تنظيمات المسلمين السرية عبر التاريخ «1»
البدايات الأولى والأسباب الفكرية والدينية والقبلية لوجودها
- قصة مثيرة مؤلمة مخضبة بالدماء مكتظة بالمفاجآت
- كان وجود النبى حاميًا لتماسك الدولة الجديدة ولم تجرؤ القبائل على معارضته لأنه يتلقى الوحى
- قبل الإسلام كان العرب متشرذمين يتنافسون قبليًا لا يتوحدون يحسمون نزاعاتهم بالسيف
فى ثلاثة أجزاء أتناول بالعرض قصة التنظيمات السرية للمسلمين، من حيث تأريخ بداياتها، وأسباب وجودها الأول، وتقسيمها تاريخيًا من البدايات حتى القرن الأخير، ثم أخيرًا- وهذا هدف المقال الذى أفردتُ له الجزء الثالث- أقدم تصورًا لتحصين بلادنا ضد خطر الفكرة، التى لا أعتقد بأنها قد زالت بانتصار الدولة المصرية على آخر هذه التنظيمات السرية المسلحة!
وقصة التنظيمات والجماعات فى تاريخ المسلمين الممتد أربعة عشر قرنًا هى التى قد تصدم كثيرًا من المسلمين المعاصرين الذين لم يهتموا بالاقتراب الحقيقى من هذا التابوت المظلم!
كثير منا لا يذهب به الخيال إلى أسماء أخرى غير الحسن بن على أو حسن الصباح فى القرن الخامس الهجرى، بينما الحقيقة تؤكد أنه قد أتى فى ذيل القائمة الأهم، والأخطر فى تاريخ المسلمين!
من حيث السرية أو العلنية، فلدينا مجموعتان من التنظيمات المسلمة، مجموعة علنية كانت تدعو علانية إلى أفكارها «السياسية الدينية»، والأخرى- وهى موضوع هذا الحديث- هى تنظيمات بدأت تحت الأرض وكونت قواعدها البشرية جغرافيًا حسب منشأها وأهدافها، وصاغت عقائدها، ثم ظهرت على سطح الأحداث السياسية، وبعضها استمر لمدة قرن أو قرون، والبعض الآخر لم يستمر إلا سنوات قليلة! بعض تلك التنظيمات بلغ من القوة أنه أقام دولًا خاصة به وناطح إمبراطوريات الخلافات المتعاقبة، بينما حددت تنظيماتٌ أخرى أهدافها فى الهدم، هدم الدول، أو هدم عقائد الإسلام ذاته وإطلاق جماح الأطماع والشهوات دون تقيد خلقى أو دينى!
من الأخطاء الشائعة بين بعض مثقفى المسلمين المعاصرين، أن تلك التنظيمات كانت منطقية فى عصرها، وأنها تمثل المقابل المنطقى لتنظيمات سرية مسيحية فى أوروبا!
يصدم التاريخُ هؤلاء بحقائق تاريخية يمكن التحقق منها بسهولة، تؤكد أن الشرق المسلم كان له السبق الأضخم فى هذا المضمار، وأن كل التنظيمات المسيحية السرية القوية إنما بدأ تكوينها فقط قُبيل أو معاصرًا أو بعد الحملة الصليبية الأولى، وكأن هذا الاحتكاك الحربى المباشر بين الشرق والغرب قد ألهم الغرب المسيحى بتقليد ما عرفوه عن تلك التنظيمات السرية التى لم تعد سرية بعد ذلك التاريخ! ولم يكن هذا الاحتكاك فقط هو سبب الاقتباس، إنما كان وجود بعض أمراء أوروبا المسيحية فى بعض إمارات الشرق سببًا آخر!
وقد بلغ التشابه بين تنظيمات سرية مسلمة فى الشرق وأخرى مسيحية فى الغرب حد التطابق فى أساليب تجنيد العناصر، وفى طرق تحقيق الأهداف، لكن التنظيمات المسلمة تسبق المسيحية بقرون طويلة!
وأحيانًا يردد بعض هؤلاء المثقفين- ويؤكد هذا الزعم بعض رجال الدين الإسلامى بشكل كبير- أن تلك التنظيمات السرية وأحيانًًا يُلحقون بها الفرق والجماعات العلنية، إنما كانت كلها نتيجة تدخل عدة عناصر خارجية غير مسلمة أعلنت إسلامها، ثم بدأت فى نشر أفكارها!
