زينهم وسماسم... الطريق إلى الثنائية الأروع في ملحمة الحلمية
كيف رصدت الصحف الطلة الأولى للدكتور سيد عبدالكريم والطالبة سهير المرشدى فى الستينيات والسبعينيات قبل الليالى بعقدين
فى شهر أكتوبر من سنة ١٩٨٧ عُرض على شاشات التليفزيون- وسيلة الترفيه الأولى لكل البيوت المصرية فى تلك الفترة- مسلسل جديد لأسامة أنور عكاشة اسمه «ليالى الحلمية».. كان بعض الناس قد قرأ قبلها بشهور حماس المؤلف عبر أحاديثه الصحفية عن هذا المسلسل المقبل.. لكن بالتأكيد لم يكن لا أسامة ولا الناس الذين قرأوا كلامه يتوقعون أن تتحول «ليالى الحلمية» إلى تلك الملحمة الإنسانية التليفزيونية التى لم تتكرر، وحتمًا لن تتكرر أيضًا.
حالة تشريحية نادرة لكل دواخل المجتمع المصرى عبر تنوع مذهل فى ثرائه من الشخصيات المحبوكة داخل الحلمية.. لمع من بين هذا الدسم الإنسانى شخصية اغترفها أسامة من أعمق أعماق بئر البصمة الوراثية الأصلية لمصر.. تقمصها بأداء إعجازى الفنان سيد عبدالكريم، ابن الإسكندرية، ليصير منذ تلك اللحظة هو زينهم السماحى ولا أحد غيره.
كان سيد سعيدًا بتوارى اسمه الحقيقى وراء اسم «زينهم» الذى لازمه ما بقى من عمره.. بل على العكس تفهم الدكتور الجامعى الأمر وتماهى مع الشخصية وحملها فى كل الندوات التى أقيمت لأبطال المسلسل فى عشرات الأماكن، من أول مراكز الشباب فى قرى ونجوع ريفية حتى أكبر الأندية والملتقيات الثقافية.
صار الدكتور سيد عبدالكريم هو المتحدث الرسمى باسم المعلم زينهم السماحى.. يدافع عن وجهة نظره ويبرر عصبيته وقراراته الانفعالية.. لكن ما لم يستطع تبريره هو تسببه فى «طفشان» حب عمره «سماسم العادلى» وأم ابنته الوحيدة قمر السماحى.. التى تلبست روحها فنانة أخرى عظيمة الشأن ثقيلة الموهبة اسمها سهير المرشدى.
سماسم هى المرأة التى اختارها أسامة أنور عكاشة لتقاسم زينهم متناقضاته وتقتسم معه تفاصيله الثرية.. أحبت زينهم حبًا أفلاطونيًا وتخلت من أجله عن إمبراطوريتها الفنية التى كونتها عبر سنوات عملها الطويلة فى الأفراح وصالات الإسكندرية.. لتتحول إلى أيقونة فى ذلك العالم الخلفى للمدينة.
تترك سماسم هذا كله وتصير ربة منزل بسيطة فى بيت صغير داخل حوارى الحلمية تتلخص أحلامها فى إرضاء حبيبها حتى لو بأكلة حلوة.
تعالوا نتتبع زينهم وسماسم، ذلك الثنائى الجميل الذى اخترعه كبير الدراما التليفزيونية وعرّابها الأوحد أسامة أنور عكاشة.. ونحاول أن نلتقط ومضات صحفية لبداية رحلة سيد عبدالكريم وسهير المرشدى، التى أدت فى النهاية إلى الوصول لتلك التوليفة السحرية الممتعة.
