أشهر إعلان للمفقودين نشر فى الصحافة الورقية.. فى حب مضاد الاكتئاب القومى «خرج ولم يعد»
يوم ٤ أبريل ١٩٨٥ صدرت جريدة «الوفد»، التى كانت تفتخر فى نفس العدد بأن توزيعها تخطى نصف مليون نسخة بشهادة مطابع الأهرام.. لفت نظر القراء إعلان صغير متكرر عبارة عن تنويه معتاد عن المفقودين أسفل بعض الصفحات.. وبنفس الصيغة المتعارف عليها صورة شخص وفوقها كلمة واحدة «مفقود» وتحت الصورة اسم الشخص ثم عبارة «خرج ولم يعد».
إعلان تقليدى فى أقل الأماكن تميزًا فى الجريدة ووسط إعلانات التعازى والشكاوى وغيرها من المواد الخبرية الأقل أهمية.. أغلب الظن أن كثيرًا من القراء لم يلحظوا فى بادئ الأمر طبيعة الإعلان وظنوه إعلانًا عن المفقودين لا تخلو الجريدة اليومية منه.. لكن مع تكرار الإعلان المبدع فى فكرته فى خمس صفحات انتبه الجميع إلى أن المفقودين هم بترتيب نزول إعلانهم فى الصفحات: محمد خان وفريد شوقى ويحيى الفخرانى وعايدة عبدالعزيز وليلى علوى. وكان الإعلان المبتكر فى هذا اليوم بمثابة تأريخ صحفى لبداية معرفة الناس بفيلم استثنائى لم يخطر على بال صناعه أن يتم اختياره ضمن أفضل ١٠٠ فيلم عبر تاريخ السينما المصرية العريض.
كان الفيلم هو «خرج ولم يعد»، عرض الفيلم بعد نشر تلك الحملة الإعلانية فى الجرائد بأيام قليلة ليكشف الناس مساحة إبداع خيالية فى كل عنصر من عناصره وجرعة طاقة إيجابية تنضح بها كل مشاهده ومع مرور الزمن يتحول هذا الفيلم لأيقونة ويصبح مضادًا قوميًا طبيعيًا للاكتئاب.
الفيلم كان معروفًا فى الوسط النقدى والصحفى قبلها بشهور عندما عرض فى مهرجان الإسكندرية السينمائى، وأشاد الجميع بكم الصدق الهائل فى الفيلم على حد كتابة الصحفى الشاب وقتها محمود سعد فى تغطيته للمهرجان فى عدد مجلة صباح الخير بتاريخ ١٣ سبتمبر ١٩٨٤.
والواقع- وفقًا لحكى صناع الفيلم- وكل من عاصروه أن خان ورفاقه واجهوا مصاعب كبيرة حتى يخرج للنور، وكان الدور الأصعب بالنسبة لهم فى تسكينه هو دور كمال بيه عزيز الذى أداه ببراعة لا يمكن وصفها عملاق الشاشة فريد شوقى.. الذى قبل الدور فقط إشفاقًا على صانعيه الشباب بعد أن رفضه محمود مرسى وعادل أدهم وحسن عابدين، ورفضه فريد نفسه فى البداية، لكن خان ومنتج الفيلم ماجد موافى لعبا على عرق الجدعنة عند وحش الشاشة ليجبراه على القيام بالدور.
والمفارقة أن فريد شوقى بالفعل تعامل على ما يبدو مع الدور على أنه مجرد فعل خير أو قُل «حركة جدعنة» مع شوية شباب وراحت لحالها وأسقطه من حساباته حتى إنه لم يحضر العرض الخاص الأول طبقًا لرواية خان نفسه.. ولم يصدق ما رآه من احتفاء بالفيلم وبدور كمال بيه تحديدًا. حتى بطل الفيلم نفسه عطية الذى خُلق له يحيى الفخرانى كان معضلة كبيرة بعد أن واجه خان تعقيدات كبرى لإصراره عليه وهو الذى لم يكن نجم شباك.. قالوا له لم لا تأتى بعادل إمام أو محمود عبدالعزيز أو حتى أحمد زكى، الذى كان بريقه قد زاد وملأ سماء السينما.. لكن عين خان المبدعة لم تكن ترى عطية غير فى الفخرانى.. وكان هذا من أسباب رفض العمالقة أدهم ومرسى مثلًا دور كمال بيه على اعتبار أنه دور ثانٍ لحساب يحيى الفخرانى الذى لم يكن قد ملأ عيونهم كبطل أول بعد.