وهم فى هذا الزعم يقزّمون المسلمين أكبر تقزيم، فكأن الآلاف من هؤلاء المسلمين لم يقووا فكريًا وعقائديًا على مواجهة أفكار وخزعبلات عدة أشخاص لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، كما أنهم يقزمون من قوة الإسلام الفكرية، فكأنه لم يقوَ على حماية أتباعه بتحصينهم فكريًا ضد هذه الخزعبلات، ولم يمر على موت النبى «صلى الله عليه وسلم» سنوات قليلة!
إننى أعتقد أن ترديد هذا الزعم مقصود تمامًًا من بعض رجال الدين، لأن به صرف للانتباه عن حقيقة هى الأخطر فى محاولة تحديد الأسباب الأصلية الأولى؛ لتواجد هذه الفرق والجماعات والتنظيمات المسلمة! هذا فيما يخص الماضى البعيد، أما ما يخص حاضرنا ومستقبلنا- كدولٍ يدين أهلها بالإسلام أو المسيحية- فرجال الدين لا يريدون تحصين هذه الدول بشكلٍ حقيقى ضد الخطر المحتمل؛ لإعادة تنشيط هذه الفكرة الآن وغدًا!
السؤال الأهم والذى يمكنه أن يفتح طريق الفهم الصحيح لما جرى عبر القرون البعيدة أو فى العقود الأقرب هو.. لماذا؟
لماذا عرف المسلمون ومنذ العقود الأولى بعد وفاة النبى «صلى الله عليه وسلم» تكوين هذا العدد الهائل من الفرق والشيع والتنظيمات العلنية والسرية؟ ولماذا امتلأت صفحات تاريخ المسلمين بالدم الذى تمت إراقته فى الصراع بين هذه الفرق والتنظيمات، وبين دولة الخلافة متعددة الأسماء من ناحية، وبين بعض هذه التنظيمات وبعضها الآخر من ناحية أخرى؟
إن تقديم إجابة مريحة نفسيًًا للمسلمين- بأن السبب هو فلان بن فلان اليهودى الذى أسلم ثم استغل حدثًا معينًا ونشر الفرقة بين المسلمين- هو خداع للذات! فليس منطقيًا أن يكون المسلمون الأوائل عقليًا وعقائديًا بهذا الضعف الذى يمكّن شخصًا أو عدة أشخاص مهما بلغت عبقريتهم من تفتيت أتباع ديانة فى عهدها الأول وفى ذروة رسوخ العقيدة فى الصدور!
إننى أعتقد أن السبب أو الأسباب كانت ذاتية خالصة حتى مع وجود شخصيات خارجية متآمرة، فهذه الشخصيات لم تقم بأكثر من استغلال الأسباب الذاتية!
يمكن تلخيص تلك الأسباب فى عبارات ثلاث، الأولى هى طبائع العرب وعاداتهم الاجتماعية والبيئية وتاريخهم السابق للإسلام، والعبارة الثانية طبيعة الديانة الإسلامية، وقيام النبى «صلى الله عليه وسلم» بإنشاء دولة وجمعه لكل من المنصب السياسى بجوار مكانته الروحية العليا، أما العبارة الثالثة والأهم فهى اجتماع العبارة الأولى مع الثانية، بمعنى وجود الإسلام وقيام دولته الأولى فى تلك البيئة العربية التى يحكم أهلها عقليًا وروحيًا طبائع العرب وعاداتهم وتاريخهم السابق! ولو لم تجتمع تلك الأسباب معًا لربما تغير التاريخ السياسى للمسلمين!
فقبل الإسلام، لم يجتمع العرب على مجموعة موحدة من القوانين، وكانوا متشرذمين يتنافسون قبليًا لا يتوحدون، يحسمون نزاعاتهم بالسيف، استغل تشرذمهم الفرس والروم، عاداتهم الإغارة وغياب قيم العدل، ومن يملك القوة بالسيف والعدد يستبيح لنفسه باقى القبائل! غلظة الطباع المتسقة مع البيئة الخشنة الصحراوية مع عدم معرفة فكرة الانتماء والارتباط بأرض محددة! التفاخر المبالغ فيه بالنسب المجرد كان حجر الارتكاز والأساس الذى يمنحهم الاستقرار النفسى مهما بلغ خواؤه! عادات تستبيح أعراض الآخرين حتى لو كانوا قبائل أخرى، بينما تُسفك الدماء دفاعًا عن شرف ثوب امرأة من القبيلة! وعدم بلوغهم درجة مرموقة من التحضر والعلوم مقارنة بشعوب أخرى مجاورة لهم! ذروة نشوتهم تتلخص فى السيف والكلام!
