ومنين نجيب ريحانى تانى؟.. وقائع موت رجل مهم... جدًااا
رجل أحب المسرح حتى الموت
لحظة من فضلك.. لا تتعامل مع تلك الجملة على أنها صيغة مبالغة لإثبات حب الريحانى لفنه تماشيًا مع تعبير المبالغة مصرى الصنعة «بحبك موت».
لأن الأمر مع الريحانى مختلف، فهذه الجملة حقيقية تمامًا، كما رصدها محرر «آخر ساعة» فى بابها الشهير «جولة خلف الكواليس» فى العدد الصادر يوم ٨ يونيو ١٩٤٩، أى نفس يوم وفاة الريحانى، وهذا معناه أن ذلك الخبر هو آخر خبر منشور عن الريحانى حيًا فى الصحافة المصرية؛ لأنه بعد صدور العدد بساعات قليلة جدًا ذهب الريحانى بعيدًا إلى الجانب الآخر.
يرصد الخبر آخر ٤ أيام عرض مسرحى للريحانى فى الإسكندرية، والتى لم يستطع نجيب إلا أن يعرض يومين فقط بتأثير الأدوية المعالجة للحمى، والتى فشلت فى اليوم الثالث، حتى اضطرت الفرقة إلى الاعتذار للجمهور وإعادة ثمن التذاكر.
وعاد الريحانى إلى بيته والكل ينتظر أن يقوم من وعكته القصيرة حتى جاء اليوم الموعود ليقلب الأمور رأسًا على عقب.
ففى صباح يوم ٨ يونيو ١٩٤٩ بدأ الخبر الحزين يتسلل عبر أسلاك التليفونات بين دائرة ضيقة من الفنانين، ثم سرعان ما وجد طريقه إلى أثير الإذاعة المصرية لتتسع دائرة المفجوعين به.
نجيب الريحانى.. مات
خبر من النوع الذى يُقابل بصمت طويل من فرط الفاجعة وكأنه يقف على حافة الأذن ويرفض العقل استقباله.. هذا ما حدث تقريبًا فى العقل الجمعى المصرى فى بداية الأمر بعد سريان الخبر عبر الوسائل السريعة قبل أن تحبسه أحبار المطابع فى دفتر التاريخ من خلال التغطيات الصحفية المختلفة.
وحدها الصحافة المطبوعة بطبيعة متأنية مدققة وثّقت تلك الحالة العامة من الوجوم والحزن القومى على رجل من النوع الذى يقال عنه استثنائى.
استثنائى فى موته كما كان استثنائيًا فى حياته.
فهو تقريبًا الرجل الوحيد الذى كتب نعيه بنفسه وبنفس نبرة سخريته المعهودة، ونشرته المجلات قبل موته بخمسة عشر يومًا.
وكأنه قرر أن يسخر من الفناء وأراد أن يقول له ها أنا ذا أعرف أنك قادم بعد أيام وأنتظرك بينما أكتب نعيى بنفسى.. وقال الريحانى بالنص: «مات نجيب، مات الرجل الذى اشتكى منه طوب الأرض وطوب السماء، إذا كان للسماء طوب، مات نجيب الذى لا يعجبه العجب ولا الصيام فى رجب، مات الرجل الذى لا يعرف إلا الصراحة فى زمن النفاق ولم يعرف إلا البحبوحة فى زمن البخل والشح، مات الريحانى فى ٦٠ ألف سلامة».
وها نحن الآن بعد وفاته بـ٧٤ سنة نرصد وقائع الصدمة التى ضربت أركان المجتمع المصرى فى نهاية الأربعينيات.
أو لو أردت الاختصار فقل نرصد وقائع موت رجل مهم.. جدًااا.. هيا بنا.
ثانى أكبر جنازة فى تاريخ مصر بعد ٢٢ عامًا من جنازة زعيم الأمة
نحن الآن نعيش أجواء ظهيرة يوم ٩ يونيو ١٩٤٩، ثانى يوم الوفاة، حيث يرقد جثمان نجيب الريحانى فى تابوته بكنيسة السريان الكاثوليك بشارع الظاهر بالعباسية.. ثم بعد الصلاة عليه ينتقل إلى سرادق المعزين فى محطة كوبرى الليمون، ومنه يسير الجثمان على الأكتاف حتى ميدان الأوبرا مخترقًا شوارع طالما أحبها نجيب، ثم فى النهاية تم نقل الجثمان بالسيارات، حيث مقابر السريان الكاثوليك.
