إبراهيم عيسى وحديثه عن (الدولة) و(المواطن)!
(١)
إبراهيم عيسى أحد كبار مثقفى مصر، هذه حقيقة أدركها منذ أكثر من ثلاثة عقود ونصف! اكتشفته مبكرًا وتابعت كتاباته الصحفية والروائية وتابعت صعود نجمه فى عقود ما قبل يناير وجميع إصداراته الصحفية ومعاركه أثناء حكم مبارك!
لذلك فأنا أدرك حجم الرجل وكم ما يحمل فى رأسه من معرفة ومعلومات جمعها عبر سنوات عمره وقراءاته الواسعة. هو مثقفٌ كبير أو مثقف موسوعى، وذو قلمٍ رشيق ولغة كتابة جذابة تميزه، ويجيد النقد وفى فترة من فترات عمره المهنية حين فُتحت أمامه منابر الإعلام المرئى كان يبدو وكأنه ينتشى باستعراض قدرته على النقد البلاغى أكثر مما يهتم بالوصول إلى حلول لما يتعرض له من قضايا!
أدعى أننى قرأته جيدًا بتمهل ولسنوات ووضعته كأحد نجوم قائمة كُتابى الكبار فى مكانةٍ تليق بقدراته وبمواهبه المعلوماتية واللغوية، لكننى بصراحة لم أضعه أبدًا فى خانة المفكرين أصحاب الأفكار الجديدة أو المدارس الفكرية السياسية أو حتى التنويرية!
(٢)
ثم مرت علاقتى بما يكتبه، ونظرتى كقارئ ومهتم بمتابعته، بمرحلة حاسمة بعد تفجر أحداث يناير! فى الأيام التى فصلت بين الخامس والعشرين من يناير وبين تنحى مبارك خذلنى المثقف الموسوعى الكبير فى موقفه من جماعة الإخوان ولم يقبل عقلى أن يكون فى موقفه كعوام الناس وأن يُخدعَ مثل الجميع، ويساهم فى تقديم الجماعة للمصريين كقوى وطنية سياسية، ويساهم موقفه كمثقفٍ فى أن تمتطى الجماعة آمال وتحركات شباب مصر!
أعتقد أن شرعية نخبوية المثقفين تُبنى بشكل أساسى فى مثل تلك اللحظات التى يجب عليهم فيها أن يقودوا العامة عقليًا حتى لو كان دورهم يخالف هوى العامة!
معارضته لحكم الجماعة لم يعد ترميم صورته فى ذهنى، لأنها تزامنت مع معارضة غالبية المصريين، ولم يكن ممكنًا أن يتخذ غير ذلك موقفًا! ولو فعل ذلك لكان كمن يكتب شهادة خروجه من المشهد المصرى للأبد!
لدىّ تحفظات ووقفات كثيرة أمام أداء ومواقف إبراهيم عيسى خاصة فى السنوات التى تلت انتخابات ٢٠١٤م، وأهم تلك المواقف ما حاول ترويجه فى أعوام مواجهة الإرهاب المسلح فى سيناء حين حاول إقناعنا بعدم وجود تآمر على الدولة المصرية على عكس كل الحقائق الثابتة والتى تم تأكيدها بما تم تسريبه من وثائق دولية!
(٣)
لكننى أكتفى هنا بما سمعته فى مقدمة برنامجه مساء الخميس عن مفهوم «الدولة» و«المواطن» بما يستدعى التوقف والرد على ما أعتبره يتناقض مع أبجديات المصطلحات السياسية التى قطعًا لا تغيب عن أى مثقف حتى لو لم يكن بوزن إبراهيم عيسى!
لك أن تعارض كما تشاء، وتوضح للناس حيثيات معارضتك كصحفى أو إعلامى، فهذا دور وطنى من أسس الدول المدنية الحديثة، ويعد من علامات قوة الدول لا ضعفها!
لكن أيضًا من أسس المعارضة البناءة أن تكون منطقية وموضوعية، ولا تتعارض مع الحقائق على الأرض، أو بديهيات علوم السياسة، وأخيرًا ألا يكون واضحًا جدًا أن تكون تلك المعارضة فقط من أجل مداعبة مشاعر الجماهير حتى باستخدام مفردات قديمة لم تعد قائمة فى الواقع المصرى الجديد!