ثم أتى الإسلام بجملة أحكام وقوانين أخلاقية، ولم يكن ممكنًا إقامة دولة جديدة موحدة مع تشرذم العرب وطبائعهم دون أن تكون هناك قوانين يرضخ لها الجميع، ودون أن يكون للقيادة شرعية قوية تروض أطماع الجميع. تمثلت تلك القيادة فى شخص الرسول «صلى الله عليه وسلم» الذى جمع بين الشرعية الدينية بصفته النبوية، مع شرعية إقامة الدولة، أى جمع القيادة السياسية والروحية معًا!
كان وجود النبى «صلى الله عليه وسلم» حاميًا لتماسك الدولة الجديدة، ولم تجرؤ القبائل بعد قيام الدولة على معارضته لأنه يتلقى الوحى من السماء. لكن بعد وفاة النبى «صلى الله عليه وسلم» لم يستوعب المسلمون أن خصائص النبوة كانت لا تجوز لغيره، ورأوا أن أى حاكم لا بد أن يجمع فى يده كلًا من السلطة الدينية الروحية والسلطة السياسية! ولا يمكن لأى حاكم أن يستمد شرعيته السياسية دون أن يكون له سند دينى يُقنع المسلمين بشرعيته ويرضون به ولا يناطحونه الحكم!
هذا هو السبب الذاتى الذى فجر الصراعات الدموية على مقعد الحكم والزعامة! قبل الإسلام كانت قوة السيف هى الحاسمة لتغلب قبيلة على أخرى! بعد الإسلام كان البحث عن الشرعية الدينية أولًا، ثم غلبت طبائع العرب على حسم تلك الصراعات بقوة السيف بعد أن يعتقدوا أو يقنعوا باقى المسلمين بأن لهم شرعية دينية! خلط الشرعيتين كان نتيجة لعودة طبائع العرب للظهور والطغيان بعد اختفاء شخصية النبى «صلى الله عليه وسلم»! خلط الشرعيتين كان نتيجة لتلك النفس العربية البدوية وطبائعها وتاريخها وفظاظتها، ولم تكن جزءًا من الديانة ذاتها!
هذه العودة السريعة والطاغية للطبيعة البدوية العربية بعد وفاة النبى «صلى الله عليه وسلم» أعلنت عن نفسها فى ظهور أقاويل منسوبة للنبى «صلى الله عليه وسلم» تستبعد أن يحكم الدولة شخص من غير قريش، ثم تطورت الفكرة مع كثرة الطامعين فى مقعد الحكم وبدأ الصراع بين القرشيين أنفسهم أو بين البطون الكبرى التى حاول كل منها أن يشرعن لطموحه بقولٍ منسوبٍ للنبى «صلى الله عليه وسلم»!
كل الفرق والجماعات العلنية والسرية التى ظهرت فى القرون الثلاثة الأولى كانت تدور كلها حول هذه الفكرة الأم.. مَن له شرعية الحكم؟! قبل أن تظهر جماعاتٌ سرية تخرج تمامًا عن أفكار وعقائد الإسلام، لكنها استعملت قصة الصراع بين بيوت العرب لكى تمنح لنفسها شرعية مقدسة مثل القرامطة ومثل جميع الفرق الشاذة التى اندثر كثيرٌ منها، ولم يستطع أن يقيم دولة!
المفاجأة الحزينة، أنه عندما تكثفت حركة كتابة كتب التراث- تاريخ وقصص وسنة وفقه- قام العلماء والفقهاء بمنح شرعنة دينية لما حدث من وقائع الصراع وأحداثه! وقع خلط كبير دفع المسلمون ثمنه طوال القرون التالية. فمواقف المسلمين الأوائل السياسية وانضمامهم لهذا أو ذاك من المتنافسين على السلطة تم اعتبارها أحكامًا دينية شرعية وخصصوا لها أبوابًا فى الفقه عما أسموه «شروط تولى الولاية»! ثم أخذ العلماء عبر العصور ينقلون هذه الأبواب وكأنها من مفردات الدين الإسلامى! كثرة النقل والتقادم الزمنى لوقائع سياسية بشرية عادية منحها قداسة دينية دفعنا نحن ثمنها! لم يتوقف جيلٌ من المسلمين ليعترض على استمرار هذا التقديس ويفرّق بين النبى «صلى الله عليه وسلم» الذى كان يأتيه الوحى، وأى مسلمٍ آخر مهما كان اسمه! لم يعترض جيلٌ على مقولة منسوبة للنبى «صلى الله عليه وسلم» «إن أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»، بأن هذا ينصرف إلى سلوكهم الدينى والأخلاقى، ولا ينصرف إلى غيره من مفردات الأنشطة الإنسانية الدنيوية التى لا تتوقف عن التطور كل عام، وليس فقط من عصرٍ إلى عصر تفرق بينهما قرونٌ زمنية!
