سيناء.. ومحاولات النصب الجديدة
- لا يوجد خلاف بين الشعبين المصرى والفلسطينى فى إدراكهما حقيقة الفخ ولا خلاف بينهما على النظر إلى القضية الفلسطينية نظرة وطنية خالصة كما كان موقفهما دائمًا
- أى جدل ذى صبغة تاريخية يحاول أن يثبت أى حقوق تاريخية لغير المصريين فى سيناء فهو محض دجل تاريخى
بعيدًا عن الأوهام الصهيو- أمريكية بالحصول على موافقة الدولة المصرية فى أى فترة حالية أو مستقبلية للتبرع بجزء من أراضيها للغير، فهناك سؤال مهم لم يتم طرحه ولو بشكل افتراضى نظرى. هذا السؤال هو: هل أفكار التوطين فى سيناء، من وجهتى النظر الأمريكية والإسرائيلية، هى حقًا لتقديم حلول نهائية للقضية الفلسطينية وإنهاء معاناة الشعب الفلسطينى، وبدء مرحلة تاريخية جديدة ينعم فيها الجميع بالاستقرار، أم مجرد خطوة فى مشروع أكبر لا يعلنون عنه؟!
هل يريدون حقًا إنهاء معاناة اللاجئين وإقامة دولة، بغض النظر عن شكل تلك الدولة، فلسطينية دائمة يعود إليها الفلسطينيون من شتاتهم الذى تخطى سبعة عقود؟!
هناك اختلاف بين الرؤية الأمريكية والأخرى الصهيونية. فبعض الرؤساء الأمريكيين تمنوا أن يستطيعوا الحصول على انتصارات سياسية كبرى ولم يكن هناك أقوى زخمًا من مساعدة إسرائيل فى الحصول على مكاسب تاريخية مثل تصفية قضية اللاجئين، أو ضمان سيطرتها على القدس الشرقية أو إلغاء قوانين دولية سابقة مثل قرار ٢٤٢ المؤيد لقيام دولة فلسطينية على الأرض الفلسطينية على حدود ما قبل حرب يونيو. ونجاح أى رئيس أمريكى فى الحصول على موافقة مصرية على تنفيذ خطط التوطين سيكون بمثابة تخليد لهذا الرئيس فى تاريخ بلاده وفى تاريخ إسرائيل ذاتها، وهذا هو السبب فى المساندة الأمريكية لتنظيم الإخوان بشكل رسمى معلن بعد الحصول على موافقة التنظيم على هذا المخطط، بعضهم حاول ذلك فى أوقات ما قبل الانتخابات، وبعضهم قدمه كوعود انتخابية للحصول على أصوات اللوبى الأشهر وعلى تأييد الشركات وبيوت المال الحاكمة الفعلية لسياسات الجالس على المقعد الأهم فى العالم المعاصر، وبعض هؤلاء الرؤساء يؤمنون تمامًا ويطمحون بشكل مطابق لما تطمح إليه الصهيونية.
أما الرؤية الصهيونية فهى تختلف تمامًا عن الرؤية الأمريكية العامة، وتتفق فقط مع رؤية بعض الرؤساء والساسة الأمريكيين المؤمنين عقائديًا بما ابتدعه مارتن لوثر، فبالنسبة للصهيونية ومنذ أن غيّر اليهود رؤيتهم الدينية فى نهايات القرن التاسع عشر، أصبحت سيناء جزءًا لا يتجزأ من أرض الميعاد، لأنها من ناحية هى الأرض التى شهدت تنزيل التوراة، ومن ناحية أخرى تم تفعيل النص التلمودى الذى أشرت إليه فى الجزء السابق الذى يشير إلى أن هذا الوعد يشمل كل تلك الأراضى من النيل إلى نهر الفرات الكبير.
لذلك ومنذ نهايات القرن التاسع عشر، فقد بدأوا فى وضع خطط طويلة الأمد لتنفيذ تلك الرؤية على الأرض، الأرض الفلسطينية.. والمصرية، منذ عقد المؤتمر الصهيونى الأول وطوال القرن الماضى، تفوقت العقلية الصهيونية على العقلية العربية فى تبنيها سياسة طويلة الأمد. ودون أن يتعجل أى جيل صهيونى فى الوصول لخط النهاية المحدد دون أن تضمن الصهيونية وتمهد وتتأكد تمامًا من قدرتها على هذا الوصول، هذا المنهج فى التنفيذ هو الذى أدركه السادات وحاول تطبيقه فى مفاوضات السلام لإدراك ما خسرته القضية الفلسطينية، فاتهمه العرب بالخيانة.