مجلة «الجيل» تتغزل فى طالبة الفنون المسرحية الموهوبة.. و«الكواكب» تجرى حوارًا مع دكتور المبيدات صاحب المركز الأول فى قسم الإخراج
مجلة «الجيل»، التى أسسها الأخوان أمين فى سنة الثورة، كانت من المجلات التى تحمل ذائقة صحفية خاصة ومتفردة عن باقى المجلات المخضرمة، حيث كانت تشع منها روح الشباب، سواء فى أبطال موضوعاتها أو حتى محرريها.. وفى العدد الصادر يوم ١٨ نوفمبر ١٩٦٣ تحت رئاسة تحرير الصحفى الشاب، أيضًا، وقتها، أنيس منصور، تضمن العدد تحقيقًا صحفيًا بديعًا عن شباب مسرح الجيب، التجربة التى ولدت فى بدايات الستينيات على يد سعد أردش.. وكانت الفرقة تجرى بروفات لمسرحية توفيق الحكيم «يا طالع الشجرة».
صاحب التحقيق الأستاذ نبيل بدران لفت النظر إلى فتاة جديدة ضمن الفرقة اسمها سهير المرشدى، والمفارقة أنها من الحلمية، ذكرها ضمن باقى الشباب كخامات طيبة سوف تثرى الحياة المسرحية، لكنه خصّ سهير بعد ذلك بكلام واعٍ ومدرك بقيمة موهبة لامعة قادمة بقوة، حيث قال بالنص:
«لقد دهشت فعلًا عندما علمت أن سهير المرشدى لا تزال طالبة بقسم التمثيل بالمعهد العالى للفنون المسرحية، فهذه الفتاة لها وجه جميل معبّر.. وتجيد التعبير باللفظ والحركة بطريقة مدهشة، وهى تتمتع بإحساس فنى نادر.. وأعتقد أنها سيكون لها شأن كبير فى الحياة الفنية لو حافظت على مستواها.. وحاولت أن تصل إلى مستوى أكثر نضوجًا ولو أخذت مزيدًا من الفرص».
يستمر صحفى «الجيل» فى ثنائه على تلك الفتاة الصغيرة الموهوبة حتى ينهى كلامه برجاء هو أشبه بنبوءة حيث قال: «أرجوكم، تذكروا اسم هذه الفتاة.. سهير المرشدى أو النجمة الجديدة التى تتألق فوق خشبة مسرح الجيب».
المدهش أنه لم تمر سنتان على تحقيق مجلة «الجيل» حتى تحققت النبوءة بالفعل ولعبت سهير دور البطولة السينمائية أمام وحش الشاشة فريد شوقى سنة ١٩٦٥ فى فيلم «المشاغب» وكانت حينها بنت ١٩ عامًا، واستمرت سهير المرشدى تلمع وسط نجمات السينما حتى إنها استطاعت أن تحفر فى الأذهان دورها الذى يبدو صغيرًا فى واحد من أفضل أفلام السينما المصرية على مدار تاريخها، وهو فيلم «الزوجة الثانية» أمام سعاد حسنى وأباطرة التمثيل صلاح منصور وسناء جميل، وكان ذلك فى عام ١٩٦٧.
نترك الممثلة الشابة فى الستينيات تواصل قفزاتها الفنية ونقفز نحن إلى بداية السبعينيات لنطالع تحقيقًا مهمًا فى مجلة «الكواكب» بتاريخ ١٠ نوفمبر ١٩٧٠ بقلم ناقد ثقيل القيمة عظيم الشأن، وهو سامى السلامونى.. يتحدث فيه عن دفعة جديدة فى معهد السينما هى الثالثة من نوعها فى ذلك الحين لخريجى الجامعات فقط، حيث يدرسون سنتين يصبحون بعدهما مخرجين وكتاب سيناريو ومصورين.
تحدث السلامونى عن خريجى تلك الدفعة، التى كان من بين أسمائها مثلًا مهندس شاب وقتها اسمه محمد كامل القليوبى أصبح فيما بعد المخرج الكبير محمد كامل القليوبى.. لكن السلامونى أثنى كثيرًا على الحاصل على المركز الأول فى قسم الإخراج تحديدًا واسمه سيد عبدالكريم، وقال عنه الكاتب بالنص:
«أول دفعة الإخراج هذا العام مثلًا كان مفاجأة.. فقد كان يبدو أنه أبعد ما يكون عن الاهتمام بالسينما.. ولكنه استطاع أن يكتسح الجميع فى كل مراحل الامتحان.. رغم أنه يحمل دكتوراه فى الكيمياء، وكيمياء المبيدات بالذات.