يمكن أن نقسم تاريخ الجماعات السرية المسلمة إلى ثلاث فترات أو مراحل تاريخية محددة، الأولى فى القرون الخمسة التى سبقت غزو المغول أو التتار للخلافة العباسية، ثم القرون التالية لهذا الغزو، وأخيرًا فى القرن الأخير، منذ سقوط الدولة العثمانية وحتى الآن!
المرحلة الأولى يمكن اعتبارها العصر الذهبى لتلك التنظيمات، وهى المرحلة التى استطاعت مجموعاتٌ منها إقامة دول قائمة على مبادئها. وهى المرحلة الأكثر سفكًا للدماء! وهنا قد يفاجأ البعض بالأعداد التقريبية للضحايا ونسبتهم لعدد المسلمين وقتها، وهذا قد يغير من بعض مسلماتنا عن بعض الحروب الحديثة التى يصنفها البعض بأنها الأكثر سفكًا للدماء! فأعداد الضحايا ليست هى المقياس الموضوعى، وإنما نسبة الضحايا لعدد سكان الدولة أو الدول المشاركة فى أى حرب!
ومن الصعوبة أن نقدم أعدادًا دقيقة لضحايا حروب التنظيمات السرية لتباين الأرقام فى المصادر التاريخية المختلفة، وأيضًا لكثرة المعارك جغرافيًا وعدم تسجيل أعداد ضحايا بعضها، لكن هناك ما يمكن اعتباره أرقامًا أو معلوماتٍ استرشادية عامة!
أول التنظيمات السرية القوية التى غيرت تاريخ المسلمين كان تنظيم العباسيين السرى الذى قاده أبومسلم الخراسانى، والذى مثل نموذجًا مثاليًا لتنظيمٍ قائم على ادعاء شرعية دينية لحق تولى بنى العباس للخلافة، ثم بدأ فى تدشين حركة سرية مسلحة لها شاراتٌ كودية خاصة بها. بدأت سرية، ثم أصبحت علنية تحاول نزع الحكم من بنى أمية حتى استطاعت ذلك فعلًا حوالى ١٣٢ هجرية! تباينت المصادر فى عدد ضحايا تلك الحركة لكننا نتحدث فى أقل تقدير عن أكثر من سبعين ألفًا من المسلمين فى ذلك الوقت المبكر، وفقط فى الأيام التى شهدت نزع الحكم من بنى أمية، بخلاف أعداد الضحايا الذين قُتلوا سرًا!
حركة القرامطة كانت هى الأخطر والأكثر خروجًا على تعاليم الإسلام، والأعنف والأكثر دموية والأكثر تحقيقًا للنجاح، وهى من الأسباب الكبرى التى أضعفت خلافة بنى العباس، وهى الحركة التى أسست دولة وهاجمت مكة وسرقت الحجر الأسود، وكانت ترغب فى بناء كعبة أخرى بديلة! استمرت تلك الحركة لمدة قرن منذ نهايات القرن الثالث الهجرى. كانت تدعو للتحلل من العقائد وآداب الإسلام وتقوم على الاستباحة وسفك الدماء ونشر مبدأ شيوع الملكية! لكن الأهم أن منشئها الأول وكل من خلفه استغل فكرة دينية محددة هى فكرة الإمامة، بمعنى القيادة الدينية والسياسية، والذى يتوجب على أتباعه طاعته!
بخلاف هاتين الحركتين، فقد تأسست مئات الفرق السرية التى نشأت جميعها إثر النزاع على الحكم بين بعض كبار الشخصيات المسلمة، خاصة بعد اغتيال الخليفة الثالث عثمان بن عفان! خلفت الصراعات بين تلك التنظيمات وسلطة الحكم ضحايا لم يتم حصر أعدادهم بشكلٍ كامل كما حدث فى الصراع بين على بن أبى طالب ومعاوية بن أبى سفيان، وما نشأ عنه من صراعات جانبية بين على وفرق الخوارج المختلفة! ثم اقتتال المسلمين اقتتالًا كبيرًا نشأ عنه قيام دولتين تتولى كل منهما تولية الولاة على عددٍ من الولايات! ثم توارثت أجيالٌ لاحقة نفس الصراع وفى عصر كل جيل كان يحتد الصراع، ويسقط آلاف القتلى!