قال عيسى فى، برنامجه ما معناه، أن منهج إدارة الحكومة المصرية حاليًا يقوم على منهج يُعلى قيمة الدولة ولا يعلى قيمة المواطن! فما يتم إنجازه هو من أجل الدولة من أجل الكيان! فى حين أن المواطن هو السيد ويجب أن تقوم الإدارة على أن تنفذ متطلباته ورغباته وتحقق مطالبه هو لا الدولة أو الكيان! وأسهب فى استخدام بعض المفردات اللغوية التى تصب فى نفس السياق!
(٤)
هناك شقان فى هذا الحديث بحاجة إلى ردٍ وتفنيد، الأول منهما هو خلط عيسى المتعمد بين مصطلحى (الدولة) و(نظام الحكم)!
وهو خلطٌ أستبعد تمامًا وقوعه على سبيل الخطأ من مثقفٍ بحجم إبراهيم عيسى! فكثيرٌ من العوام أصبحوا يدركون أن الدولة مصطلحٌ يشير إلى كيان مكون من عناصر رئيسية ثلاثة – أرضٌ وشعبٌ وحاكمٌ أو إدارةٌ حاكمة – متساوية فى الأهمية والقيمة، وغياب أو انهيار أو تعرض أحدها لخطر وجودى يعنى انتفاء وجود كلمة دولة!
يضاف لتلك العناصر الأدواتُ التى تؤسس لعلاقة متزنة بين هذه العناصر الثلاثة، بما يضمن عدم الصراع بينها، وضمان استمرار حياة الكيان. هذه الأدوات تشمل القوانين وألاعراف الحاكمة، والقوة البدنية والمادية لفرض تطبيق ما تم الاستقرار عليه من قوانين وأعراف!.
العناصر الثلاثة متساوية فى الأهمية وفى حتمية الحفاظ على حياتهم وحيويتهم! فلا معنى لوجود أرض فارغة، ولا معنى لمعانى سيادة الشعب على أرض غير تامة الملكية لهذا الشعب، ولا معنى أخيرًا لوجود شعب على أرض دون قوة حاكمة تنفذ ما تم سنه فيقتتل أفراد الشعب، وينهش القوى فيهم الضعيف، أو تتعامل معه الشعوبُ المجاورة له كذئابٍ تلتهم قطعان ماشية!
إدراك الشعوب لذلك – أى المساواة فى أهمية كل عنصر من عناصر الكيان – هو الذى يدفعها أن تحارب حتى الموت دفاعًا عن العنصر الآخر وهو الأرض، وهى الذى يدفع الشعوب للرضوخ بكامل إرادتها للعنصر الثالث وهو القوة الحاكمة، ولا يعد هذا الرضوخ ضعفًا، إنما امتثالٌ للحضارة ومثاليةٌ فى التحضر!
فحين يتحدث مسئول أو إعلامى آخر أو حتى مواطن عادى عن الدفاع عن بقاء الدولة، فإنما يعنى بذلك العناصر الثلاثة مجتمعة!
وعيسى يعلم ذلك تمامًا، وإن لم يكن يعلم ذلك نصبح أمام مشهد عبثى غير منطقى!
(٥)
رغم أن تعبيرات من عينة (الأمة فوق الحكومة) مثلًا إنما هى شعارات سياسية للتسويق السياسى الحزبى ويعرف مبتكروها أنها مصطلحات غير منضبطة طبقًا للعلوم السياسية المعاصرة أو حتى التاريخ السياسى الواقعى، لأن هناك دساتير وقوانين منظمة للعلاقات بينهما، ولا أحد منهما فوق الآخر، لكن يمكن تقبلها واعتبارها من الرقص السياسى غير المحرم!
لكن ما ردده عيسى فى حلقته من وضع الدولة المصرية فى مواجهة المواطن المصرى، ثم إقراره – على غير الواقع المصرى – أن تلك الدولة تطغى على حق المواطن!
ثم طرح - تصويبًا لما يرى أنه وضعٌ قائم خاطئ – تلك العبارة التى اعتبرَها مسلمة، وهى أن السيادة ينبغى أن تكون للمواطن لا للدولة!
إن هذا الطرحَ بأكمله غير منضبط، أو غير برىء!
هو طرحٌ غير منضبط لأنه لا يمكن وضع الجزء فى مناطحة أو مواجهة مع الكل! هذا التعارض فى المصالح بينهما غير موجود بالأساس فى الحالة الطبيعية المستقرة!
