لعبة المصالح.. سر "التقارب المفاجئ" المتبادل بين بوتين وأردوغان
وصلة من الغزل السياسي المتبادل عبّرت عنها تصريحات الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، خلال الأيام الأخيرة الماضية، ما دفع المراقبين للتساؤل حول أسباب التغير المفاجئ في موقفي الرجلين إزاء بعضهما البعض، رغم التوترات التي سيطرت على علاقتهما منذ اندلاع الصراع في سوريا منذ ما يزيد على 12 عامًا.
ورغم أن الرئيسين لم يتبادلا الاتهامات أو التصريحات العدائية علنًا، غير أن الكثير من الإشارات والدلائل كانت تفيد بتوتر علاقتهما الثنائية، لمرورها بمنعطفات كثيرة تعرضت خلالها لهزات عنيفة كادت تعصف بالعلاقة بين الدولتين المتجاورتين، أبرزها حادث إسقاط مقاتلة روسية على الحدود التركية السورية في العام 2015، ثم حادثة اغتيال السفير الروسي لدى أنقرة على الهواء مباشرة في العام التالي، فضلًا عن كثير من المواجهات غير المباشرة بين الجيشين التركي والروسي من خلال وكلاء، سواء في سوريا أو ليبيا، أو في إقليم "قرة باغ" المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان، إلى جانب اختلاف المواقف من قضية الإبادة الجماعية للأرمن.
إشارات متضاربة
في مؤتمر صحفي قبل ثلاثة أيام، أرجع المتحدث باسم الرئاسة الروسية، دميتري بيسكوف، التحولات الجذرية في العلاقة بين "موسكو وأنقرة"، إلى خصوصية العلاقة بين بوتين وأردوغان، بينما رد الأخير على موقف الكرملين في آخر مؤتمراته الانتخابية، بأنه لن يشارك في الحملة الغربية لفرض عقوبات على روسيا، وهو ما قد يُفهم منه أن العلاقات بين البلدين في أفضل حالاتها، غير أن الحقائق على الأرض تفيد بعكس ذلك.
ولأن العلاقات الدولية دائمًا معقدة ومتشابكة الأبعاد، فيصعب تفسير التصريحات الروسية الداعمة لأردوغان بمعزل عن سياقها الراهن، الذي يتحدد بخوض الأخير انتخابات الرئاسة التركية هذه الأيام، في ظل منافسة شرسة مع مرشح المعارضة المدعوم غربيًا كمال كليجدار أوغلو، ثم عن خلفياتها التاريخية، لإثبات ما إذا كان ذلك التقارب يحدث بناء على توجهات استراتيجية، أم أنه مجرد تكتيك سياسي مرحلي يمارسه الطرفان، على طريقة "عدو عدوي صديقي".
علاقات مضطربة
يعود تاريخ العلاقات الثنائية بين تركيا وروسيا إلى القرن السادس عشر حتى بداية القرن العشرين. كانت العلاقات بين الإمبراطورية العثمانية وروسيا القيصرية في أغلب أوقاتها مضطربة يحكمها التوتر والصراع بسبب تعدد الحروب بين القوتين للرغبة في السيطرة وبسط النفوذ والهيمنة على منطقة البحر الأسود ودول البلقان والمضائق البحرية المهمة للربط الملاحي، وحركة التجارة بين شرق وغرب القارة الأوروبية.
واستمرت التوترات حتى أوائل القرن الماضي إلى أن قررت الدولتان الانخراط معًا في الحرب العالمية الأولى ضد القوى الغربية، وتحسنت العلاقات بين الحكومتين نوعًا ما، نتيجة لمساعدة الحكومة البلشفية الروسية، الثوار الأتراك خلال حرب الاستقلال التركية التي قادها مصطفى كمال أتاتورك في الفترة من 1919 إلى 1923، ثم ما إن لبست حتى تدهورت مرة أخرى في نهاية الحرب العالمية الثانية بسبب المطالب الإقليمية التي قدمتها الحكومة السوفيتية لتركيا حول رغبتها في استرداد الأراضي التي خسرتها روسيا أثناء حرب القرم، الأمر الذي أصاب أنقرة بالذعر من نوايا الاتحاد السوفيتي التوسعية، فسارعت بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو" في عام 1952 بغرض الحماية، لتتدهور العلاقات بين البلدين من جديد، وتصل إلى أدنى مستوياتها حتى وفاة ستالين.