فى تلك القرون الأولى كانت هناك آلاف التنظيمات والحركات والأفكار العلنية والسرية، وكان يمكن لجميعها أن تظل مجرد أفكار فلسفية أو نظريات مجردة لولا أنها قد ألقيت بين أيدى القبائل التى اعتادت على حسم النزاع بقوة السيف فكان ما كان! خاصة أنّ ما كان الصراع يدور حوله كان يسيل له اللعاب من خيرات وثروات الدول والشعوب التى تم غزوها وضمها لإمبراطورية الخلافة!
كل التنظيمات السرية المشهورة وكل ما روى عنها- حقًا أو مبالغة- تعود لتلك القرون الأولى. كثيرٌ منها نشأ فى أرض فارس ويتم ضمه للجانب الشيعى، وبعض الأفكار والغايات التى بنيت عليها تلك التنظيمات ظلت سرية حتى على المنضمين إليها من المستويات الأدنى، ومن أنجحها كانت تلك التى أفرزت دولًا شيعية مثل الدولة الفاطمية!
كان كل تنظيم يبدأ كحركة سياسية لها هدف سياسى محدد، ثم يتحول بعد ذلك إلى ما يشبه فرقة دينية تدشن لنفسها فقهًا ومذهبًا ويدعو لها فقهاء وعلماء!
قامت التنظيمات التى كانت سياسية فى الأساس والغاية، ثم توهج بعضها وأقام الدول، ثم سقطت وتلاشت وتلاشى معها كل ما كان يعتقد أنه شرعية دينية! لكنها تركت واقعًا على الأرض وهو تحول كثيرٍ منها إلى طوائف دينية لها فقهها وعقائدها ومذهبها! أى أن الغاية السياسية تحققت ثم سقطت، لكنها تحولت إلى ما يشبه المذهب الدينى! السياسة التى امتطت الدين لبلوغ الحكم خلّفت وراءها الفرق والمذاهب الدينية!
يقبل هذه الحقيقة أو يرفضها رجال الدين، فهذا لن يغير من حقيقتها التاريخية التى تدمغها آلاف الوقائع وآلاف الأسماء الراقدة على صفحات الموسوعات التاريخية!
فى تلك القرون وفى هذه المرحلة الأولى من تاريخ التنظيمات السرية هناك حقيقتان، لم يحاول المسلمون بصفةٍ عامة وحتى الآن مواجهتهما بصراحة.
الحقيقة الأولى أن كل تنظيمٍ سرى مهما بلغ شططه ودمويته، كان خلفه طائفة من الرجال ممن يمكن اعتبارهم الأجيال الأولى من رجال الدين والفقهاء، يدشنون له شرعية دينية يدّعون استنادها إلى القرآن الكريم أو السنة النبوية! مثل أن فكرة الإمامة القرشية هى فكرة دينية خالصة! أو أن فلانًا أحق بالخلافة استنادًا إلى قولٍ منسوب للنبى «صلى الله عليه وسلم»!
أما الحقيقة الثانية وهى الأقسى على النفس، فهى أنه وبعد تلك القرون الخمسة، وبعد أن تم سفك دماء مئات الآلاف من المسلمين بسيوف المسلمين، تلاشت تمامًا تلك الادعاءات الدينية، ودخلت متحف التاريخ، وكأنها لم تكن موجودة!
فبعد سقوط الخلافة العربية لم يعد هناك من يرفعون أصواتهم بأن الخليفة أو الإمام لا بد وأن يكون قرشيًا!
صمت الجميع وكأن ما حدث لم يحدث، وكأن مئات الآلاف من المسلمين الذين قتلوا لم يُقتلوا!
لم يخرج على عوام المسلمين بعد تلك القرون رجال الدين الإسلامى بإجماعٍ يقولون فيه مثلًا وبشكلٍ صريح، أن ما حدث فى تلك القرون لا علاقة له بتعاليم دينية، ولم يكن إلا صراعًا مسلحًا على الزعامة والحُكم، وأن عوام المسلمين قد تعرضوا لخديعةٍ كبرى وقد تم التغرير بهم، وقد سُفكت دماءٌ حرام، الدين منها براء!
ربما يكون بعض العلماء والفقهاء الأوائل قد أخطأوا عن غير عمدٍ، وكانوا يؤمنون تمامًا بأنهم يدافعون عن قيم الإسلام، وبعضهم الآخر لم يقوَ على مواجهة سيوف مهاويس السلطة والحكم، وبعضهم الثالث كان يبيع نفسه لهؤلاء بكامل رغبته مقابل أثمانٍ متفق عليها، لكن كل هذا لا يمنع من إدانتهم بشكلٍ جمعى وتحميلهم أمام الله والتاريخ بعضًا من وزر هذه الدماء.
غدًا .. أستكمل عرض المرحلة الثانية أو المعاصرة وآخر عناقيد الدم