طبقًا لتطبيق هذا المنهج، فقد خطت الصهيونية خطوات كبرى، لكنها كانت خطوات متباعدة زمنيًا. فعام ١٩١٧ كانت خطوة الانتداب البريطانى ووعد بلفور، وفى عام ١٩٤٨ إعلان قيام الدولة، عام ١٩٥٦ محاولة السيطرة على قناة السويس، ثم عام ١٩٦٧ الاستيلاء على سيناء، ثم أجبرتهم مصر على التراجع خطوات للوراء بانتصار أكتوبر، رأت إسرائيل أن هذا تراجع قسرى عارض عليها أن تستعد بعده لمواصلة تلك القفزات حين تمنحهم ظروف المنطقة، أو على الأحرى ظروف مصر، الفرصة لذلك.
بعد حالة الميوعة السياسية فى مصر بعد تنحى مبارك، كانت إسرائيل تدرك جيدًا أن قوة مصر الصلبة لم تفقد لياقتها وكانت خارج هذه الحالة الفوضوية، لذلك لم تحاول إسرائيل أن تقوم بمغامرة عسكرية ضد مصر، لكنها كانت تعد العدة، عبر إدارات ومؤسسات الكاوبوى، لاستئناف قفزاتها الكبرى بالاتفاق مع تنظيم الإخوان.
لذلك فإجابة السؤال أن الصهيونية لا تريد، من خلال طرح مشاريع التوطين فى سيناء، تقديم حلول نهائية للقضية الفلسطينية، لكنها تريد فقط استغلال عقود الربيع العربى للقفز قفزة أخرى كبيرة نحو الغرب أى نحو السيطرة على سيناء، بصفتها أصبحت جزءًا من أسطورة أرض الميعاد، ثم الوصول لنهر النيل.
فهم يتحدثون عن دويلة فلسطينية منزوعة السلاح لا تقوى على صد الآلة العسكرية الإسرائيلية تمامًا مثلما يحدث فى قطاع غزة، أى أن ما تطمح الصهيونية إليه هو التمدد غربًا عبر تلك الدويلة التى لن تكون قادرة على حماية سمائها أو حدودها، ولن تكون دولة طبيعية تمثل فاصلًا آمنًا يفصل بين الدولة العبرية والدولة المصرية، الخطة هى تحقيق قفزة أخرى تضاف إلى ما سبقها من قفزات منذ بداية القرن العشرين، انتظارًا لقفزة جديدة ربما تأتى بعد سنة أو سنوات أو حتى عقود حسب ظروف مصر السياسية والعسكرية.
إن أخطار خطط التوطين فى أرض مصر تتجاوز المخاوف المشروعة للشعب الفلسطينى من تصفية قضيته الوطنية، وتخلص إسرائيل من كل القرارات الدولية السابقة الضامنة لحقوق هذا الشعب مهما تقادم الزمن. فتلك الأخطار تتجاوز ذلك إلى ما هو أبعد وأعمق من ذلك، وهو بدء المرحلة الثانية فى تحقيق الأسطورة الكبرى على الأرض. ففى المرحلة الأولى تم الاستيلاء على فلسطين، وآن الأوان أن يشرعوا فى تحقيق المرحلة الثانية ببدء السيطرة على سيناء بعد الفشل فى السيطرة عليها بقوة السلاح.
هذا هو الفخ الذى يتعمدون فيه الصمت التام عن أى حديث عن موضع سيناء فى الجنون الصهيونى، بينما يتسع الحديث ويتشعب عن الحل الشامل الدائم الذى يتحقق معه استقرار الشعب الفلسطينى وإنهاء حالة الشتات له، ومن المهم أن يعى المصريون المعاصرون هذا جيدًا. عليهم أن يعوا أن جزءًا من أرضهم واقع فى تلك الخارطة الشيطانية التى رسمها بالدم أحد رجال الدين المسيحى فى القرن السادس عشر، على المصريين أن يدركوا أن أفكار التوطين ليست إلا جسرًا تحاول الصهيونية مده للعبور عبره إلى أرض مصر.
ويمكن تلخيص كل تلك الأفكار مثل الوطن البديل أو تبادل الأراضى أو التوطين فى سيناء بأنها محاولة لعملية نصب سياسى كبرى مثلما قام به ساسة أوروبا فى الفترة من القرن السادس عشر وحتى التاسع عشر، عملية نصب يتم فيها تسويق عبارات مثل إنهاء معاناة الشعب الفلسطينى لتخدير البعض حتى تمد الصهيونية قدمها غربًا.
