رحت فين ياعلى؟. وضاع منير آخر.. لماذا خلّدت القاهرة ابن النوبة بينما تاه ابن البادية بعد «لولاكى»؟.. ورق الصحف يجيب
- لقب «مطرب لولاكى» كان السجن الذى حبس على حميدة فيه مشروعه الغنائى
- منير دافع بشراسة عن ارتباطه بالنوبة ورد على اتهامات «الكواكب»
نشرت «الكواكب» فى عددها الصادر يوم ٩ مايو ١٩٧٨ خبرًا قصيرًا بعنوان «الأغانى البدوية فى صوت العرب»، والخبر عن برنامج جديد دشنته «صوت العرب» وقام بإعداد الموسيقى التصويرية له معيد شاب بالمعهد العالى للموسيقى اسمه على حميدة.. ومرفق بالخبر صورة لشخص يحمل ملامح طفولية أتى من الغرب إلى القاهرة هاربًا بموهبته من سطوة تقاليد قبائل مطروح الرافضة، حد التحريم، غناء الرجال.. لاحقًا بعد نشر الخبر بعشر سنوات كاملة سيتربع هذا الشاب على عرش لم يصل إليه أحد نتيجة مبيعات خيالية لألبومه الأول الذى حمل أغنية امتزجت بكل شىء فى تلك الفترة وهى أغنية «لولاكى» بالطبع.
لكن قبل نشر نفس الخبر بشهور قليلة كان الظهور الأول لشاب آخر أكثر سمرة قد أحضر موهبته معه من الجنوب وشد الرحال إلى القاهرة ليدرس التصوير السينمائى بكلية الفنون التطبيقية.. محمد منير الشاب صاحب الـ٢٣ عامًا تلقفته أيدى وقلوب متلهفة للمواهب وعلى رأسهم هانى شنودة وعبدالرحيم منصور، ليصدر فى تلك السنة أثناء دراسته فى الكلية أول ألبوماته وهو «علمونى عينيكى» تحت رعاية ونظر ابن ثقافته النوبية أحمد منيب.
مرت الأيام سريعًا لنقفز إلى بداية الثمانينيات ونتصفح «الكواكب» فى عدد ٧ يوليو ١٩٨١ لنجد خبرًا متطابقًا تمامًا فى المساحة والشكل الإخراجى مع خبر نهاية السبعينيات لعلى حميدة لكنه هذه المرة بعنوان «مطرب الوادى محمد منير»، أما فحوى الخبر فكان تأريخًا للألبوم الذى كان بمثابة البداية الحقيقية للمطرب النوبى الشاب وهو ألبوم «شبابيك» التجربة الفنية الأهم فى تاريخ الثنائى يحيى خليل ومحمد منير، كما يؤرخ العارفون بالأمور.. وبالفعل نجح الشريط الثالث له نجاحًا كبيرًا، حيث كان منير قد أصدر شريطًا آخر قبله بـ٣ سنوات بعنوان «بنتولد» لم ينل حظه من اللمعان اللهم إلا فى أوساط شباب الجامعات والمثقفين الحالمين بأصوات جديدة تعبر عن جيلهم.
خلال تلك الأيام كان الشاب البدوى المعيد بالمعهد العالى للموسيقى يحاول أن يتلمس طريقه فى الفن حاملًا عوده الذى كان يجيد العزف عليه ويقوم بتدريس أسراره فى المعهد.. ومرت الثمانينيات، سنة وراء الأخرى، دون أن يترك على حميدة أثرًا فنيًا يذكر، وإن كان بدأ يُعرف فى الوسط كدكتور لآلة العود وأصبح صديقًا مقربًا لشاب ينتمى لنفس ثقافته البدوية ليبى الجنسية اسمه حميد الشاعرى.. سيقف لاحقًا مؤرخو الموسيقى كثيرًا أمام دوره عندما يكتبون عن أساطير الأنغام.. تلقفه حميد الذى يشاركه فى المرجعية الثقافية لأهل البادية كما يشاركه غرامه بطبخ المبكبكة، الأكلة البدوية الأشهر، حتى أفرزت تلك الصداقة سنة ١٩٨٨ معجزة أو قل طفرة جينية فى سوق الكاسيت.. بعد أن أصدر ابن البادية أول شريط له وهو «لولاكى» من توزيع حميد الشاعرى، ليقلب الشاب القادم من مطروح فى أقصى غرب مصر الطاولة على الجميع بمبيعات خرافية لم تكن متخيلة.. ستؤرخ لاحقًا على أنها أعلى مبيعات فى تاريخ سوق الكاسيت.
