"ما فرج إلا بعد ضيق يا ولدى"
"ما فرج إلا بعد ضيق يا ولدي"..
كان أبي رجلًا عاديًا، لكن السنين التي عاشها جعلته يحمل من الوعي ما يكفيه لأن يكون حكيمًا، أذكر أنه وقت أن سمع أن جماعة الإخوان وصلت للحكم لم ينطق سوى عبارة واحدة "ما فرج إلا بعد ضيق يا ولدي"..
كان عامًا صعبًا دهس كل تلك التطلعات التي يصبو إليها شباب مصر بقدم من حديد، وكان أبي يجلس أمام التليفزيون كثيرًا وملامحه تتغضن وشعره الأشيب يزيد شيبًا كلما سمع بيانًا أو كلمات من نوع الشرعية وغيرها..
كان يضحك، لكن ضحكته من هذا النوع الذي يحمل في داخله سخرية مكتومة ومريرة، ضحكة تقول ما باليد حيلة، لكنه يرجع ويفرش على فمه الابتسامة الواهنة:" من أول ما طلعوا وهما عاوزين الحكم عشان مصر كلها تبقى إخوانجية".
وكان لنا جار يدعى الشيخ مصطفى وهو إمام المسجد، وكان يجلس مع أبي الذي يحمل اسم مصطفى أيضًا، ويلوكان الحديث كأنهما يستشرفان المستقبل، يحاولان مد النظر لمعرفة إلى أين سينتهي الأمر، وكان الشيخ مصطفى يكره جماعة الإخوان كرهه لآكلي مال اليتيم منذ أن حاولوا أن يوقدوا الفتنة في بلادنا والتفريق بين الناس في الدين، لكن ناس النجوع لفظتهم مثل نطفة سوداء إن استشرت في الجسد ستحيله لسواد قاتم..
وراحت الأيام تشد الأيام وجلسة الشيخ مصطفى مع والدي تمتد وأجلس أحيانًا معهما صامتًا فأجد فيهما شخصًا واحدًا يبحث عن مخرج كأن الوطن كله بيتهما، وكان هناك من يحاول سلبه منهما، حتى جاءت الثورة..
كانا يجلسان يتابعان بشغف وزفرات من ارتياح تجد طريقها للخارج:" شكلها هتفرج يا شيخ مصطفى"، يشربان الشاي ويتابعان على مهل وبترقب كل لحظة وكل كلمة وكل حرف ودعوات كثيرة تخرج منهما أن يرد مصر إلى أهلها وأن يحفظها من جماعة لا تعرف إلا صوت الرصاص ورائحة البارود ومنظر الدم..
"ما فرج إلا بعد ضيق يا ولدي"
قالها لي والدي كثيرًا وفي كل مرة كانت تتغير نبرات صوته إلى مزيد من الارتياح، وكثيرًا ما كان يرفع هاتفه ويكلم شقيقي: "إمتى يا ولدي"، فيضحك أخي: "والله قريب يا بويا".
كبر أبي في عامهم أعوامًا، ومهما حييت لن أنسى تلك الزفرة المليئة بالارتياح والسعادة وقت سماع بيان عزل مرسي، ولن أنسى وقت العناق الكبير بين الشيخ مصطفى وأبي وهما يهنئان بعضهما بزوال الخطر ورجوع البيت..
ولن أنسى أيضًا تلك النظرة التي وجهها إلىّ أبي وهو يقول:
"ما فرج إلا بعد ضيق يا ولدي".