رحلة فى عالم العربجى ابن الذوات
إلى محبة ريحة الورق وعشق «فرشة الجرايد» تنتمى هذه الصفحات.. لن تجد رابطًا يجمع محتواها غير هذا الحب وشغف البحث فى أرشيف الصحافة المصرية.. الوثيقة الأصدق لتاريخ هذا البلد العظيم.. لأن ما سطّرته أقلام صحفيينا وترجمته المطابع بأحبارها لا يحتمل التحريف.. وكل كلمة طُبعت وتداولها الناس، نُقشت على جدار التاريخ ولا يمكن محوها أبدًا.. هيا بنا ننقب.
يدخل رجل يرتدى «أفرول» وصندلًا وقميص كاروهات وبرنيطة خوص، ويحمل فى كل يد «سبت فاكهة»، و«السبت» بفتح السين والباء هو إكسسوار مصرى خالص.. قطعة ديكور لا غنى عنها لكل بيت فى المحروسة.. المهم يدخل الرجل من بهو القصر الفخيم ليجد الأستاذ حمام، مدرس اللغة العربية، مدقع الفقر، منتظرًا فى الصالون «ملخومًا» بسوء الفهم طول الوقت، لدرجة أنه كلما دخل عليه أحد الخدم بملابسه المنمقة ظن أنه «سعادة البيه» أبو السنيورة الصغيرة التى توسط له صديق ليعطيها دروسًا فى اللغة العربية بمقابل مادى معتبر يزيل بعضًا من هموم فقره، لكن عندما يدخل هذا الرجل الأخير على الأستاذ حمام وبعد حوار قصير فيه من «الشخط والنطر» الكثير.. يسأله الباشا بزيه الغريب وبنبرته الفوقية:
- شايف نفسك تقدر تسد فى الشغلانة دى؟
.. يعنى ضليع فى قواعد اللغة العربية.. فى أصول اللغة العربية؟
يرد عليه الأستاذ حمام، بلماضته التى فرضها عليه فقره، ليواجه قسوة العالم وبنبرة ساخرة:
- أيوة.. زى ما أنت ضليع فى قواعد الجرجير وأصول البقدونس والفجل الرومى.
ولا داعى لتكملة الحوار الممتع بين الاثنين.. لأن كل مَن يقرأ هذا الكلام غالبًا محفور فى وجدانه، ذلك المشهد الأيقونى بين الأستاذ حمام والباشا خفيف الظل والروح صاحب السرايا وأبو السنيورة «ليلى مراد» فى فيلم «غزل البنات».
الأستاذ حمام هو نجيب الريحانى كما هو معلوم بالضرورة، وتحدثنا عنه العدد السابق، أما هذا الباشا «الحليوة» خفيف الظل والروح عظيم الموهبة والحضور فهو محور حديثنا هذا الأسبوع.
هو سليمان بك نجيب الرجل الذى ارتبط بورق الصحف والمجلات وأحبه مثلما أحب عدسة الكاميرا وخشبة المسرح، وعلى ذكر الورق والمجلات فقد نُشرت صورة له وهو فى كامل أناقته فى مجلة «المصور» قبل هذا المشهد بأحد عشر عامًا وتحديدًا يوم ٢٨ أكتوبر ١٩٣٨، وتحت الصورة عنوان من كلمتين «مدير الأوبرا».. وكان الخبر بمثابة إعلان عن بداية عهد جديد لدار الأوبرا المصرية منارة الثقافة الأهم فى المنطقة.. عهد استمر حتى عام ١٩٥٣.. وينهى المحرر الخبر بقوله: «وأخيرًا صدر القرار بتعيين الأستاذ سليمان نجيب مديرًا للأوبرا الملكية وليس أبو داوود بالشخصية التى تحتاج إلى تعريف، فحسبك أن تذكر اسم سليمان مجردًا عن كل شىء حتى ينصرف الذهن مباشرة إلى سليمان نجيب».
انتهى الخبر المكتوب عن سليمان وبقى أن نتحدث عما كتبه سليمان نفسه.