لم تشهد شوارع القاهرة كل هذا الزخم منذ حوالى ٢٢ عامًا عندما ودّعت زعيم الأمة سعد زغلول سنة ١٩٢٧.. الكل شارك.. الجميع بكى بحرقة على رحيل رجل أحبوه وتماهوا معه حتى ظنوا أنه لن يغيب.
كان طبيعيًا أن تنال تلك الجنازة المهيبة الحاشدة النصيب الأكبر من التوثيق على صفحات الجرائد الصادرة حينها.. ووثّقت كاميرات مصورى دارالهلال والأهرام وأخبار اليوم تلك اللحظات الإنسانية النادرة.
فهذه بديعة مصابنى، الزوجة السابقة للريحانى، لم تصدق مثل الباقين، وعندما رأت التابوت وضعت خدها عليه وكأنها تتأكد من صحة الرواية.. وهنا تلتقط تلك اللقطة الأبرز فى جنازة الريحانى عدسة واحد من أهم المصورين الصحفيين الذين مروا على الصحافة المصرية، وهو «أرشاك مصرف»، المصور الأرمينى وأول رئيس لقسم التصوير فى الأهرام.
صورة التقطت فى أعلى مستوى من الصدق الإنسانى الذى لم يكن ليوثّق بتلك العظمة لولا كبسة زر «أرشاك» على كاميراه.
وهذه ميمى شكيب منهارة على نعش أستاذها ودّت لو افتدته بنفسها، كما قال محرر «الكواكب» فى تعليقه على صورتها الباكية، مثل صورة أختها زوزو شكيب التى لم تكن أقل انهيارًا منها، هذا بخلاف صورة كاميليا، فاتنة السينما وقتها، التى وضعت كلتا يديها على فمها كاتمة صراخًا محمومًا.. والمفارقة هنا أن كاميليا ذهبت إلى نجيب بعد تلك الصورة بسنة وأيام قليلة بعد أن احترقت بها الطائرة فى حادث يزداد غموضًا كلما مرت الأيام.
استمر حدث موت أهم ممثل كوميدى فى تاريخ مصر مخيمًا على التغطيات الصحفية بطبيعة الحال فترة طويلة بنفس الطزاجة، ولو ركزت على أعداد المجلات الشهيرة وقتها ستجد أنها استمرت فى مناقشة تلك الصدمة الفنية والإنسانية التى حدثت بوفاة الريحانى.
ولم تتوقف تغطية «الكواكب» عند الجنازة.. ولكن كانت هناك لقطات وأشكال صحفية مميزة، منها تغطية لحفل التأبين الذى أقامته نقابة الصحفيين يوم ٢٤ يونيو ١٩٤٩، أى بعد وفاة نجيب الريحانى بستة عشر يومًا، شارك فى التأبين يوسف وهبى وإبراهيم المازنى، وصديق عمر نجيب بديع خيرى، الذى أنهى كلمته قائلًا، طبقًا لتغطية الكواكب: «لقد جئت اليوم لأنوب عن أسرته فى إسداء الشكر للصحافة التى ناصرته حيًا وأنصفته ميتًا.. فشكرًا لها وسلام على نجيب».
وفى عدد أغسطس كانت لقطة صحفية من أربعين الريحانى ربما أرادت المجلة أن تشير إلى حالة نفور ما بين بديعة، التى طلقها نجيب قبل وفاته، من ناحية وأهله من ناحية أخرى.
قامت «الكواكب» فى صفحتين متقابلتين بتقسيم المساحة بشكل أفقى وفى المنتصف عنوان دال «أربعين الريحانى بين معسكرين»، وجعلت النصف الأعلى لمعسكر الأستاذ يوسف الريحانى، شقيق الفقيد، يتصدر معسكره، وإلى جانبه الأستاذ بديع خيرى ونجله عادل.. والنصف الأسفل لمعسكر السيدة بديعة مصابنى ومعها صديقاتها وعلى رأسهن دولت أبيض.