هو طرحٌ غير منضبط لو افترضنا – على غير منطقية الأمور - أن قائله لا يدرك تلك البديهيات!
ويصبح طرحا غير برىء إن كان قائله مدركًا لما يحتويه من مغالطات، ويصر ليس فقط على استخدامه، إنما على تسويقه وترويجه جماهيريًا، بالتأكيد عليه فى مقدمة برنامجه فى ذروة انتباه المشاهد، وكأنه عنوانٌ لما سوف يأتى عبر ساعتين هما مدة برنامجه، وأى قارئ لو اطلع ولو قليلًا على بعض مراجع علم النفس يدرك هذا!
قد يفعل ذلك بعض المثقفين من الصحفيين أو الإعلاميين لأسباب متباينة، منها ما قد يكون نفعيًا خالصًا «جزء من الجمهور عايز كده»، ومنها ما قد يكون انتقاميًا من نظام حكمٍ رفض مثلًا لذلك الإعلامى أو الصحفى القيام بدور «هيكل – عبدالناصر»، أو ما يكون تنفيذًا لاتفاقٍ مع بعض قوى اقتصادية استثمارية تتعرض مصالحها لأخطار «بيزنس خالص»، أو حتى من باب الاحتراف الخارجى داخل بعض الأندية الشقيقة أو غير الشقيقة!.
حين تكون هناك معارضة حقيقية موضوعية ينأى المعارض بنفسه تمامًا عن تقديم أية بيانات أو معلومات مغلوطة يمكنها أن تؤخذ عليه! فالمعارضة جزء منطقى طبيعى من أية أنشطة بشرية، لكن التضليل المعلوماتى ليس كذلك!
(٦)
قد يقول قائلٌ هذا خطأ لفظى غير مقصود ولا يفسد لب الفكرة التى أرادها الإعلامى المثقف، أى بالعامية المصرية «إنت مسكت فى الكلمة وتجاهلت الفكرة!»، وهى أن الإدارة المصرية الحاكمة الحالية تنتهج سياسة تقوم على اتخاذ قراراتها بما يحقق صالح نظام الحكم فقط ولا تضع المواطن المصرى كهدف لكل القرارات!
هنا يبدو الاحتمال الثانى أكثر بؤسًا من الاحتمال الأول، ولو أن عيسى استخدم تلك العبارة السابقة الصحيحة لغويًا واصطلاحيًا حتى لا يقع فى خطأ مصطلحى بديهى، لأوقع نفسه فى خطأ أقرب للفخ، لأنه كان سيوَاجه باعتراضٍ كبير ولفقد جزء غير قليل من مريديه!
لأن عيسى يعلم أن المصريين قد مروا فى تاريخهم بتجارب تجعلهم يدركون جيدًا الفروق بين إدارة تعمل فعليًا بمنطق «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة!»، وبين إدارة قررت – حتى فى ذروة المواجهة العسكرية - ألا تُشعر المصريين بأن بلادهم تخوض حربًا حقيقية أو ترجئ الشروع فى فتح ملفات اجتماعية تضغط على مواطنيها منذ عقود!.
إدارة جعلت أجندتها عبارة عن إنقاذ العنصرين معًا – الأرض والشعب – سواءً بسواء!
حقيقة أدهشنى إبراهيم عيسى كثيرًا، لتلك الثقة التى أبداها وهو يردد عبارات - يدرك تمامًا من عاش فى مصر فى العقد الأخير خواءها – وكأنها حقائق جغرافية!
إدارة حاكمة يترأسها رجلٌ كان أعداؤه يحاربونه إعلاميًا قبيل وصوله للحكم بأنه يحاول استدرار عاطفة المصريين بمعسول الكلام، وأنه لن يفعل ما يقول حال انتخابه فخيب أوهامهم!
إدارةٌ حاكمة تلهث فى سبيل إدراك غاية واحدة توفير الاحتياجات الأساسية لمواطنين سجلوا النسبة الأعلى فى النمو السكانى العالمى!
رئيسٌ تجده يركض فى قرى ونجوع مصر وطرقها وصحاريها شمالًا وجنوبًا وكأنه فى سباق مع اللحظات! مثقفون فى الماضى كانوا يتحدثون عما يفعله نظام الحكم فى مصر الآن وكأنه ضرب من الخيال!