ما حدث من نجاح أسطورى كان أبعد من خيال على حميدة ابن البادية البسيط الذى كان يحمل ثقافته البدوية على استحياء فى بادئ أمره فى القاهرة، لكن بعد تلك المعجزة بدا أن الطريق ممهدًا لاستثمار هذا النجاح الأسطورى لنشر فن بيئته الجديد على أهل العاصمة.
ووجد «على» نفسه مطلوبًا فى كل مكان سواء سينما أو تليفزيون أو مسرحًا أو حفلات استثمارًا لذلك النجاح المدوى، ويبدو أن «على» لم يترو.. لكنه ترك نفسه للتيار الاستهلاكى الجارف الذى لا يهمه القيمة الفنية بقدر المقابل المادى السريع ليجد نفسه سريعًا يقف أمام كاميرات السينما دون أى دراسة للتمثيل ليظهر باهتًا فى أفلام مقاولات كان المفترض أن تكون كبيرة طبقًا لترشيحات الممثلات أمامه وقتها مثل سعاد حسنى وشريهان.. لكن هذا لم يحدث وخرجت الأفلام فى صورة نهائية غاية فى السوء.. وبقى على حميدة غارقًا فى تلك الطفرة الجينية للنجاح حتى منتصف التسعينيات تقريبًا مشدوهًا بنجاح مدوٍ لم يتوقع ربعه حتى.
على العكس تمامًا ما بدا عليه الشاب النوبى الذى كانت ألبوماته تتوالى بمنتهى الثقة وكأنه يمشى على تراك محدد سلفًا ودروبًا قد درسها جيدًا.. ألبومات تحقق نجاحًا معقولًا، صحيح أنه لم يقترب حتى من نجاح «لولاكى» لكنه كان كافيًا جدًا ليخلق مسارًا فنيًا خاصًا به.. له جمهور يتزايد يومًا بعد يوم وينصبونه ملكًا عليهم. ويصير لقبه «الكينج محمد منير».
أما على الناحية الأخرى فقد بدأت الأضواء المحيطة بعلى حميدة فى الانحسار ثم وقع ابن البادية فى أكثر من مشكلة مثل قضية الضرائب التى كانت على ما يبدو شماعة مناسبة جدًا ليعلق عليها مطرب البادية الموهوب تقصيره فى حق موهبته ويصر على أنه وقع ضحية اضطهاد سياسى ومؤامرة فنية لإسقاطه. لسنا هنا بصدد التنظير ولكن للتأمل عبر حوارين لاثنين كانا يحملان على أكتافهما ثقافة فنية جديدة وبذور مشروعين فنيين متفردين، أحدهما من الغرب والآخر من الجنوب.. لكن الأول أضاع المشروع دون أن يدرى تاركًا نفسه لأيادى المنتجين التى ألقته فى مساحات غيبته عن الوعى الفنى بأهمية مشروعه.. لكن الآخر الجنوبى كانت عيناه فى وسط رأسه حارسًا على مشروعه الغنائى دون أن يحيد عنه.. فهيا بنا نقلب بين سطور كلام الاثنين.
- على حميدة تكلم فى كل حواراته عن «المبكبكة» أكثر من كلامه عن فنه المتفرد حينها
صدرت مجلة «الكواكب» يوم ٤ أكتوبر ١٩٩٤ بغلاف كامل «صورة وعناوين» للمطرب الذى لم يكسر أى مطرب رقم مبيعات ألبومه القياسى قبل ٦ سنوات وهو على حميدة.. وأفردت المجلة لقصة الغلاف ٣ صفحات بغلاف داخلى آخر فى حوار جميل للصحفى الدءوب والشاب وقتها أيمن الحكيم، وكانت المناسبة حينها «خطوبة مطرب لولاكى»، وهو اللقب الذى قضى على تجربة على حميدة فعليًا لأنه حبسه فى سجن أغنية واحدة.. وللأسف لم يحاول المطرب التحرر منه بل على العكس تمامًا، كما قلنا، تماهى ابن البادية مع هذا الوصف، وجاء أغلب حواراته الصحفية والتليفزيونية، لمن راقب ظهوره التليفزيونى الكثيف وقتها، كله يدور فى إطار ترفيهى مكرر يتحدث فيه على حميدة عن حبه للطبخ، خاصة «المبكبكة»، وهناك حلقة من برنامج «حوار صريح جدًا»، على سبيل المثال، الذى غنى على التتر له وكان من أنجح برامج رمضان فى التسعينيات، تضيع نصفها فى وصف «على» كيفية عمل بعض الأكلات الليبية.