قيل وكتب وسيكتب عن هذا الفيلم الكثير ولن يوفى حقه.. وهذه محاولة صغيرة أخرى للكتابة من منطلق إعلان صغير عن شخص مفقود بعنوان «خرج ولم يعد».
عطية.. الرجل الذى لم ير صورته فى «الجرنان»
زحمة يا دنيا زحمة.. لم تكن مجرد أغنية غناها أحمد عدوية فى نهاية السبعينيات وكسرت الدنيا فى الثمانينيات، لكنها كانت عامرة بالدلالات المهمة، التى دفعت المخرج محمد خان إلى أن يجعلها هى البطل الصوتى فى آخر مشهد فى فيلمه البديع، حيث يركب عطية البيجو الـ«٧ راكب»- أيقونة المرحلة فى الطرق السريعة بين المحافظات خاصة الريفية منها- ليعود إلى مصر بعد أن لفظته خيرية بنت كمال بيه عندما اكتشفت دبلة خطوبته القديمة فى جيب الجاكيت بالصدفة.
يركب عطية البيجو الذى يصدح كاسيته بأغنية زحمة يا دنيا زحمة، ثم نرى مشهدًا معتادًا يعرفه كل من عاش تجربة مواصلات المحافظات حتى التسعينيات.. لقطة مكبرة للجريدة اليومية فى شماسة البيجو أمام السائق.. وهى الجريدة التى عادة ما يشتريها السائق ليسلى نفسه أثناء انتظار دوره فى تحميل سيارته.. ثم تتحول إلى «أوبشن» إضافى لكل قاطنى السيارة أثناء الرحلة وتتنقل الجريدة الورقية من يد إلى يد حتى تعود فى نهاية الرحلة إلى نفس الشماسة.
فى فيلمنا يأخذ عطية الجريدة بعد أن يستأذن السائق.. وعلى صوت عدوية يقلب فيها وهو المعزول عن العالم الخارجى منذ شهرين لتنسحب عيناه إلى العناوين الكئيبة للمدينة التى هو بصدد الرجوع إليها الآن.. العناوين كانت معبرة عما ينتظره.. مثل عنوان عن إنقاذ المنازل القديمة المتضررة وعنوان آخر عن انفجار ماسورة المجارى بالمعادى ومصر القديمة.. ثم خبر أشد قتامة بعنوان «ما زال البحث جاريًا عن ١٣ جثة فى اليوم السابع لغرق المركب بشبرا الخيمة».
ثم فجأة ينتبه عطية عبر زجاج البيجو أن خيرية حبيبته تسحب جاموستها الجميلة فى طريقها اليومى إلى الأرض، فيطلب عطية من السائق إيقاف السيارة وينزل مسرعًا فى اتجاه بنت كمال بيه عزيز، ثم فى منتصف الطريق إليها يعود إلى السيارة ليعطى السائق جريدته بعد أن نسيها فى يده ويلقيها على الكرسى بجانب السائق لتنسحب كاميرا خان على الخبر الأهم فى الجريدة والذى ربما لو كان رآه عطية قبل النزول لخيرية كان كل شىء تغير.
خبر معتاد فى تلك الفترة أو بالأحرى تنويه عن المفقودين بعنوان أكلاشيه لا يتغير «خرج ولم يعد» وتحتها صورة كبيرة لـ«عطية».
ثم ينتهى الفيلم الأسطورى بـ«عطية» وقد أمسك بحبل الجاموسة وكأنه حبل نجاته من حياة روتينية كئيبة كانت تنتظره فى زحام المدينة.. لتبتعد الكاميرا رويدًا رويدًا عن براح الريف الأخضر أمام عطية وخيرية ليوحى لنا خان بكاميرته البديعة بأن حياة جديدة مزدهرة تنتظرهما بعد أن خرج عطية من ماضيه المفروض عليه وقرر ألا يعود.