الأسطى حنفى أبومحمود.. الرجل الذى جلد ظهور الجميع بسياط النقد الساخر دون أن يعرفه أحد
سليمان نجيب مثله مثل كل مصرى صميم تفاعل مع ثورة ١٩١٩ الشعبية التى حركت كل المياه الراكدة فى المجتمع.. كما أنها حركت موهبة الكتابة فى صدر سليمان، سليل بيوت الأكابر، فى دنيا السياسة والأدب.. فوالده هو الأديب مصطفى نجيب وخاله هو أحمد زيور باشا، السياسى المحنك البارز الذى جلس على كرسى رئاسة وزراء مصر.
بعد هدوء العواصف التى أثارتها ثورة ١٩١٩ طفا على سطح السياسة المصرية غبار كثيف من الانتهازية السياسية مثلما يحدث عادة فى مثل تلك الحالات.. وهو ما فجّر فى النفوس غضبًا دارت معه المطابع على جرائد تحمل تشريحًا لتلك العيوب الخطيرة.. ومن بين ما أفرزته المطابع جريدة «الكشكول» التى حملت بين طياتها سلسلة مقالات غاية فى الروعة كتبها عربجى يدعى الأسطى حنفى أبومحمود، لم يعرفه أحد، لكن لاقت مقالاته اللاذعة صدى واسعًا فى مصر ذلك الوقت.
يكفى أن تقرأ ما كتبه ذلك العربجى الموهوب فى شرحه منهج مقالاته حيث قال بالنص: «لو أُتيح لى أن أستعمل بدلًا من القلم كرباجى، إذًا لقدر الله لوجوه كثيرة أن ينزل عليها مفرقعًا فى الهواء، تاركًا أثرًا أسود على خدود ليس للدم فيها أثر».
عندما لاقت تلك المقالات صدى واسعًا حرض ذلك هذا العربجى الغامض على أن يجمعها فى كتاب حتى تكون فى متناول الجميع.. فكان لا بد له أن يبحث عن كاتب لمقدمة ذلك الكتاب الذى سيصبح بعد ذلك واحدًا من أهم كتب النقد السياسى الساخر فى تلك الحقبة المهمة، ويبدو أن العربجى وجد ضالته فى الكاتب الأشهر فكرى أباظة، الذى على ما يبدو كان هو السند لذلك الكاتب المجهول الذى يعمل عربجيًا «على باب الله»، فبعث الأسطى حنفى أبومحمود برسالته إلى أباظة بنفس أسلوب كتابته للمذكرات قائلًا:
«إلى الأستاذ فكرى بك أباظة.. سيدى الأستاذ النابغة.. محسوبُك- الأسطى حنفى أبومحمود- كان له الشرف أن يُقِلَّكَ فى عربته مرارًا، إما منفردًا أو مع زمرة من إخوانك ومحبيك، يرجوك ويتوسل إليك أن تكتب له كلمة صغيرة يضعها فى مقدمة مذكراته التى ظن بعضهم أنها جديرة بالنشر..
وأنا لا أرجو ولا أتوسل إلا لأنى من المعجبين بقلمك وأدبك، وأنك باعتراف الكل الكاتب الذى تَقرأ كتاباته كلُّ الأفراد بلهفة وشغف، وأستصرخ ديمقراطيتك أن تحنَّ علىّ بكلمة تجعل لهذه المذكرات قيمة».
ثم يكمل قائلًا: «إنك كريم يا أستاذ، طالما جُدت علىَّ بضِعف ما أستحقه فى (التوصيلة)؛ لأن نظرك البعيد يرى أن بجانب أكل البهايم أكل العيال، ومن كان من أخلاقه الكرم والبحبحة فلا أظن أن يضن على حوذيِّها القديم- حوزى بمعنى عربجى- بما يطلبه، أبقاك الله وجعلك ظلًّا لأمثالى المساكين الغلابة، وأنا يا سيدى عبدك المطيع المخلص».
انتهى كلام العربجى وبقى رد فكرى أباظة على طلبه بكتابة مقدمة المذكرات، حيث قال أباظة:
«عزيزى الأسطى حنفى.. أشكرك كل الشكر على حسن ظنك بى، وما كان الأمر يحتاج إلى (الطلب) يا أسطى، كان يكفى أن تأمر فنجيب، لأن لك علينا (أفضالًا) لن ننساها، لأنك لست عربجيًا فقط، بل أنت (فيلسوف)، والفلسفة مبجَّلة فى حدِّ ذاتها، برفع النظر عن حيثية المتصفين بها!