لا يوجد خلاف بين الشعبين المصرى والفلسطينى فى إدراكهما حقيقة الفخ، ولا خلاف بينهما على النظر إلى القضية الفلسطينية نظرة وطنية خالصة كما كان موقفهما دائمًا عبر العقود الماضية وكما توحدا معًا ضد الاحتلال الصهيونى وفى مساندة الشعب الفلسطينى، إنما كان الخلاف بين الشعبين معًا من ناحية، وبين التنظيم، بشقيه المصرى والفلسطينى، الذى تواطأ مع الصهيونية لتنفيذ المخطط من ناحية أخرى.
كيف يواجه المصريون هذا الجنون الصهيونى؟!
من حيث الفكرة نفسها أو الأسطورة التى خلقها مارتن لوثر فى القرن السادس عشر، فالمصريون، مسلمين أو مسيحيين، مطالبون حقيقة بالانتباه لعدم السقوط فى فخ استدراجهم للانزلاق فى تيه مناقشات دينية بيزنطية لا تعنيهم، فلا المصريون المسلمون ولا المصريون المسيحيون يؤمنون بالمسيحية الصهيونية، فنحن المصريين، مسلمين ومسيحيين، نرفض هذه الهرتلة التى يريدون أن يغلفوها بأثواب القداسة على غرار الحروب الصليبية وعلى غرار غزو العرب لبلاد الغير، فعلى المصريين أن يحددوا نوع المواجهة ومصطلحات النزاع التى ستحكم سلوكهم فى أى معارك مستقبلية.
يروق للبعض من المصريين أن يجر باقى المصريين إلى فخ الأساطير الدينية المسلمة الموازية لتلك اليهودية أو المسيحية الصهيونية، وذلك بإعادة التفتيش فى النصوص التراثية القديمة وإعادة الحياة لبعضها. فبعد قيام الدولة الصهيونية وبعد عودة ظاهرة التنظيمات السرية المسلمة، رأت هذه التنظيمات أن تشرعن دينيًا لنفسها عن طريق إعادة نصين من التراث، أحدهما يخص قصة اليهود ويتنبأ بمعركة كبرى بين اليهود والمسلمين، لكن لكى يحدث ذلك فلا بد أن يتجمع اليهود فى أرض واحدة هى ما يعرف بأرض الميعاد.
هذا يعنى أن ننتظر جميعًا حتى تحقق الدولة الصهيونية كل أهدافها بالاستيلاء على ما تريده من أراضينا ثم نخوض تلك الحرب المقدسة بالسيناريو المرسوم فى ذلك النص التراثى، بل ربما يقودنا هذا الجنون إلى ما هو أبعد من مجرد الانتظار، إلى القيام بما قام به المتعصبون من مسيحيى أوروبا بعد أسطورة مارتن لوثر وأن نتبنى فكرة العمل على تحقيق الرؤية التراثية المسلمة بمساعدة الصهيونية والعمل على تجميع ما بقى من اليهود فى أرض فلسطين انتظارًا للحرب المقدسة.
وربما يفسر ذلك سر هذا السلوك الذى اتسمت به الغالبية العظمى من تلك التنظيمات السرية المسلمة طوال العقود الماضية بعدم توجيه طاقاتها العسكرية الدموية تجاه الاحتلال الصهيونى، وبدلًا من ذلك فقد وجهت تلك التنظيمات التكفيرية قدراتها على التدمير والحرق والقتل تجاه دولها وأنظمة الحكم بها، وتجاه شعوبها التى تؤمن بفكرة قداسة التراب الوطنى القائم عليها فكرة الدولة الوطنية ذاتها، هذه التنظيمات «الغشيمة» الساذجة فى أفكارها العقائدية رغم تعاظم قدراتها على الأرض فى العقود السابقة، أرادت أن تمهد ساحة الحرب المقدسة أولًا قبل خوضها، والتمهيد من وجهة نظرها هو العودة بالمسلمين إلى العصور الأولى بحاكم واحد ودولة واحدة تقوم على فكرة دينية ثم تواجه اليهود طبقًا لتلك النبوءة الدينية.
السماح لتلك الأفكار بأن تسود العقل الجمعى المصرى هو فى حد ذاته هزيمة للدولة المصرية لا ينبغى السماح به، لأن فيه تخديرًا سلبيًا للطاقات والقوة الوطنية، ومحاولة نشر حالة من الرضا بـ«البرطعة الصهيونية» انتظارًا لتلك الحرب المقدسة، «التى ربما يخوضها جيل أفضل منا»، حسب التعبير الحرفى الذى سمعته كثيرًا جدًا من مصريين.