خوخة.. ثمرة عطية الحلال
خوخة أو ليلى علوى هى فاكهة آدم أو ثمرة عطية الحلال فى جنة كمال بيه.. بنت بريئة لم تكمل تعليمها، لكنها ككل الريفيات تمتلك فى جعبة وعيها ما لا تدركه ربيبات أعلى الكليات.. تعيش فى بيت أبيها تأكل بنفس النهم الذى يأكل به الجميع وتسحب جاموستها بشكل يومى إلى الأرض و«تُحمى» الحمار الذى تستخدمه فى مشاويرها وتجيد قيادة الجرار والسيارة.. باختصار تصول وتجول فى مملكة أبيها الشاسعة دون أن تدرك أنها تكبر وتصبح أنثى مرغوبة حتى واجهت الوافد الجديد من المدينة التى لا تعرف عنه شيئًا، فأحست بقيمتها رويدًا رويدًا.. واستمعت لنصيحة أمها وارتدت الفساتين الجديدة لتلفت نظر عطية، لكنها تدرك فى النهاية أن حبه لها وهى متناغمة مع جنة أبيها، وتلحظ عدم إعجابه بمظهرها الجديد النشاز عن براح بيئتها الآسرة.. فتعود إلى قواعدها.. وتقرر فى نهاية الفيلم أن تسامح عطية عن خطيئته الكبرى بإخفاء خطوبته القديمة، وتترك له طرف حبل جاموستها فى طريقهما إلى الجنة.
أم خوخة.. هانم فى بيت كمال بيه
فلاحة بسيطة لا تنتمى لطبقة كمال بيه، لكنه استخدمها على ما يبدو كسلاح اعتراضى على طبقته فى إطار تمرده عليها ليصنع جنته الخاصة.. لكن كمال أحب أم خيرية حبًا كبيرًا وأصبحت الركن الأساسى فى مملكته، فهى التى تصنع له وسيلته الكبرى للمتعة وهى الطعام.. دائمًا توفر له أشهى المأكولات ولا تتركه ينام ليلة دون الحلو أم على أو الأرز بلبن.. وحتى عندما تسرب إلى نفس كمال بيه الحزن على ضياع شبابه عندما رأى فتوة عطية وهو يوجه الأنفار.. ربتت الحبيبة على كتف حبيبها لتنفى له أحزانه وتؤكد له فتوته وشبابه ولم تتركه حتى يستعيد ضحكته المجلجلة بين أحضانها.
كمال بيه عزيز.. الفيلسوف الذى فهم «الفولة»
كمال بيه عزيز رجل مُرفه ينتمى إلى طبقة أرستقراطية من كبار الملاك القدامى فى قرية العزيزية.. وعلى ما يبدو أنه كان الابن الوحيد والذى صال وجال فى أوروبا وقابل أجمل الجميلات كما يحكى هو بنفسه لـ«عطية».. نزق الشباب جعله لا يستطيع أن يحافظ على ميراث تلك الأسرة من آلاف الأفدنة وباع أغلبها على حد قول الحاج عوضين «توفيق الدقن» لعطية فى بداية الفيلم ليعرفه على المشترى المحتمل لأرضه.
بعد أن هدأ فوران الشباب فى قلب كمال بيه ابن الأكابر لم يجد نفسه فى ذلك المجتمع الكريمى الذى يقضى جل وقته متنقلًا بين دول القارة العجوز وقرر أن يعيش فى العزيزية مكان أرض العائلة.. ليس هذا فحسب ولكنه قرر أن يمد جذوره فى أرضها عبر زيجة غير ملائمة اجتماعيًا وطبقيًا وتزوج أم خيرية أو عايدة عبدالعزيز الفلاحة البسيطة وكان يناديها بلقب الهانم وأنجب منها فريقًا من البنات لا يستطيع التفرقة بينهن فى الأسماء على حد قوله باستثناء خوخة أو خيرية كبيرته وأول فرحته.
ويبدو أن كمال بيه وجد جنته فى تلك الحياة التى تحلل فيها من كل قيود طبقته الكاذبة وأصبحت كل مشاكله تتمحور حول زراعة المحصول وبيعه، وتناول كل ما يقع تحت يده من خيرات أرضه ومزرعته.