ثم خارج المعسكرين وفى أقصى يسار الصفحتين وضعت «الكواكب» صورة لكلبة الريحانى، وكان هذا تعليقها بالنص: «تنتظر مصيرها.. إنها كلبة الريحانى ملقاة فى إهمال- عرضة للجوع والمرض- أمام باب الفيلا التى كان الفقيد يعدها سكنًا له، وقد اشتد الحزن بالكلبة، فاستسلمت لمصيرها دون أن يشفق بها أحد».
سؤال بلا إجابة طرحته «آخر ساعة»: مَن يخلف الريحانى على عرش الكوميديا؟
الآن تأكد الأمر وهدأ الجسد الذى لم يتوقف عن الحركة على المسارح منذ العقد الأول من القرن العشرين، ليستقر داخل تابوت خشبى كئيب مظلم.. بينما «آخر ساعة» توجه السؤال الأصعب فى تلك اللحظة: «مَن يخلف نجيب الريحانى على عرش الكوميديا؟».
سؤال على بساطة تركيبته اللغوية كان صعبًا على كل من سمعه من صحفى «آخر ساعة» الأستاذ صلاح ذهنى صاحب التحقيق.
«ذهنى» فى مقدمة موضوعه كان حريصًا على تبيان مدى صعوبة مهمته الصحفية الثقيلة، حيث يقول بالنص: «لم أجد فى حياتى عناء كذلك الذى وجدته وأنا أحاول أن أستخرج من بين شفاه الفنانين والفنانات رأيًا فيمن يخلف نجيب الريحانى»، ثم يستطرد «ذهنى» قائلًا: «قابلتنى الدموع والحسرات حين تحدثت إلى أفراد فرقة نجيب.. كلهم مفجوع فى الزميل والصديق والأستاذ والأب.. وقد كان نجيب كل ذلك لهم جميعًا.. ميمى شكيب وزوزو شكيب ومارى منيب وحسن فايق والقصرى وكمال المصرى لا يريد واحد منهم أن يجيب عن السؤال».
يكمل «ذهنى» معاناته فى ذلك التحقيق الصحفى ليقول: «بدأت أصوغ السؤال فى قالب جديد.. بدأت أوجهه مسبوقًا بالجواب، إن نجيب الريحانى لن يعوض ولكن الحياة يجب أن تمضى ولا بد أن نضع شخصًا آخر على الكرسى الشاغر حتى لا يعلوه التراب».
فيتوجه صلاح ذهنى بسؤاله الجديد إلى يوسف بك وهبى بعد أن فشل فى الحصول على أى إجابة من أعضاء فرقة الريحانى المصدومين.. فجاءت إجابة «وهبى» دبلوماسية هادئة وإن كان بدأها بتأكيد حقيقة أن الكرسى الشاغر لن يملأه أحد، لكنه استدرك إجابته بأن بشارة واكيم كان من الممكن أن يجلس على الكرسى لولا مرضه، ولكن ليس ليخلفه وإنما ليحرسه من التراب.
أخد «ذهنى» سؤاله إلى الموسيقار محمد عبدالوهاب، الذى أكد ما هو مؤكد قائلًا: «نجيب قد وصل إلى درجة لا يرقى إليها أحد»، لكنه أيضًا رمى الكرة فى ملعب السينما التى تخطف كل المواهب من المسرح وأعطى مثالًا على أنور وجدى الذى رأى فيه عبدالوهاب أنه كان من الممكن أن يملأ جزءًا من فراغ الريحانى فى المسرح إن هو أراد ذلك.
لم يسكت صحفى «آخر ساعة» الدءوب وأخذ الجملة من فم عبدالوهاب ليقذفها فى وجه أنور وجدى، الذى صُدم فى بادئ الأمر وتحدث عن المشاكل المادية التى يعانى منها المسرح بشكل عام.. ثم أفضى إلى إجابة قاطعة على سؤال الصحفى قائلًا: «ليس هناك من يملأ فراغ الريحانى، لا أنا ولا غيرى.. لقد كان نجيب عبقرية وشخصية وخفة دم.. أما العبقرية فمعجزة، وأما الشخصية وخفة الدم فربما كان سليمان نجيب هو الوحيد الذى يشابه نجيب فى بعض نواحيه».