كل هذا كان أمرًا يبدو طبيعيًا فى إطار الترفيه، خاصة أن أغلب تلك البرامج كان فى رمضان، لكن على حميدة للأسف على ما يبدو لم يدرك أنه مشروع فنى يعبر عن ثقافة غنائية جديدة بنت بيئته الغنية.. وكان الأولى به أن يروج لتلك الفكرة مثلما كان يفعل منير فى كل حواراته.. بل على العكس كانت أحاديث على حميدة عن بيئته الصحراوية دعاية غير محببة لأهل القاهرة، حيث كان يفتخر فى كل حواراته بمنتهى الاقتناع بأنه تربى على أن المرأة فى مرتبة متأخرة عن الرجل.. كما كان حريصًا على التأكيد مرارًا وتكرارًا بلا ملل أنه بالنسبة لقبيلته «رقاص» لأنهم يرون أن غناء الرجال عيب وحرام.. وهو ما ينسف المشروع الغنائى برمته.
فى ذلك الحوار الذى أجراه مع أيمن الحكيم ستجد مشكلة مشروع على حميدة متجسدة فى إجاباته عن الأسئلة بوضوح، حيث يقول بالنص فى إجابته عن سؤال للحكيم عن مواصفاته للزوجة: «كان لى مواصفات أن تكون بنت شكلها مريح من أسرة متواضعة صغيرة فى السن ميكونش تعليمها عالى لأنى عاوزها زى أمى.. زوجة تربى أولادى وترعى بيتى، فالأسر الناجحة تلاقى الأم فيها قاعدة فى البيت وغير متعلمة تعليم عالى»، ثم يكمل حميدة بإسهاب: «فالمرأة المتعلمة تحط راسها براس الراجل تقول لك أنا عايزة أروح أشتغل وإنت ضيعتنى وأنا ليا حقوق كذا وكذا.. المرأة فى رأيى مكانها الطبيعى هو البيت، وأنا مرة قلت الكلام ده فى إذاعة مونت كارلو وناس كتير زعلت منى، ومع ذلك ما زلت مُصر عليه لأن هى دى الحقيقة.. أنا أحب مراتى تقعد فى بيتى ما تخرجش.. لكن أتجوز واحدة موظفة أرجع أنا أستناها لما تخلص شغلها.. ثم إزاى ست تقعد فى مكتب واحد مع رجالة؟».
يكمل حميدة إطلاق قذائفه التى تدمر مشروعه الفنى بالتبرؤ من الفن أساسًا فى تناقض واضح آخر، حيث يحكى للحكيم عن موقف واجهه عندما رشحت شريهان للقيام بدور البطولة أمامه فى فيلم «لولاكى» وهذا ما قاله بالنص: «أنا لما جيت أعمل فيلم لولاكى كانت شريهان هى المرشحة لبطولة الفيلم أمامى، ولما عرفوا إخوتى الخبر ثاروا علىّ وقالوا: حد الله ما بينا وبينك إذا عملت الفيلم ده.. يا إحنا يا شريهان.. ليه يا جماعة؟.. دى بترقص إنت عايز تجيب العار للقبيلة».
انتهى الموقف الذى حكاه «على» وبقى السؤال الأخير الذى طرحه عليه أيمن الحكيم وكانت إجاباته تدعو للأسى، حيث كان السؤال: «سألوا عبدالوهاب أيهما تفضل.. حبك أم فنك؟ فأجاب: أقتل حبى وأركع فى محراب فنى فما هو رأيك؟».
جاءت إجابة على حميدة بالنص: «مع احترامى الشديد للموسيقار الراحل فأنا أرى العكس، أختار أن يكون لى بيت وأسرة حتى لو اضطرنى ذلك إلى اعتزال الفن».