حتى ظهر فى حياة كمال الرجل الوحيد فى أسرته رجل آخر.. شاب يافع نقى القلب جاء من وسط زحام مصر التى رفض كمال بيه الوزارة هربًا من المعيشة فيها.. أحس كمال بيه أن حياته تلك الرغدة ينقصها شىء بسيط لتصل للكمال.. رجل يحكى معه ويشاركه طعامه واهتماماته فكان عطية هو الشخص المنشود له.. ومن أجل ذلك أخذ يماطل فى إنهاء عقد بيع أرضه ويطلب منه أن يستمر معه يباشر أرضه «وأجرك محفوظ» كما قال له.. ولم يكن الغرض هو الاهتمام بالأرض فى واقع الأمر، لكنه كان احتياجًا شخصيًا لكمال بيه لتكملة جنته المنشودة التى بناها فى العزيزية بملء إرادته الحرة عكس عطية الشاب القاهرى المسكين الذى فرضت عليه كل تفصيلة فى حياته حتى خطوبته البائسة التى استمرت ٧ سنوات كانت بناءً على رغبة أمه فقط.
كمال بيه فيلسوف حياتى كبير فرض فلسفته بطريقة سلسة على الوافد الجديد لجنته وفى مشهده الأيقونى أثناء إفطارهما بعد أن انغمس عطية فى عالمه يدور حوار بين الرجلين حيث يقول كمال بيه: «الأكل لذة من لذائذ الحياة الكبرى» ويرد عليه عطية قائلًا: «أنا مش عارف الحقيقة دى كانت غايبة عنى إزاى يا كمال بيه».. وليس هذا فحسب بل إنه أكمل محفزًا: «سيادتك لازم تنشر الوصفة دى فى الجرايد.. هتبقى خدمة كبيرة أوى للناس».
فى النهاية أعطى كمال بيه عزيز انطباعًا ترسخ عبر الأجيال أنه الرجل المنشود الذى يتمنى كل شخص أن يقابله ليتشرب منه فلسفته فى الحياة.. باختصار هو الرجل الذى فهم «الفولة».
الحاج عوضين.. وسيلة عطية إلى جنة كمال بيه
كان لا بد لـ«عطية» من وسيلة توصله إلى جنة كمال بيه المنشودة، فكان هو الحاج عوضين قريب عطية وصديق والده من البلد والحارس الأمين على أرضه التى لا يعرف مكانها.. كما أنه المدافع الشرس عن حق عطية فى «بيعة» معقولة للأرض، لذلك يحرص على استخراج أفضل سعر ممكن من فم كمال بيه.. وهو بمثابة الأب لعطية الذى يقبل منه أن يحتد عليه ويَصمه بالعبط.. كما أنه سريع البديهة ففهم مباشرة أن عطية وقع فى حب خوخة وأهلها عندما طلب منه أن يؤجل تسليم الورقة الناقصة فى صفقة الأرض لكمال بيه.
متطفل البيجو.. والخالة عظيمة وزميل العمل الرخم فى محبة خان القادر على جعل الحجارة تمثل جيدًا
إذا نظرت لأفلام محمد خان ستجدها مكتظة بالشخصيات التى تبدو هامشية أو كومبارس طبقًا لمساحة دورها والذى قد يكون مشهدًا واحدًا.. لكن مع خان المشهد الواحد تصبح له قيمة ويجعل صاحبه نجمًا يترك بصمة مثل مشهد الرجل المتطفل فى البيجو الذى تجاهله عطية فى البداية لكنه احتاجه بعد النزول من البيجو ليعرفه على طريق العزيزية فيقول له: «ما تقلقش كلها ١٠ أو ١٢ كيلو».
أما «الخالة عظيمة» وهى التى اعتاد عليها المشاهدون فى بقية الأفلام كومبارسًا صامتًا، لكنها مع خان تتحول إلى ممثلة قديرة تحث عطية بمنتهى الصدق على الذهاب لخطيبته ليكشف لها عن أمر الأرض التى ستحل كل مشاكلهما.
والشخصية الثالثة هو صديق العمل «الرخم» الذى يحرص على تذكير عطية بعجزه بمنتهى اللزوجة التى تجعله مؤهلًا فى النهاية ليكون هو الزوج المحتمل لخطيبة عطية الأولى.. فى رسالة عبر نظرات الاثنين يبعثها خان بمنتهى السلاسة مفادها أن تلك الخطيبة المادية جافة المشاعر لم تكن من البداية لـ«عطية» وإنما لصديقه الذى يشاركها نفس الصفات.