حقًّا، إنى لأكتب بعواطفى، لا أتكلف ولا أتصنَّع، فدعنى أهنئك من صميم فؤادى، ولو كان كرباجك كقلمك لفاخرنا بك أعظم الأسطوات فى جميع القارات».
ثم يكمل أباظة كلامه منتشيًا بما يكتبه العربجى حيث قال: «يمينًا يا أسطى، لست أحابيك ولا أداجيك، إنما أقرر الواقع، لقد (لذعت) بكرباجك العظيم ظهور المتهتكين والمتهتكات، المتحذلقين والمتحذلقات، وقديمًا كان الكرباج أداة التهذيب والتأديب، ولكن كرباج العهد الغابر كان يسيل الدم ولا يجرح النفس، أما كرباجك أنت فلا يُسيل الدماء، ولكن يجرح النفوس، ونحن إنما نريد معالجة الأرواح لا الأبدان، فشكرًا لك يا طبيب النفوس، لا تفكر كثيرًا فى الأزمة يا أسطى، ولا تطمع، وما دام علفك وعلف أولادك ومواشيك موجودًا فاحمد الله، وما دمت فيلسوفًا فليكن جيبك (فاضيًا) كقلبك، ألا تعلم أن من تصدى لتهذيب الجمهور وجب أن (يدوسه الجمهور؟)».
ثم ينتهى أباظة إلى جملة كاشفة لما مثلته تلك المذكرات عميقة الأثر من قيمة، حيث قال موجهًا كلامه إلى الأسطى حنفى قائلًا: «أىْ عزيزى الأسطى: إن أمة حوذيَّها مثلك لجديرة بأن (تركض ركضًا)، و(تربع) إلى مطامعها لا تلوى على شىء فى الطريق».
وصدر الكتاب بالفعل تحت عنوان «مذكرات عربجى»، وينتشر بين الناس أن كاتب تلك المذكرات هو نفسه سليمان نجيب، الممثل المرموق ابن الطبقة العليا فى المجتمع المصرى، الذى يعمل فى السلك الدبلوماسى ثم لاحقًا سيصبح ثانى مدير مصرى للأوبرا بعد الأستاذ منصور غانم الذى قضى عامًا واحدًا فقط على كرسى مدير الأوبرا، كما ذكر خبر «المصور» الذى ذكرناه سلفًا.
عندما يصبح مدير الأوبرا محققًا صحفيًا برعاية التابعى
فى بداية الخمسينيات لم يمنع المنصب المرموق، كمدير للأوبرا، سليمان نجيب من معشوقته الأولى الصحافة، ولاحظ أن الأوبرا فى عهده كانت فى عز صولجانها على مستوى القصر والشعب على حد سواء، حيث كان الملك ضيفًا دائمًا على حفلاتها، وبالطبع كان الشخص المرافق له دائمًا هو رئيس الأوبرا سليمان نجيب.. كما لم تؤثر أيضًا نجوميته السينمائية ولمعان نجمه فى عشق صاحبة الجلالة التى كان هو الصديق المقرب لأميرها محمد التابعى، صاحب مجلة «آخر ساعة» ومؤسسها.
علاقة التابعى وسليمان يقال فيها الكثير، ليس هذا مجاله، لكن يكفى أن تعرف أن سليمان كان الضيف الدائم على عشة محمد التابعى فى رأس البر، وهى العشة التى شهدت لقاء عمالقة الفن والأدب والطرب مثل أم كلثوم وكامل الشناوى وتوفيق الحكيم ومصطفى وعلى أمين.. لذلك ليس مستغربًا تعلق مدير الأوبرا بنداهة الصحافة التى كانت دائمة النداء عليه وهو يجاور هؤلاء العمالقة. وهنا نذكر مثالًا حيًا على ذلك عبارة عن تحقيق صحفى بديع نشر فى مجلة «آخر ساعة» بتاريخ ٢٨ يونيو ١٩٥٠ بعنوان فرعى: «سليمان نجيب يجرى تحقيقًا صحفيًا لآخر ساعة».. وعنوان التحقيق الرئيسى «شارع قصر النيل.. كل فتنة القاهرة وجمالها».