وعندما سألت الدكتور سيد عبدالكريم، المدرس بالمعهد العالى الفنى- فنى بمعنى كيميائى فقط!- عن علاقة كيمياء المبيدات بالسينما.. قال:
- أبدًا.. أنا طول عمرى اتجاهى فنى..
- وما الذى رماك على الكيمياء إذن؟
- الوالد الله يسامحه.. رفض مسألة الفن تمامًا.. فحققت له غرضه وأصبحت دكتورًا فى الكيمياء.. فقضيت ست سنوات أدرسها فى ألمانيا.. ولكنى لم أتوقف لحظة عن ممارسة وجودى الحقيقى كفنان.. مثلت هناك ثلاث مسرحيات بالألمانية.. وعندما عدت اشتركت مع المسرح الحديث ومثلت فى التليفزيون وقمت بدور الجرسون فى مسرحية (قهوة المعلم أبوالهول)».
انتهى تحقيق السلامونى فى «الكواكب»، ولم ينقضِ العام حتى يجمع القدر سيد وسهير فى أول عمل تليفزيونى لدكتور المبيدات بعد أن اقتنع بأنه سيكون أفضل فى التمثيل وليس الإخراج، وأدى سيد عبدالكريم أول دور فى حياته وهو دور عربجى فى مسلسل «النصيب»، والعجيب أن هذا المسلسل كان يحمل من اسمه الكثير، حيث كان نصيب سيد أن يقابل سهير التى كانت من أبطال المسلسل الكثيرين «عادل إمام وصلاح السعدنى وسيد زيان وسناء جميل»، وبينما قام الدكتور سيد بدور محدود لكنه قال شيئًا عن ممثل عظيم قادم فى الطريق بعد أن تقمص دور العربجى بشكل مذهل، وهو الدكتور الجامعى الذى عاش فى ألمانيا سنوات الدكتوراه كلها.
طبيب أعصاب يمنح سيد شفرة عبقرية شخصية زينهم السماحى فى الجزء الثالث
يوم ١٧ يناير سنة ١٩٩٠، وبينما الشعب المصرى يتلقف أى خبر عن الجزء الثالث من مسلسلهم الذى ربطهم أمام التلفاز منذ عام ٨٧.. نشرت صحيفة «الأخبار» تقريرًا بعنوان «عبدالكريم يلجأ لطبيب أعصاب يشرح له حالة زينهم السماحى».
من شاهد زينهم السماحى فى الجزء الثالث يعرف أن دور زينهم فى هذا الجزء تحديدًا كان الأصعب من الجزءين الأول والثانى، حيث يمر زينهم بمرحلة انكسار صعبة جدًا بعد أن تركته حب العمر سماسم.. وإحساسه المدفون داخله بالذنب فى هروبها أو انتحارها كما بدا لأهل الحلمية وقتها بعد أن وجدوا جلبابها ملقى على شاطئ النيل.
تطور الشخصية كما كتبها عكاشة أنها مرت بحالة نفسية مريعة فيها خليط من الذهان وتصور أشخاص ماتوا يتحدثون إليه، خاصة أخيه الشهيد طه السماحى، ثم عودة لحالة الرشد فى نفس اللحظة والرجوع لعنفوان زينهم الأصلى.. كل تلك التقلبات أداها سيد عبدالكريم «بالشعرة» كما يجب أن تكون.. حيث كل خلجة تظهر من ملامحه تكون فى مكانها بالضبط دون أى مبالغة أو تهوين.. خليط مدهش من القوة القديمة والضعف الحديث بفعل المرض والنكسة وفقدان الأحبة طه السماحى وسماسم العادلى.