والكرة الآن أصبحت فى ملعب سليمان نجيب الذى رشحه أنور وجدى لتغطية جزء من الفراغ الذى تركه نجيب الريحانى، فكان لا بد لذهنى أن يذهب بتلك التوريطة إلى سليمان بك نجيب الذى كان رده هادئًا حيث قال: «لا مانع مبدئيًا لكن بشرط واحد.. هو أن تعيدنى لسن الأربعين وتعطينى خبرة نجيب وحيويته وروحه وهو فى حدود الستين وأنا أعطيك تقليدًا.. لنجيب.. تقليدًا فقط»، وعندما واجهه الصحفى بعدم فهمه قال له: «طبعًا لن تفهم المستحيل، لأن الموهبة لا تُلقن ولا تُكتسب، وقد كان نجيب عبقريًا موهوبًا ومن المستحيل أن نخلق أنا وأنت أو الناس كلهم عبقريًا واحدًا».
لم يكن هذا التحقيق هو أهم ما أسهم به الصحفى صلاح ذهنى بعد وفاة الريحانى، ولكن نشرت مجلة «آخر ساعة» تحقيقًا بليغًا فى صياغته ومعبرًا فى عنوانه المتخم بالدلالات، وذلك فى عدد «آخر ساعة» الصادر بتاريخ ١٥ يونيو ١٩٤٩.. يقول العنوان «نجيب الريحانى الذى صنع من الممثل إنسانًا محترمًا».
يتحدث «ذهنى» متلمسًا طريق الريحانى الوعر الذى سار فيه منذ الصغر حتى أصبح الرجل الذى يجلس فى مكتب أحمد حسانين، رئيس ديوان الملك، هو وسليمان بك نجيب يتسامرون ويتناقشون فى شخصيات رواياته الجديدة، بينما ينتظر مقابلة الباشا خارج الحجرة رهط كبير- على حد تعبير ذهنى- يضم ٣ وزراء وعددًا من وكلاء الوزارات وعددًا آخر من كبار الموظفين كلهم يريدون أن يقابلوا رئيس الديوان.. عندما يخرج الثلاثة «حسانين باشا ونجيب الريحانى وسليمان نجيب» يعاتبه صديق لحسانين باشا قائلًا: «إنت معطل أشغال الدولة علشان تقابل دول؟»، فيرد الباشا ببساطة: «نجيب الريحانى من أهم أشغال الدولة، والرواية التى كنا نتفق عليها هى درس جديد فى الجامعة.. درس سيقدمه نجيب فى أكبر جامعة يتعلم فيها الحكام والمحكومون على حد سواء وهى المسرح».
لهذا الحد كانت نظرة الحكام لدور نجيب الريحانى فى مصر.. وما كلام حسانين باشا، رئيس الديوان الملكى، إلا انعكاس لما يراه الملك نفسه، فقد أصبحت مسرحيات الريحانى من ضمن برامج حفلات القصر الرئيسية، خاصة بعد أن منح نجيب نيشان النيل.. وهكذا دخل قصر الملك.. الرجل الذى كان لا يدخل حرم المحكمة.. والتعبير الأخير لذهنى.
ثم ينهى صلاح ذهنى، صحفى «آخر ساعة» تحقيقه بتصوير بديع للمشهد الأخير فى حياة الريحانى حيث يقول نصًا:
«وفى عصر ذلك اليوم سارت عربة تحمل نعشًا داخله جثمان نجيب الريحانى الممثل.. وخلف النعش تمامًا سار مندوب جلالة الملك يشيع، نيابة عن مولاه.. وعلى جانبى الطريق وقف الشعب فى حزن وجلال يودّع فى حرارة الرجل الذى صنع شيئًا.. صنع للشعب فنًا ومجدًا ولزملائه مكانة».