انتهت إجابة على حميدة وما يدعو للأسى على حال هذا الفنان الجميل أنه للأسف الشديد بعد هذا الحوار بشهور قليلة دخل فى أتون مشاكل قضائية لا تنتهى وفشل مشروع خطوبته الذى غطته «الكواكب» وخسر الاثنين، فلا هو دافع عن مشروعه الفنى الجديد الذى غزا به القاهرة ولا صنع بيتًا هادئًا مستقرًا فى رحاب القبيلة.. وتوفى على حميدة مريضًا بالكبد يوم ١١ فبراير ٢٠٢١.
- محمد منير صدّر صورة متحضرة عن الثقافة النوبية فى كل أحاديثه الصحفية
ما زلنا فى «الكواكب»، ولكن نعود ٩ سنوات كاملة فى عدد ١٦ أبريل ١٩٨٥ حوار آخر أجراه الصحفى الراحل، الشاب وقتها أيضًا، محمود الكردوسى، ولكن هذه المرة مع المطرب النوبى المثقف الشاب محمد منير.
الحوار غاية فى العزوبة بكتابة الكردوسى الرائقة، ومن الظلم حصر الكلام عنه فى تلك المساحة الضيقة.. لكن لا مانع من استنباط حالة منير الواعية بأهمية مشروعه الغنائى، وهو ما ظهر فى إجاباته خلال حوار غاية فى الجدية.
فيوجه الكردوسى اتهامات مباشرة مثلًا لمنير: «أنت متهم بالتمرد على تراث النوبة الغنائى!»، يرد منير بعنف مقنع على الاتهام الزائف قائلًا: «لا أعتقد أن ابن النوبة الذى صنعته جغرافيا مصر وتاريخها فى قلب الحضارة يمكن أن يعتبرنى متمردًا أو مغتربًا عن تراثه بدليل أن ٨٠٪ من الفكر الموسيقى فى أغنياتى يعتمد على تراث النوبة»، ثم عندما يتهمه الكردوسى بالخروج عن الوقار اللازم فى تقديمه للأغنية، يرد منير بمنتهى الثبات الانفعالى بدفاع مرتب يحمل وجهة نظر واعية مدركة يحمل ما يشبه اتهامًا مضادًا للجيل السابق عليه فيقول: «منذ أكثر من ربع قرن والمطرب فى مصر يعتمد فى تقديمه للفن على دستور معين فى الشكل والمضمون والأداء إذا خرج عليه الفنان فهو متمرد وهذا خطأ شنيع، لأن الأمر متعلق بنبض الشارع وليس بفلان أو فلانة».
ثم فى موضع آخر من الحوار يرد بمنتهى الثقة على قذيفة أخرى للكردوسى الذى قال له: «أنت متهم بالارتماء فى أحضان جمهور شارع الهرم».. جاء رد منير: «باختصار شديد جدًا أنا لا أرى فى جمهور شارع الهرم صورة مختلفة كثيرًا عن أى شريحة فى المجتمع».
استمر الحوار بين منير والكردوسى ليكشف عن أحلام الفتى النوبى وآرائه فى الرواد الذين حرسوا مشروعه منذ بدايته.. تحدث عن فؤاد حداد وعبدالرحيم منصور ومجدى نجيب وسيد حجاب ومعهم أحمد منيب ويحيى خليل وهانى شنودة، وقال عنهم: «لقد وجهونى وعلمونى الاستقلالية والتميز فى الفن، وعلمونى معنى أدب الاستماع والارتباط بالناس».
الشاهد فى الموضوع هنا بالنظر إلى حوار منير فى الثمانينيات بعد نجاح كبير لألبوم «شبابيك» وحوار على حميدة فى التسعينيات بعد نجاح أسطورى لـ«لولاكى»، أن الأول أخذ الأمر بجدية أكدها فى كل حواراته ونقل صورة النوبة لتظهر واضحة جلية فى سماء القاهرة وتصير ثقافتها عنصر جذب لأبناء المدن، لكن الثانى ابن البادية بالرغم من موهبته الكبيرة المصقولة بالدراسة الأكاديمية لم يحاول أن ينقل فن بيئته إلى المدينة بقدر ما حاول أن يطوى المدينة ويلبسها تقاليده التى لم تقبلها القاهرة ولن يستوعبها القاهريون، فكان أن استوعبت العاصمة الأول وآمنت بمشروعه وغذته حتى صار الملك محمد منير ولفظت للأسف الثانى وصار مطرب «لولاكى» أو مطرب الأغنية الواحدة ليموت المشروع إلى الأبد.