لذلك فالخطوة الأهم فى مواجهة المصريين للجنون الصهيونى هى أن نحدد نحن على أى خلفية تكون المواجهة، وإننى أرى أن مصر، عبر العصور، كانت فى ذروة قوتها حين كانت أفكار قداسة الأرض سائدة مع توافر القوة اللازمة دائمًا لحماية تلك الأرض.
أما من ناحية العقيدة التى يمكنها أن تشحذ همم رجالها وضرورة أن تنضوى تلك العقائد تحت راية الدين تماشيًا مع الشخصية المصرية المعاصرة، فيكفى هنا الموقف الإسلامى الصريح فى أن مَن يُقتل دون أرضه أو عرضه أو ماله فهو شهيد.
أما أى جدل ذى صبغة تاريخية يحاول أن يثبت أى حقوق تاريخية لغير المصريين فى سيناء فهو محض دجل تاريخى، ربما يكون الشعب الفلسطينى الشقيق مضطرًا دائمًا لخوض هذا الجدل كجزء من معركته، وذلك لتشاركه قديمًا مع بعض القبائل العبرية فى السكن بأرض كنعان القديمة، أما مصر فهى غير مضطرة لخوض هذا الجدل الذى يريد أن يخلق من الأوهام والأكاذيب حجر أساس مسروقًا تحاول الصهيونية مستقبلًا البناء عليه، تمامًا كما قال أحدهم سابقًا للرئيس السادات: «الهرم الأكبر الذى بناه أجدادى»، وكانت ابتسامة السادات الساخرة خير رد على تلك الخزعبلات.
أما السبيل الوحيد الذى ينبغى على مصر اتباعه دائمًا، فيما يتعلق بقصة سيناء ومحاولة النصب الصهيونية الأحدث المتعلقة بها، فهو سبيل القوة المجردة، القوة القادرة على تحطيم أى أفكار طامعة فى أى متر مربع من أرض مصر بغض النظر عما ترتكن إليه تلك الأفكار والخطط من هوس عقائدى قديم أو أساطير مصنوعة فى القرن السادس عشر، قوة مصر العسكرية القادرة هى مسألة وجوبية حتمية لا تقبل أى مساس أو مساومة أو ابتزاز، هذا هو الحق المبين وهذه هى اللغة الوحيدة التى سيفهمها رعاة الصهيونية دون الحاجة إلى وسطاء أو مترجمين، وهذا ما ينبغى أن يعيه المصريون، أن بقاء مصر قوية قادرة عسكريًا بصفة دائمة هو مسلمة مصيرية لا ينبغى أن يفرط فيها المصريون حتى لو جاعوا، فهذا قدر مصر الجغرافى والحضارى.
فبعض الدول تلقى بها أقدارها فى مواجهة خطر دائم قابع على حدودها، وإن لم تدرك تلك الدول شعبيًا هذه الحقيقة فربما تدفع أثمانًا باهظة، فتسليح الدول هو من بديهيات الأمور القائمة عليها الدول، لكن فى حالة الدولة التى كُتب عليها أن تواجه خطرًا دائمًا، تتعاظم فكرة وجوبية الحفاظ على مستوى قادر عسكريًا وبصفة دائمة، وفى هذا يحضرنى ما كنا نطالعه أحيانًا فى السنوات السابقة حين كانت مصر توقع بعض اتفاقات التسليح، حين كنا نطالع ما يعبر عنه بعض المصريين من دهشة لتلك الصفقات، لو استبعدنا ما هو موجه ومنظم من حملات دعاية ضد رؤية الدولة المصرية فى الحفاظ على قدراتها العسكرية، ولو افترضنا أن بعض المصريين العاديين بالفعل يستنكرون قيام بلادهم بذلك، فهذا منبعه غياب الثقافة المعلوماتية عند كثير من قطاعات الشعب المصرى، وهنا يأتى دور المؤسسات الثقافية والإعلامية فى ضرورة قيامها بالوصول بثقافة المصريين الجمعية إلى الحد الأدنى اللازم لإدراك بديهيات التحديات التى تواجه بلادهم بشكل دائم.
فأحيانًا وعند غياب هذا الحد الأدنى اللازم يأتى الخوف على الأوطان والدول من داخلها ومن بعض مواطنيها وشعوبها لا من أنظمة حكمها.