أستاذ حمام
الخط العربى كما قال القدماء هو لسان اليد، وبهجة الضمير، وسفير العقول، وسلاح الفكر، وأنس الإخوان عند الفرقة، ومحادثاتهم على بُعد المسافة، ومستودع السر وديوان الأمور، وهو الذى قال عنه بيكاسو: «إن أقصى ما وصلت إليه فى فن الرسم وجدت الخط العربى قد سبقنى إليه»، وافتتانى بهذا الفن قديم وأسعدنى الحظ بالاقتراب من أهم نجومه فى مصر، وعلى رأسهم الأستاذان الراحلان محمد حمام ومحمد العيسوى، وهما إلى جوار موهبتيهما العظيمة يمتلكان من العذوبة والرقة والطيبة ما تعجز عنه الكتابة، لا أدعى أننى من المتخصصين فى الحديث عن تقنيات وأنواع وتواريخ الخطوط، وأصنف نفسى من المتذوقين لهذا الفن مثل غيرى، وحين اتصل بى فنان الخط الموهوب الصديق إبراهيم بدر للمشاركة فى احتفالية ضخمة حول منجز أستاذه محمد حمام مطلع الشهر المقبل، وافقت على الفور، لأننى شعرت بأننى مقصر فى حق المحتفى به، والذى كان صاحب فضل على ذائقتى، وأيضًا لأن بينى وبينه تاريخًا من المودة والصداقة والسهر فى تجاعيد القاهرة، وبالقرب من أولياء الله الصالحين وفى قريتى هورين بمحافظة المنوفية وفى مرسمه فى حى عابدين بصحبة فن تلاوة القرآن والغناء ونوع راقٍ من الأصدقاء، وجود حمام فى أى مكان يعنى أنك أمام البهجة تمشى على قدمين، ابتسامته الطفولية تسبق جسده المهيب، وتضىء وجهه الأسمر. ولد الأستاذ حمام بحى عابدين فى ١٩ أبريل سنة ١٩٣٥ وحفظ القرآن بمدرسة السلطان الحنفى، وحصل على المركز الثانى وهو فى الحادية عشرة من عمره على المملكة المصرية، ومن هنا كانت بدايته، حيث كانت مدارس التعليم أساسها اللغة العربية والخط، وهما وجهان لعملة واحدة، وهما بمثابة الأذن والعين للجسد، وكبار الخطاطين تعلموا أساسًا الخط من المشايخ الكبار، وكان المدرسون يكتبون بخط جميل على السبورة، وكان تعليم الخط أساسًا فى الأزهر ودار العلوم والمعلمين، حتى تأسست كلية الفنون الجميلة، وكليات اللغة العربية، فالخط جزء من هوية الإنسان المصرى والعربى، كما كان يردد حمام. مع بداية التليفزيون عمل خطاطًا، ثم التحق بـ«الأهرام» وكان يكتب مانشيتات الجريدة العريقة، سافر إلى ليبيا سنة ١٩٦٨ وشارك فى تأسيس مدرسة ابن مقلة هناك، عاد إلى مجلة أكتوبر سنة ١٩٧٧، وعمل لمدة فى الإمارات، وشارك فى أهم معارض الخط العربى وأشهرها معرض ومؤتمر الخط العربى بالعراق سنة ١٩٨٨، وقبل رحيله فى ١٧ أبريل ٢٠٢٠، كان أستاذًا بأكاديمية الخط العربى وعضوًا مؤسسًا للجمعية المصرية للخط العربى منذ تأسيسها فى ١٩٩٥ وعضو مجلس إدارة الخط العربى بوزارة التربية والتعليم. كان الأستاذ حمام هو محامى الخط واللغة العربية، يتواصل مع الناس بالحديث عن قضيته الكبرى، ولأنه كان خفيف الظل كان يكسب كل يوم مؤيدين له، كان يرى أن الخط العربى هو اللغة العربية والقرآن وهو جزء من هُويتنا، وكان هذا الفن يتبع قديمًا «الأوقاف الملكية»، ثم صار يتبع وزارة المعارف، وكان يحتفظ بنسخ قديمة من «الأهرام» و«المصور» و«الهلال» صدرت فى شهر رمضان، كان يكتب فيها المسلم والمسيحى واليهودى. لقد عرفت مصر أعظم الخطاطين على مر العصور، وإلى وقت قريب كنا نملك أسماءً عظيمة لا يمكن الحديث عن الخط العربى على مستوى العالم دون الإشارة إليها، مثل سيد إبراهيم ومحمد حسنى ومحمد على المكاوى ومحمود إبراهيم ومحمد العيسوى وغيرهم، وقديمًا كان الخطاط فى القصور الملكية يحصل على رتبة البكوية لأهميته، وقد حصل عليها كل من سيد بك إبراهيم وسيد بك عبدالقوى، وكانا يعملان فى مجلة المصور، وحكى حمام أن الاحتلال الإنجليزى لما أراد تسمية الشوارع والحارات والميادين فى القاهرة فى ثلاثينيات القرن العشرين امتحنوا ثلاثين خطاطًا، ووقع اختيارهم على ثلاثة خطاطين فقط للقيام بهذه المهمة، وهم محمد بك جعفر والشيخ على بك بدوى ومحمد بك محفوظ، وهؤلاء هم من كتبوا لنا هذا التراث الخطى البديع المنتشر فى شوارع القاهرة حتى الآن، وهذا التراث لندرته وأهميته أصبح عرضة للسرقة، لم يكن حمام ضد التطور الذى حدث بسبب دخول الكمبيوتر على فنه المحبب، ولكنه كان ضد استخدامه بطريقة خطأ، فلن توازى لوحة كتبها خطاط بروحه ودمه، وخطوط الكمبيوتر لا روح فيها ولكن بسبب متطلبات العصر اختار المستخدمون الكمبيوتر كصنايعى شاطر تغذيه بالمعلومات فيقدم لك النتيجة، وهو حزين لأن الشركات العالمية تجاهلت الخطاطين المصريين. ودائمًا ما كان يقول إن مصر قبل قرن من الزمان كانت شوارعها معارض للخط العربى، توجد فيها لافتات الأطباء والصيدليات والمحال والمعارض، وحكى لى مرة أنه ذهب إلى طبيب مشهور بعد تعرضه لحادث سير «كان كثير الحوادث» ولم يدخل العيادة لأن اللافتة الموجودة كانت سيئة جدًا. كان من أحلامه فى نهاية أيامه التفرغ لكتابة المصحف الشريف كاملًا، وهى مهمة لو تعلمون عظيمة، وبالفعل تواصل مع «الأهرام» عن طريقى، ولكن ظروفه الصحية لم تسمح له بذلك، الأستاذ حمام الخطاط الذى كان يردد «الخط للأمير كمال وللغنى جمال وللفقير مال»، رمز كبير للموهبة والطيبة والبهجة.. أما حمام الإنسان والصديق الحبيب فتحتاج حكاياتى معه إلى كلام آخر.