"رحلة روحية وحدث فريد".. ذكريات المثقفين مع الحج
حرص عدد كبير من المثقفين والمفكرين على توثيق مشاعرهم خلال زيارتهم لبيت الله الحرام، خاصة رحلاتهم لأداء فريضة الحج، واعتبرها الكثيرون منهم حدثا فريدا ورحلة روحية، تركت أثرًا عظيمًا في أنفسهم، وهو ما نرصده في التقرير التالي..
أنيس منصور
البداية مع الكاتب الراحل أنيس منصور، الذي تحدث عن زيارته إلى الأراضي المقدسة وسجل خواطره في كتابه "طلع البدر علينا"، قائلًا: منذ الطفولة بدأت هذه الرحلة، منذ اللحظة التي سمعت فيها ونحن أطفال كلمات: الله والنبي والجنة والنار، وكانت كلها غير واضحة.. يقول أنيس إن من نعم الله تعالى عليه أنه قد حفظ القرآن الكريم كاملًا في طفولته، ويحكي أنيس منصور أطوار معرفته بالدين والله منذ ذلك الحين مرورًا بسنوات دراسته والجامعة وتخصصه في دراسة الفلسفة والأديان، وقراءاته في التوراة والأنجيل والكتب المقدسة والفلسفة الوجودية وقراءته لكتاب دلالة الحائرين للفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون.
وبين صفحات الكتاب تحدث عن رحلة الحج فقط، مستطردًا: من الذي لا يحاول أن يسير في نفس الطريق الذي سار فيه الرسول العظيم، ففي هذا الطريق إلى غار حراء سار الرسول أكثر من ألفي يوم.. متفكرا متأملا متألما خفيفا بصفاء روحه وثقيلا بهموم قومه وكل الناس" ثم يستطرد متحدثًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقصة تلقيه الوحي مستهلًا بعنوان: "كان أبعد عن الناس وأسمى منهم" وذلك حين كان يتعبد صلى الله عليه وسلم بغار حراء، حين جاءه الوحي لأول مرة. ثم يتحدث عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وزيارة منصور لغار ثور، حيث تخفى الرسول وصاحبه. ويقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم في النهاية: "إنه إنسان تعرفه وتحبه وتعجب به، وتستريح له وتبكي عليه وتفرح به، شاب ورجل وأب وداعية وشجاع وحكيم..إنه بشر رائع".
طه حسين
أما الدكتور طه حسين، اعتبر زيارته إلى المملكة العربية السعودية حدثًا فريدًا، إذ استقبله الأمراء والأدباء والأعيان، فضلًا عن احتفاء المؤسسات الثقافية والهيئات العلمية به، وعن هذه الرحلة التى استغرقت 17 يومًا، قال: أول ما شعرت به، وما زلت أشعر به، هو الذى يجده الغريب حين يؤوب بعد غيبة طويلة جدًا إلى مواطن عقله وقلبه وروحه، مضيفًا: لقد تركت زيارتى للحجاز آثارًا قوية رائعة فى نفسى، لا يمكن أن تُصور فى حديث أو أحاديث، وحسبك أنها الموطن الذى أشرق منه نور الإسلام، ونشأت فيه الحضارة العربية الإسلامية، وما أعرف قُطرًا من أقطار الأرض أثّرَ فى عقول الناس وقلوبهم وأذواقهم كما أثّرت هذه البلاد، وكما أثّرَ الحجاز فيها بنوع خاص.
وعن مشاعره نحو مكة والمدينة روى: هما المدينتان المقدستان اللتان تهوى إليهما أفئدة المسلمين، من زارهما منهم ومن لم يزرهما، ولم أكن إلا واحدا من هؤلاء المسلمين الذين يزورون مكة والمدينة منذ شرعَ الله الدين الحنيف للناس، وبعد زيارته لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد النبوي، حاول رجال الصحافة وأعيان المدينة المنورة أن يستمعوا للدكتور طه حسين، ببيانه الساحر، ومنطقه الرائع، وأن يظفروا بما ظفر به الجمهور في مكة وجدة، لكنه أمسك عن القول، على رغم الإلحاح الشديد والمحاولات المتكررة، معتذرا عن عدم الكلام بقوله: ما كان لي أن أتكلم في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وما كان لي أن أرفع صوتي وقد قال الله تعالى: لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي.
عباس العقاد
حرص الكاتب عباس العقاد أيضًا على توثيق رحلته إلى الحج خلال كتاباته في مقالات وكتب متنوعة، ومن أبرز ما تطرق إليه في كتابته كان عن حمام الحرم، وتتبع اتجاهاته في كل مكان، إذ كان دائمًا ما يسمع أن هذا الحمام يطير حول الكعبة ولا يعلوها، وأكد أن الأمر حقيقي قائلًا: كما سمعت يطوف ولا يتعدي المطاف إلى العبور.
"تبدت لي الكعبة قائمة وسط المسجد فشُدَّ إليها بصري وطفر قلبي ولم يجد عنها منصرفا، ولقد شعرت لمرآها بهزة تملأ كل وجودي وتحركت قدماي نحوها وكلي الخشوع والرهبة". هذا ما كتبه الأديب محمد حسين هيكل عند رؤيته الكعبة، فقد كان لزيارته لأداء الحج أثر فكري كبير عليه، بعدما نصحه صديقه المستشرق عبد الكريم جرمانوس، وترتب على هذه الزيارة كتابه "في منزل الوحي".
ومن أبرز الأدباء الذين كتبوا عن رحلتهم لأداء الحج أيضا كان أحمد حسن الزيات، فقد نشر مقالا بعنوان "في أرض الحجاز" بمجلة الرسالة، ربط فيه بين الحج وبين التحرر من الاستعمار، قائلا: إن في كل بقعة من بقاع الحجاز أثرا للتضحية ورمزا للبطولة، فالحج إليها إيحاء بالعزة، وحفز إلى السمو، وحث على التحرر.