23 يوليو«1-3»
تهل علينا هذه الأيام ذكرى ٢٣ يوليو ١٩٥٢، وهى من أهم الأحداث التاريخية فى مصر المعاصرة، إن لم يكن هو الحدث المؤسِّس لتحول محورى فى تاريخ مصر، وهو الانتقال من النظام الملكى إلى النظام الجمهورى، هذا فضلًا عما يتبع ذلك من متغيرات اجتماعية، سواء على مستوى البناء الطبقى، أو حتى أيديولوجية المجتمع.
أعتبر نفسى من أنصار الحوار الهادئ حول تاريخنا، ومحطاته المفصلية، وانعطافاته الحادة، وأدعو دائمًا لهذا المنهج، وأعترف أننى حتى الآن لم أنجح فى فرض هذا الأمر على دائرة الحوار. وكم كانت صدمتى عندما طرحت هذا الأمر على هذا النحو، عندما بادرنى بعض الأصدقاء بطرح هذا السؤال غير العلمى: يعنى هل أنت مع أو ضد ٢٣ يوليو؟!
وأعترف أنى من أكثر الناس حرصًا على العلاقات الإنسانية مع الأصدقاء، فالحياة دون أصدقاء لا معنى لها، لكن فى السنوات الأخيرة، وبالتحديد منذ ٢٥ يناير و٣٠ يونيو، أصبح الخلاف فى الرأى للأسف الشديد يُفسِد للود قضية. وكم رأيت من مناقشات فى السياسة بين الذين من المفترض أنهم أصدقاء، انتهت للأسف بالسُّباب العلنى، وأحيانًا أخرى بالقطيعة. وأيقنت للأسف الشديد أننا لا نسمع بعضنا البعض، بل نريد سماع أنفسنا، وحتى لو سمعنا الآخر فإننا لا نحاول أن نتفهم منطقه، بل دعونى أقولها صراحة، إننا نحاول بالفعل نفى الآخر، ونُعلى من شأن الأنا، بينما ندّعى أننا من أنصار الحوار وسيادة الديمقراطية!
عودة مرة أخرى إلى محطة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، هذا الحدث المهم الذى أصبح هو العيد الوطنى لمصر حتى الآن. وأزعم أن المشكلة الكبرى فى تناولنا لهذا الحدث الكبير، وأيضًا لغيره من الأحداث المهمة، هى وقوعنا فى فخ الانحيازات، وخاصةً ثنائية: أبيض أم أسود؟ وننسى أنه حتى فى أى لوحة لا يوجد لون وحيد، وأن صُناع التاريخ ليسوا ملائكة، بل بشر يُخطئون ويُصيبون، وأن المساحات الرمادية هى السائدة فى لوحة التاريخ.
وربما تبدأ ثنائية الأبيض والأسود مع ٢٣ يوليو من مجرد طرح السؤال النظرى والهُلامى فى الوقت نفسه: ثورة أم انقلاب؟! وعليك أن تُحدد موقفك بوضوح هل ٢٣ يوليو ثورة أم انقلاب؟ والحق أن مجرد طرح السؤال على هذا النحو ينم عن موقف سياسى حاد، مع أو ضد، وبعيد كل البعد عن الرؤية التاريخية الرصينة التى تسعى لدراسة تطور الحدث وتحولاته. وأزعم أن من قاموا بهذا الحدث، أقصد ٢٣ يوليو، لم يطرحوا على أنفسهم فى البداية هذا السؤال، لأنهم كانوا أكثر عمليةً، وبراجماتيين تتطور رؤيتهم مع تطور الأحداث. لقد بدأوا بطرح شعار «حركة الجيش» وبعد فترة أصبح المُسمى الجديد «الحركة المباركة»، ثم جاءت تسمية الحدث بالثورة من خارج مجموعة الضباط الأحرار، ومن أوساط المدنيين، وهناك خلاف حول أول من أطلق مصطلح «الثورة» على ما حدث فى ٢٣ يوليو، ويرى البعض أنه طه حسين نفسه، ولكن على أى حال كان الضباط الأحرار تتطور رؤيتهم وفقًا لتطور الأحداث، كما لم يكونوا على قلب رجل واحد، وهذا ما سنراه فى المقال القادم.