(٧)
منهج إبراهيم عيسى الآن ومفرداته وطريقته المسرحية وإبداعه فى استخدام طبقات صوته من الطبقة التهكمية، إلى الطبقة الجادة الثائرة، إلى غيرها من الطبقات، يذكرنى بقوة بطرق قديمة بالية لمعارضة مبارك التى اعتمدت على عدة إكليشيهات كانت حقيقية بقدرٍ كبير وقتها، لكنها الآن فقدت معانيها مع اقتحام الإدارة الحالية لما يتعلق بتلك الإكليشهات من ملفات بقوة! والأهم أن تلك الإدارة قد فتحت الأبواب على مصراعيها أمام كل المصريين للتقدم بما لديهم من حلول عما يتحدثون عنه!
إبراهيم عيسى لديه أزمة نفسية ومهنية، فهو من ناحية وبدوافع ذاتية متجردة يصر على تقديم نفسه فى صورة تقليدية قديمة لا تتناسب مع تطورات حقيقية تجرى فى مصر!
توقف عن تطوير نفسه كإعلامى أو تطوير أدواته التى تتلخص فى تحديث معلوماته واختيار لغة وموقف يتناسب حقيقة مع الواقع!
غرامه بصورته القديمة فى عيون مريديه – الذى كان يمثل لهم فى دولة مبارك فارسًا وزعيمًا بغض النظر عما كان يحدث خلف كواليس صاحبة الجلالة وصاحب الفخامة - والحنين إلى تلك الصورة ومحاولة مد عمرها الإكلينيكى وضعه فى أزمة مهنية حقيقية!
لم يجدّ للخروج منها إلا بنثر نفحاتٍ قديمة من ذلك الحنين للماضى فى مقدمة كل حلقة من حلقاته على طريقة مذيع السيرك الذى يحاول تشويق المارين عَرَضَا أمام المسرح بمنحهم وعدًا بأنه ما زال على قديمه!
لم يحاول أن يقدم إعلامًا جديدًا موضوعيًا حقيقيًا به جهدٌ مبذول على الأرض المصرية فى مختلف محافظات مصر حتى لو قرر أن يكون معارضًا!
الاستسهال والبقاء على خلطته القديمة مع تغيير مقادير البهارات حسبما يستطيع من تمريره من عبارات!
حين تخرج الآن على المصريين بحديثٍ عن خروج المواطن من حسابات الإدارة المصرية فى قراراتها وكل المصريين يعلمون أن مشاريع ومبادرات الصحة والإسكان الاجتماعى وتطوير التعليم وتحسين الأحوال المعيشية للملايين المصرية الأكثر فقرًا والإصرار على أن تبقى تلك الإدارة على ما تستطيعه من إجراءات الحماية الاجتماعية للمواطنين من آثار الأزمات الاقتصادية، وحين تفعل ذلك فى نفس الليلة التى شاهدنا جميعًا رئيس الجمهورية فى منتصف النهار يقف مع مجموعة من المصريين البسطاء الذين استظلوا بينما استمر هو فى وقفته تحت أشعة الشمس دون حتى أن تبدو على ملامح وجهه أى علامات ضيق أو تبرم ودون أن يحاول تقصير مدة الحوار، حين تفعل ذلك كإعلامى فأنت لديك مشكلة حقيقية فى بديهيات الأشياء!
لماذا يصر إبراهيم عيسى على عدم بذل جهد إعلامى حقيقى؟!
حتى تكون إعلاميًا موضوعيًا تقدم حتى ولو جزءًا من الحقيقة للناس، عليك أن تكلف مجموعة العمل التى تعمل معك بمدك بحقائق ومادة مصورة من القرى والنجوع والمدن والصحارى المصرية!
أو أن تعلن أن برنامجك فلسفى لا علاقة له بواقع المصريين! أما أن تقدم قليلًا من الحقيقة وكثيرًا من محاولات ترويج الإحباط والتسفيه مما يتم فهذا إعلامٌ غير موضوعى أو إفلاس إعلامى!
لا أطالبه بأن يتوقف عن المعارضة أو النقد، لكننى أتمنى أن يدرك حقائق الأرض وأبجديات تاريخ الأمم فى فترات التحول الكبرى!
لا أدعى أن أحوال مصر قد تبدلت ومن يتوهم ذلك فهو خاطئ، لكن من غير العدل أن يتم تصدير الإحباط للمصريين وما أنجزوه على الأرض!.