معركة العقاد وعبدالوهاب على إرث الريحانى
فى عدد «الكواكب» لشهر يوليو ١٩٤٩، بعد مرور أكثر من ٢٠ يومًا على وفاة الريحانى، بدأت معركة فكرية من نوع خاص على إرث الرجل الفنى.. ولأننا نتكلم عن الريحانى فليس أقل أن يكون طرفا تلك المعركة هما عملاق الفكر العربى عباس محمود العقاد، وعملاق الألحان والنغمات والموسيقار العابر للأجيال محمد عبدالوهاب.
البداية كالعادة كانت من عند العقاد الذى أفردت له مجلة «الكواكب» ما يقارب ٤ صفحات ليطرح رؤيته بعنوان «رجل خُلق للمسرح».. يسهب فيها العقاد عن علاقته بفن الريحانى، حيث حضر كل رواياته، مثلما يقول، منذ أن كانت الحرب العالمية الأولى دائرة فى العالم.. ومن ضمن ما يقوله العقاد: «قد تتخيل كثيرًا من الممثلين النوابغ عاملين فى صناعات أخرى غير صناعتهم المسرحية إلا هذا الممثل النابغ الذى لا نظير له بيننا.. إنك تحاول أن تتخيله فى عمل آخر غير عمله المسرحى فلا تفلح».
وعلى ما يبدو أن أسلوب العقاد قد استفز محمد عبدالوهاب الذى كان ما زال مشدوهًا ومعجبًا بمشاهد الريحانى فى فيلم «غزل البنات»، الذى لم يكن عُرض بعد حتى لحظة كتابته ذلك الرد.. حيث زامل عبدالوهاب «الريحانى» بالطبع وراعه ما لمسه من صدق فى مشهد بكاء الريحانى أثناء غنائه وهو ينظر إلى ليلى مراد.
يبدأ عبدالوهاب محاججته للعقاد قائلًا ردًا على كلامه: «بوسعى كفنان زامل الريحانى فى آخر عمل فنى له وهو فيلم (غزل البنات) أن أقول فى ثقة وحماسة وتأكيد إننى لا أتخيل الريحانى إلا مظلومًا على خشبة المسرح، لأنها تسرق الكثير من عبقرياته لتدفنها فى جو محدود وتطويها دون أن يشعر بها أحد»، ثم يستطرد عبدالوهاب: «إن للريحانى وجهًا معبرًا صارخ الملامح ناطق السمة تكاد كل خلجة فيه تبرز قصة بليغة صامتة.. أقول هذا وأنا لا أكاد أتخيل شيئًا غير الشاشة يمكنها أن تعرض فى إتقان وأمانة وراحة هذا العالم الرحب الرائع الذى كانت تلعب فيه شخصيات نجيب المتعددة أدوارها المخلدة، فتقرب وتبرز لك أدق حركة من حركاته وألمع لمحة من لمحاته وأرق نبرة من نبراته».
ثم يطرح عبدالوهاب مفاجأة فى مقاله عن مشروع فنى متكامل كان ينوى، بالاتفاق مع أنور وجدى، تنفيذه لحفظ تراث الريحانى عن طريق تحويل مسرحياته الخالدة إلى أفلام سينمائية على الشاشة الكبيرة تخلدها، وكتب عبدالوهاب نصًا يقول: «كان هذا الشعور الذى أسجله يجول فى نفسى قبل فقدنا له بشهور، فشعرت متأثرًا أن الريحانى لو توفى يومًا فلن يترك إلا أوراقًا بالية ممزقة هى مخلفات مسرحيات لن تكون لها قيمة دون وجوده.. فاعتزمت أن أنفذ مشروعًا مع صديقى وشريكى الفنان أنور وجدى، وهو أن أبدأ فى إحياء مسرحياته الخالدة على الشاشة البيضاء، ولكن القدر شاء أن نقف بعد المحاولة الأولى لنا فى غزل البنات.. ولعل الفقيد كان يشعر بأنه وشيك الانتهاء أثناء عمله فى هذا الفيلم فاجتر كل قوت العبقرية الذى كان يختزنه فى نفسه وسجّل فنًا يمكن أن نعرضه فى قلب إنجلترا أو أمريكا فنبهرهم به قبل أن نبهر أنفسنا».
