأسماك تلهو وتقفز كما كانت، ولم تعد تمنح نفسها للناس راضية مرضية، ولم تعد اللحم الأبيض الطري الطاهر، صار كل شيء صعبا ومضطربًا وغريبا، بارت مراتع الصبا وتفرق رفاق الطفولة في البلدان، وغيبت الأرضُ أنقى الناس وأصفاهم.