التحقيق مصور وفيه وصف بشكل مذهل لكل مفردات الشارع ومظاهره وبأسلوب حكاء ماهر يستطيع سليمان نجيب، الكاتب الصحفى صاحب القلم الجذاب الرشيق، استدراجك داخل عالمه لتستكشف معه تطورات شارع قصر النيل والتغييرات التى طرأت عليه منذ بدايات القرن العشرين، حيث كان يمشى فيه سليمان طفلًا ثم مراهقًا ثم شابًا، وحتى وقت كتابته هذا التحقيق منتصف القرن بالضبط وهو على مشارف الستين من عمره.
حيث يبدأ المحقق الصحفى تحقيقه بإقراره بأهمية ذلك الشارع أكثر من غيره فيقول: «رشاقة القاهرة كلها، وفتنتها وسحرها، تتركز، وتنساب فى شارع قصر النيل.. إنه الآن قلب القاهرة.. ومع ذلك فقد كنا فى مطلع أيام الصبا- سنة ١٩٠٧- نذهب إليه ثم نعود لنقول: لقد كنا اليوم فى قصر النيل وكان الذهاب يومها من أحياء القاهرة القديمة إلى قصر النيل أشبه ما يكون بالذهاب الآن إلى الإسكندرية... كلاهما سفر».
ثم يسترسل سليمان نجيب ويواصل عصر ذاكرته الحديدية وذكرياته الثرية فى ذلك الشارع ليرسم صورة لتطور عمرانى فى أهم شارع فى وسط البلد، وليكون هذا التحقيق مرجعًا جغرافيًا مهمًا لكل هواة التأريخ العمرانى للقاهرة.
«الكواكب» تُحيى ذكراه الأولى بالضحك على مواقفه فى شارع قصر العينى
حتى فى موته كان سليمان نجيب خفيفًا ولأنه كان يكره الحزن فقد كان إحياء الذكرى الأولى له على صفحات «الكواكب» عبر موضوع صحفى مكتوب عنه بعنوان «باقة الوفاء فى ذكرى الفنان العصبى».. ولم تذكر «الكواكب» محاسنه فقط، عملًا بمبدأ «اذكروا محاسن موتاكم»، ولكنها ذكرت أيضًا مساوئ حوّلها هو إلى مزايا، مثل العصبية التى يحكى فيها محرر «الكواكب» عن موقف طريف ننقله نصًا حيث يقول: «مضى عام على وفاة الراحل الذى كان يكره النوم.. ويكره الراحة.. ويكره الهدوء.. كان دائب الحركة.. وكان من نجوم لعبة رياضة المشى، فكان يسير كل يوم من منزله فى جاردن سيتى إلى نادى الأهلى ويعود منه مشيًا على الأقدام.. وفى الطريق كانت تقع حوادث بينه وبين المارة.
كان سليمان عصبيًا جدًا، وبعض الناس كانوا يستقبلون عصبيته بالضحك، وهم الذين يعرفونه.. وبعضهم كان يغضب، وهم الذين لا يعرفون طيبة قلبه وخلقه، ثم لا يلبث كل واحد منهم بعد لحظات أن يضحك وأن يتضاعف حبه لسليمان نجيب..
حدث ذات يوم أن كان يسير فى شارع قصر العينى، وكان الشارع مزدحمًا بالمارة الذين كانوا يتفرجون على حادث بين سيارتين.. واصطدم كتف أحدهم بكتف سليمان، وما كاد سليمان يلتفت لهذا الشخص حتى داس آخر على قدمه. وألقى سليمان بمضرب التنس على الأرض، وصرخ يقول رأيه بصراحة فى الذين داسوا على قدمه.. ووقف الناس يستمعون إلى شتائمه دون أن يفتح أحدهم فمه ويرد التحية بأحسن منها.
وفجأة توقف سليمان عن الشتم وصرخ يقول: «يعنى ما فى حد قبيح إلا أنا.. اشتمونى زى ما بشتمكم ريحونى»، وضج من حوله بالضحك.. ويصفقون له وكأنه يمثل مشهدًا تمامًا».
هذا هو سليمان نجيب الذى عاش مغرمًا بالفن والصحافة والناس وشوارع القاهرة ودروبها وأهلها البسطاء.. باختصار عاش مغرمًا بالحياة.