ذاكرة المكان
نمر كثيرًا فى تجوالنا صباحًا ومساءً على العديد من المبانى أو الشوارع والميادين مرور الكرام، ولا نلتفت إلى ماهية المكان وتحولاته، ولا إلى موقعه فى الذاكرة الجمعية لمصر والمصريين. ويعتقد البعض أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذى له ذاكرة وتاريخ، بينما فى الكثير من الأحايين الأماكن هى التى تصير ذاكرتنا، ولا نبالغ إذا قلنا إنها تصنع تاريخنا. لذلك التفت علماء التاريخ والأنثروبولوجيا، وأيضًا علم النفس، إلى أهمية دراسة هذه العلاقات، من خلال مفهوم أُطلِق عليه «المكان والذاكرة».
وإذا حاولنا تطبيق هذا المفهوم على تاريخنا المعاصر، ربما يكون ميدان التحرير من أهم الأمثلة فى هذا الشأن. سنلاحظ علاقة اسم المكان «الميدان» مع المتغيرات السياسية، وربما يرتبط الميدان هنا بالمشروع العمرانى الكبير للخديو إسماعيل بإنشاء «القاهرة الأوروبية» القاهرة الخديوية، من هنا تم إطلاق اسم «ميدان الإسماعيلية» على هذا الميدان نسبة للخديو إسماعيل، وكان من المخطط له نصب تمثال كبير للخديو إسماعيل فى هذا الميدان.
بعد ذلك بقليل سيرتبط الميدان فى ذاكرة الحركة الوطنية المصرية بذكرى أليمة، وهى الاحتلال الإنجليزى لمصر وتشييد معسكرات الجيش الإنجليزى فى هذا الميدان، فى المكان الذى شغله بعد ذلك مبنى جامعة الدول العربية وفندق هيلتون. ويذكر لنا التاريخ كم المظاهرات الوطنية التى نزلت إلى الميدان وحاولت الوصول إلى معسكرات الاحتلال البريطانى، ودماء الشهداء التى سالت على أرضه.
وبعد قيام ثورة ١٩٥٢ سيتغير اسم الميدان من «الإسماعيلية» إلى «التحرير»، ضمن حملة تغييرات فى مسميات الشوارع والميادين التى تحمل أسماء الأسرة الملكية. ومع ذلك سيستمر جيل على الأقل يردد اسم «ميدان الإسماعيلية» رغم التغيير الرسمى لاسمه، ثم سينتشر اسم «ميدان التحرير» مع الأجيال التالية. وربما لا يعرف البعض أنه بعد اغتيال الرئيس السادات فى عام ١٩٨١ تم تغيير اسم الميدان إلى «ميدان أنور السادات»، لكن المثير أن الناس استمرت تردد اسم «ميدان التحرير» حتى الآن. وبالقطع سيتحول «ميدان التحرير» إلى رمزية جديدة فى الذاكرة الوطنية مع ثورتى ٢٥ يناير و٣٠ يونيو.
ولا يقتصر مفهوم «المكان والذاكرة» على الميادين الكبرى والشوارع العامة، وإنما يمتد ليشمل أيضًا المبانى. ولقد استعنت بهذا المفهوم أثناء إعداد كتابى عن حى شبرا العريق. مَن منا يعرف ذاكرة المكان بالنسبة لكلية الهندسة فى شبرا؟ كان المكان فى الأصل المدرسة الإيطالية فى شبرا، عندما كانت شبرا، وحتى منتصف القرن العشرين، المكان المفضل للجالية الإيطالية فى القاهرة، ليس بعيدًا عن البيت الذى ولدت فيه داليدا، وكنيسة سانت تريزا، التى كان يخدم فيها العديد من الرهبان الإيطاليين. ومع الحرب العالمية الثانية وضعت الأملاك الإيطالية تحت الحراسة، وتم الاستيلاء عليها. ومع القصف الجوى للمحور على الإسكندرية، تم نقل كلية فيكتوريا من الإسكندرية إلى هذا المكان. وبعد انتهاء الحرب بفترة قصيرة أصبح هذا المكان مقرًا لكلية الآداب جامعة عين شمس. بعد ذلك وفى فترة الستينيات تحوّل المبنى إلى المعهد الفنى بشبرا، وحتى الآن هناك دائرة انتخابية تسمى دائرة المعهد الفنى. بعد ذلك تحوّل المكان إلى كلية الهندسة.
للمكان ذاكرة.. وبطاقة هوية.