استمرت العلاقات الروسية التركية على هذا المنوال متقلبة بين التوتر والهدوء، وبتفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991، توسع البلدان في شراكات تجارية واقتصادية، إلا أن اتفاقات التعاون بينهما لم تستطع تبديد الرصيد الطويل من المناوشات، خصوصًا بعد وصول بوتين وأردوغان لقمة السلطة في الدولتين مطلع القرن الجديد، لا سيما أن كلًا منهما يحلم باستعادة الأمجاد الإمبراطورية لبلاده في المنطقة والعالم، ليعيد التاريخ دورته وتبدأ صفحة جديدة من العلاقات غير المستقرة المتأرجحة صعودًا وهبوطًا في المدى الواقع بين التعاون والصراع.
يتساءل المراقبون عن أسباب التحول الدراماتيكي في علاقة بوتين وأردوغان مؤخرًا بالشكل الذي يفيد بأنهما "سمن على عسل"، وقد تبادلا الهجوم في الأمس القريب على منصة الأمم المتحدة وعلى مرأى ومسمع من العالم أجمع، لاختلافهما حول دور مجلس الأمن في حل النزاعات وفرض الأمن، وكذلك الإهانة التي وجهها الرئيس الروسي لضيفه التركي حين زاره في الكرملين عام 2020، وإرغامه على الانتظار لمدة تتجاوز تلك المنصوص عليها في البروتوكول مع تعمد نشر الفيديو على نطاق واسع، وهي الأسباب التي يمكن إجمالها في كلمة واحدة "التكتيك"، الذي تتضح ملامحه بمعرفة ما يريده كل رئيس من الآخر في هذه الفترة الحرجة.
كلمة السر
المصلحة هي كلمة السر في التقارب التركي الروسي خلال المرحلة الحالية، فبوتين وأردوغان يمثل كل منهما للآخر مخرجًا مهمًا للقفز على الحصار والتضييق الغربي في أسواق السلاح والطاقة على وجه التحديد، حيث تعتمد أنقرة على موسكو في التزود بالأسلحة التي تعجز عن الحصول عليها من الأسواق الغربية، كان آخرها صفقة شراء منظومة الدفاع الجوي الروسية المتطورة S400 عام 2019 التي أججت الخلاف مع واشنطن، وأدت إلى قرار استبعاد تركيا من برنامج تصنيع المقاتلة الأمريكية الأكثر تطورًا في العالم F35، في الوقت نفسه تنظر روسيا إلى تركيا على أنها سوق لتصريف منتجات النفط والغاز الروسية المحظورة بسبب العقوبات، ما يمكن الحكومة الروسية من استئناف جني عائدات النفط ولو جزئيًا.
كما أن الدعم الغربي عمومًا والأمريكي خصوصًا لمرشح المعارضة المنافس لأردوغان على رئاسة تركيا، دفع الأخير للبحث عن المكافئ الموضوعي حتى لا تميل الكفّة لصالح خصمه الذي ينتوي فرض عقوبات على روسيا إن استطاع الوصول للرئاسة عبر جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها بعد ثلاثة أيام، وهو الأمر الذي لا يريده بوتين، حيث إن وصول أوغلو إلى حكم تركيا سيفتح جبهة جديدة على روسيا، سواء في ساحة الدبلوماسية لانسجامه مع الاتحاد الأوروبي، أو على الأرض إن قرر- حال نجاحه- إعادة اللاجئين السوريين قسرًا إلى بلادهم، بما ينذر بتجدد الصراع السوري بسبب عودة المقاتلين، وهو ما لا يريده بوتين الذي يرغب في التركيز على الحرب الأوكرانية.