إذا قرأت خبر «الأخبار» لن تندهش من عبقرية الأداء لسيد عبدالكريم فى الجزء الثالث؛ لأنك ستعرف كيف استعد هذا الفنان العظيم للدور وتماهى مع كل معطياته الجديدة.
وما زلنا فى سنة ٩٠ لكن فى شهر أغسطس، حيث كان سيد عبدالكريم وسهير المرشدى على موعد مع سوء تفاهم كاد يقضى على العلاقة بينهما، والسبب، كما نشر فى خبر «الأهرام» يوم ١٠ أغسطس، هو كرم مطاوع، زوج سهير فى ذلك الوقت ورئيس هيئة المسرح، وكان موضوع «الأهرام» حوار صريح مع كرم يسأله الصحفى محمود حسونة عن واقعة محددة ذكرتها الصحف قبلها بأيام.. وهى باختصار أن سيد وسهير كانا يتشاركان بطولة مسرحية «دنيا المولد» استثمارًا لنجاحهما فى «ليالى الحلمية»، وأصدر مطاوع بصفته رئيسًا لهيئة المسرح قرارًا بأن يعلق صورة كبيرة لسهير وأخرى مماثلة لسيد على باب المسرح كنوع من الدعاية.. ولكن لسوء الحظ- طبقًا لكلام مطاوع- حضر سيد عبدالكريم إلى العرض مبكرًا فرأى صورة سهير فقط هى المعلقة ليثور ثورة غريبة على اعتبار أن الصورة مجاملة من كرم لزوجته على حسابه، وتسبب ذلك فى تعطل العرض نصف ساعة، حتى أزيل سوء التفاهم وعُلقت صورة سيد بنفس الحجم بجانب صورة سهير.. وعاد سيد وسهير أحبابًا مرة أخرى ليعوضا ما حدث فى «ليالى الحلمية» بين زينهم وسماسم من قطيعة.
أسامة أنور عكاشة مهندس الصفقة التاريخية لإقناع سهير بسماسم.. والوسيط دكتور سيد
أسامة أنور عكاشة لم يكتفِ بخلق تلك الثنائية على الورق، بل كان له الدور الأكبر فى إبرام تلك الصفقة التاريخية.. والحكاية كما حكتها سهير المرشدى بنفسها أن المسلسل كان قد صور منه ما يزيد على العشر حلقات كما تقول الصحف، لكن فى يوم جاء لها رسول من عند أسامة، كاتب الليالى.. والوسيط لم يكن غير الدكتور سيد عبدالكريم بنفسه.. حيث تقول إن سيد دخل عليها ذلك اليوم ليقول لها: «باركيلى أنا بعمل مسلسل بطولة مطلقة»، فرحت سهير له وقالت: «مبروك ياسيد إنت تستاهل كل خير».. فما كان من سيد إلا أن قال لها: «وأنا جايلك عاوزك تعملى البطولة النسائية أدامى»، وعندما سألته عن المسلسل، قال: «ليالى الحلمية».. رفضت سهير فى البداية خاصة عندما قال لها إن الدور لعالمة فى الأفراح.. أخذها الوسيط دكتور سيد إلى صاحب الليالى لتقول له إنها قرأت الدور ولم ترَه.. فما كان من أسامة أنور عكاشة الفيلسوف إلا أن قال لها الجملة التى أسرتها وجعلتها تشعر بأهمية الدور، حيث قال لها: إن سماسم هى شخصية موجودة فى جدران المعابد عند قدماء المصريين، ابحثى فى البرديات.. ثم أكمل: «هى إيزيس لكن بنت البلد.. وكلمة (عالمة) معناها عالمة فى بواطن إدخال الفرحة فى نفوس المصريين». بالطبع فلسفة أسامة ووساطة سيد جعلت سهير المرشدى تُقبل على الدور بنهم شديد ظهرت نتيجته عند عرض المسلسل.