عفاريت القيالة
أطفالى الذين أصبحوا على مشارف الرجولة، وكل من هم فى سنهم، لا يعرفون معنى القيالة.. ربما الكبار أيضًا من أبناء الشمال لا يعرفونها.. هم أيضًا لا يعرفون الدرة القيضى.. القيالة والقيضى من المفردات الصعيدية العربية الفصيحة الأصل تطورت حتى صارت ما هى عليه.. القيضى مفردة قادمة من عالم القيظ.. وقلبت الـ«ظاء» إلى «ضاد» كما هو الحال فى بعض ظواهر لغتنا العربية العجيبة.. وهى مفردة صيفية بامتياز.. كنا نتهيبها قبل سماعها بشهور..لأنها تذكرنا بلهيب الشمس والحر الخانق فى أغسطس.
لم تكن الكهرباء قد دخلت إلى بيوتنا بعد.. وبالتالى لا نعرف لا المراوح ولا التكييفات.. كل ما نعرفه أنه وبمجرد أن تذهب نار القيالة قليلًا.. وتبدأ شواشى الدرة فى التمايل وهو ما يعنى أن ثمة حركة للرياح تجلب بعض الهواء يخرج الأطفال من سكونهم الإجبارى فى الظهيرة فى بطن البيوت الطين إلى الشوارع لرشها بالماء.. واستقبال نسمة العصارى وما أطيبها.
الساعات التى تسبق هذه النسمة وتمتد حتى العاشرة صباحًا هى الأصعب فى نهارات الصعيد.. لكن أحدًا لم يكن يتوقف عن العمل.. فقط تنتشر الشيلان فوق روس العمال.
فى الغيطان.. اللى بيعزق واللى بيفلت درة.. وهى عملية خف العيدان المتزاحمة وهى عملية مرهقة جدًا.. حيث يدخل المزارع إلى قلب الغيط فى عز الصهد ويخرج منه بعد ساعات وقد تحولت هدومه إلى قطعة من سواد الفحم وصدره ودراعاته إلى كتل حمراء من السخونة.. وكأنه رغيف خبز واستوى ربانى.. لم يكن باستطاعة أحدهم أن يطلب الراحة إلا لوقت قصير يأكل فيه ما تيسر من الجبن القديم والبصل وكسرة عيش ويشرب من أطيب الماء الحى فى قلة الفخار أو العلاوة المركونة فى ظل شجرة سنط.. هذا هو حال الرجال كما عرفناهم من آباء وأعمام.. أما نحن الأطفال وقتها فلم نكن نفارق الجسر حفاة نلهث وديل جلاليبنا فى أسناننا نرفع قدمًا ونخفض الأخرى هربًا من لسعة نار القيالة فى تراب الجسر الذى يبخ صهدًا.. لم نكن قد عرفنا الأسفلت بعد.. ولا طواقى على الرءوس تحمى ولا يحزنون.. وإن حدث وشكا أحدنا من ضربة شمس.. فآخرها لمونة وشوية خل.. والهروب الأكبر هو فى باط الترع فى ظل شجر الصفصاف.
هكذا كانت حياتنا فى الريف الصعيدى قبل أن تحضر العمدان وتأتى المراوح والتساجيل من ليبيا والثلاجات من العراق والخليج.. زمن الكلوبات أم رتينة الذى عشناه.. لماذا نشعر بالحنين إليه الآن رغم كل ما كان فيه من قسوة.. لماذا نحن إلى زمن عفاريت القيالة.. رغم أننا لا نتخيل انقطاع الكهرباء لساعات الآن؟
باختصار لأننا تعودنا على أن نعيش بمفردات عصر مختلف.. مَن اعتاد ركوب السيارة لن يعود إلى المشى حتى لو نصحه الطبيب بذلك.. مَن تعوّد النور لن يستطيع العودة إلى العتمة حتى وإن كانت أحلام العتمة تلك مشحونة بذكريات العشق والمرح بلا حسابات.. اعتدنا حياة استهلاكية لها قسوتها ومتاعبها وجنون أسعارها.. وقلة بخت الذين يعيشونها، حتى إن مشاهدة النيل أو البحر أو اختطاف ساعة عصارى فى ظلال حديقة أصبح حلمًا ومتعة لا نقدر على دفع ثمنها أحيانًا.
نحن أبناء ما تعودناه.. لذلك أستعجب من كل هذا الكم من سخرية السوشيال ميديا فى الأيام الأخيرة.. الناس عبيد حاجاتهم.. فارحموا هذه الحاجات وعلى السادة الذين يتصدرون للحديث باسم الحكومة فى مثل هذه الحالات أن يفهموا أن ما تعودناه صار حقًا.. دفع الناس أثمانًا أو هكذا يظنون ليبقى ما تعودوه على حاله.. وفى هذه الحالة يبقى أى كلام عن تغيير عادات الناس عبثًا.. لن يقابل إلا بتلك السخرية.. لم يعد الناس فى بلادى أطفالًا.. يلعبون لعبة عفاريت القيالة.. وعلى السادة المعنيين من أهل الحكومة مراعاة فروق التوقيت.. كفاكم الله شر حر أغسطس.. وغير أغسطس.