إعادة كتابة التاريخ
أعرف جيدًا أن القراءة لم تعد الطريق الوحيد إلى بوابة التاريخ.. منذ اخترع أحدهم آلة السينما ومن بعدها التليفزيون أصبحت هناك مسافة أقرب وأكثر جذبًا لمحبى معرفة ذلك العالم الذى لم نعشه.. ورغم هذه المعرفة تظل الأوراق الصفراء القديمة تأثرنى وتستقطبنى.. أشعر بأن ثمة أشياء تقرب الأوراق من الحقائق بينما تأخذنى الفنون إلى الخيال.. والشك فيما أرى.. أشعر لحظتها بأن التاريخ يتحوّل إلى نوع من التمثيل والتسلية وتطاله شبهة التزوير.. الورق لا يكذب.. هذه مجرد مشاعر فارغة بالتأكيد، فالتاريخ لا يتغير، سواء كان مكتوبًا أو مرسومًا على الجدران أو عابرًا فى أغنية أو شريط سينما.. لكن ربما تجرى كتابته على الهوى.. هوى المنتصرين فى الغالب، كما يردد البعض بثقة مفرطة.. هذه البداية لا بد منها مع ما أطرحه، ويطرحه غيرى، من أفكار ملحة.. فى ظل هوجة هذا العالم الغريب الذى أصبح مباحًا لكل من هب ودب.. يفسره على هواه.. وينقله الآخرون فى صفحات السوشيال بثقة غير محدودة وبجاحة لا حدود لها.. وفى النهاية أولادنا ضحايا هذه التخاريف التى يتعامل معها البعض باعتبارها تاريخًا موسيقيًا، ناهيك عن الذين يتعمدون تزوير التاريخ لغرض معلن منذ سنوات وهو الاستيلاء على الأرض باصطناع تاريخ مزور وجغرافيا مقتطعة بوضع اليد والسلاح.
التاريخ مش لعبة نتركها فى يد الصغار يلهون بها وكأنها لعبة بابجى.. من ليس له تاريخ لا مستقبل له.. مش شوية حكايات يعنى.. وكم أتمنى لو نبدأ الآن وليس غدًا فى مشروع كبير لإعادة كتابة تاريخ مصر على يد من يعرفونه حقًا وبشكل علمى محترف.. هذا لا يغنى قطعًا عن الدور الذى تلعبه مكتبة الإسكندرية ودار الوثائق.. ومبادرات الإعلام والدراما لكتابة موازية نحتاجها كمضادات حيوية مستمرة فى مواجهة فيروسات التشويه والتغريب والتخريب.
فى هذا السياق كم أسعدنى ذلك العمل المدهش.. القطائع.. ثلاثية ابن طولون للمبدعة ريم بسيونى.. وكم أدهشنى تلك القدرة لشابة مصرية تخصصت فى دراسة الآداب وتدريسها فى جامعات مصرية أوروبية على إعادة كتابة التاريخ فى عمل أدبى بديع.. رواية ريم بسيونى التى جاءت تالية لرواية أخرى تدور أحداثها فى زمن المماليك وسابقة لرواية أخرى تدور أحداثها فى زمن الفاطميين تكشف عن ولع كبير بتاريخ المصريين عند الدكتورة ريم.. وأنا هنا لست بصدد تقييم عملها الأدبى الممتع.. لكننى فقط أشير إلى اتجاه موجود فى الرواية العربية.. نجح فيه عدد غير قليل من الرواد ثم كان أن ابتعدنا متأثرين بتيار الحداثة وما بعده.. ومن الطيب أن نجد من أبناء الجيل الجديد من يتخذ سكة التاريخ نهرًا لحكايته التى لن تنضب قطعًا.. نحن فى أمس الحاجة إلى تدريس روايات محفوظ التاريخية لطلابنا فى المدارس.. نحن فى أمس الحاجة إلى دعم هذا النوع من الكتابة، ذلك أن قيمته تتجاوز حدود الإبداع إلى التوثيق وما يمكن تسميته بإعادة كتابة التاريخ.. أتمنى لو أن جامعاتنا وأقسام الأدب فيها درست أعمال ريم بسيونى ومن هم مثلها إلى طلابنا فى الجامعات.. هؤلاء الذين جرت عملية تجريف شديدة لعقولهم وذاكرتهم حتى صارت عملية إعادتهم إلى تاريخهم صعبة وقاسية ومكلفة.
قد يرى البعض فيما أدعو إليه ترفًا فى ظل اهتمام الكل بالاقتصاد وظروفه وحرب لقمة العيش التى نحياها جميعًا.. لكننى لا أراه كذلك فى ظل سيطرة ثقافة «سطلانة» على عقولنا وعقول جيل كامل لا يرى أملًا فى المستقبل فما باله يحتاج لتاريخ.. هو يحتاج إلى المال الكثير الذى يسمع عنه فى برامج الكرة التى تتحدث عن موسم انتقالات اللاعبين.. هو يبحث عن المجد والألقاب والذهب والسيارات الفارهة.. لم يعد الأمر ترفًا يا سادة.. وإلا فقانون وأخلاق «سطلانة» ستسود لسنوات طويلة مقبلة.