وينهى عبدالوهاب بدعوة للعقاد بأن يشاهد «غزل البنات» عندما يُعرض حتى يتأكد كم أضاع المسرح علينا من فلتات الفن الإعجازى للريحانى، فإن فى الفيلم منظرًا صامتًا له وهو يتأمل السيدة ليلى مراد يحدثها فيه بتعابير وجهه، أقسم أنه سوف ينتزع التصفيق القوى من أجمد الناس شعورًا.. ومستحيل على المسرح وأضوائه أن تشعرك به، ولكن الكاميرا تواجهك به عن قرب فلا تتمالك نفسك إلا أن تهتف لهذا الفنان العبقرى، ثم يستخلص عبدالوهاب ما يريد قوله فى آخر جملة من مقاله الجميل قائلًا: «إن الريحانى مات فى نظر المسرح.. أما فى نظر السينما فكأنه حى فيها إلى الأبد، لأنه خُلق لها وخُلقت له».
جولة صحفية داخل بيت الريحانى
صالون فخم ثمنه ألف جنيه وآخر ما قرأ مذكرات تشرشل وألفية ابن مالك
وتستمر «آخر ساعة» فى تغطيتها حدث غياب نجيب الريحانى عن المشهد بتقرير مصور لمحتويات شقته فى عمارة الإيموبيليا التى تقع فى الدور الثالث.
ولأنها كانت شقة الريحانى فكان لا بد أن تكون هى الأخرى شقة استثنائية.. وإذا كنت تريد دليلًا على ذلك فانظر معى إلى محتوياتها، كما ذكرها تقرير «آخر ساعة» بالنص، حيث يقول: «إن شقة نجيب الريحانى تتكون من ثلاث غرف وأنتريه، تتجلى فيها الأناقة والبساطة والذوق السليم.. وغرفة مكتب نجيب الريحانى تضم صورًا ولوحات لكبار ممثلى وممثلات فرقته.. وأول ما يلفت نظرك صورة كبيرة لجلالة الملك، ثم صورة كاريكاتيرية بالألوان لنجيب الريحانى وميمى شكيب وبديع خيرى ومارى منيب ومحمد كمال، الشهير بشرفنطح».
والمفارقة هنا التى أبرزها محرر الموضوع فى تعليق على صورة الصالون أن ثمنه ألف جنيه، وهو مبلغ خرافى بالطبع فى نهاية الأربعينيات، ولكنه يؤكد ما قاله الريحانى عن نفسه فى كتابة نعيه الساخر عندما قال عن نفسه إنه «لم يعرف إلا البحبوحة فى زمن البخل والشح».
وعلى مكتب نجيب رُصت عشرة كتب يبدو أنها آخر ما كان يقرؤه نجيب، وهى:
١- مذكرات تشرشل «بالفرنسية».
٢ - حسن البيان فى تفسير مفردات من القرآن.
٣ - أبومسلم الخُرسانى.
٤ - كتاب قواعد اللغة العربية الجزء الأول «المقرر للسنة الأولى الثانوية».
٥ - حديث عيسى بن هشام للمويلحى.
٦ - ألفية ابن مالك.
٧ - النحو الواضح.
٨ - إنجيل لوقا.
٩ - شكسبير.
١٠- لوفوازييه.
وفى غرفة النوم دولاب به ٤٤ بذلة و١٥ حذاءً و٢٠ بيجامة وملابس داخلية لا حصر لها.. والمفارقة الأخيرة التى أبرزها كاتب التقرير هى مصحف وبجواره صورة للقديسة سانت تريزا.
بنظرة متفحصة لتلك الكتب ونوعياتها التى كانت مستقرة على مكتبه وليست ديكورًا يزين به مكتبته، بما معناه أنها آخر ما قرأه بالفعل، تدرك لماذا كان نجيب الريحانى حالة عصية على التكرار، وتتفهم تمامًا موقف الفنانين الذين لم يجدوا إجابة لسؤال صحفى «آخر ساعة» عن خليفة الريحانى.