قلق الصفحة الأولى
حصل الروائى التركى أورهان باموق «٧١ سنة» على جائزة نوبل عن روايته «اسمى أحمر» سنة ٢٠٠٦، وكنا قرأناها بالعربية قبل ذلك بسنوات وهى رواية عظيمة، مزدحمة بالحكايات الصغيرة داخل عالم سحرى وغرائبى يتقصى فن النقش الإسلامى وتاريخ النقاشين وصراعاتهم، وتاريخ حرفة تذهيب الكتب التى ورد ذكرها فى كتب السلاطين والحكايات التركية القديمة، أتذكرها الآن بعد عشرين عامًا، وأتذكر بدايتها على لسان جثة، وقصة عشق قرة وشكورة، والجدل حول الموقف الإسلامى من التصوير والرسم، والصراع بين فن النقش الإسلامى المتمثل فى المنمنمات، والأسلوب الغربى المتمثل فى التشخيص والأسلوب.
كانت طريقة السرد فى العمل جديدة ومدهشة، وتتم رواية الحكايات على لسان جثة أو حصان أو اللون الأحمر أو الشيطان، إلى جانب الشخصيات الرئيسية التى تملك لسانًا حقيقيًا، أعماله التى ترجمت بعد ذلك إلى العربية لم تُستقبل بالحفاوة نفسها مثل: «بيت الصمت» و«القصر الأبيض» و«الكتاب الأسود»، وربما كان كتابه عن إسطنبول من الكتب التى كانت تستحق الحفاوة. «باموق» تمت ملاحقته قضائيًا بسبب إهانة الهوية التركية لهجومه على مصطفى كمال أتاتورك، وتم العفو عنه بعد نوبل، وتعرض لمضايقات كثيرة بسبب تصريحاته حول الإبادة الجماعية ومذابح الأرمن والأكراد.
وبعد مقتل أحد الصحفيين الأتراك «من أصل أرمنى» بسبب تنديده بمذابح الأرمن، تلقى باموق تهديدًا بالقتل، وأكدت له السلطات جدية التهديد، فهرب إلى أمريكا، ولكن نجاحاته وكتاباته محل اهتمام عشاق فن الرواية، لأن أعماله ترجمت إلى ٢٣ لغة. فى التاسع من هذا الشهر استقبلت «كوليج دى فرانس»، وهى أرفع مؤسسة أكاديمية فرنسية، «باموق» ليقدم ثلاث محاضرات عن الكتابة والأدب، احتفى بها بعض المواقع العربية، وسرد وقائعها المغربى أحمد المدينى فى النهار اللبنانية.
فى الأولى: تحدث عن البدايات انطلاقًا من معلمه الأكبر تولستوى، وقال إن الكتابة من أسرار المهنة، والكتاب يحافظون عليها، وإنه يوجد وهم شائع بين القراء أن الرواية تولد فجأة وتنبثق من ذهن الكاتب، وهذا غير صحيح، فالرواية عند الروائى الموهوب ليست قصيدة قصيرة، بل هى رحلة شاقة بلا نهاية، هى أن تكتب وتعيد، مع ذلك ينبغى أن تبدأ من نقطة ما، عندئذ لا تفكر فى التفاصيل، إنها تأتى فى الطريق وأثناء الكتابة، واستدعى رواية الصخب والعنف لـ«وليم فوكنر» التى استوحاها من لطخة وحل فى بنطال طفلة، وظن أنه سيكتب قصة قصيرة، واستشهد أيضًا بروايتى «أنا كارنينا» لتولستوى، و«مدام بوفارى» لفلوبير، وتساءل: هل يمكن أن نبدأ أى رواية دون فكرة، دون تصميم؟ وأجاب: إذا لم يكن لديكم أى تصميم فلن تستطيعوا كتابة صفحات أولى. إن ما يسمى قلق الصفحة البيضاء، هو غياب التصميم، وذكر «الجبل السرى» لتوماس مان و«اسم الوردة» لأومبرتو إكو ليدلل على كلامه، وأضاف أن الكاتب لكى يعود إلى البذور الأولى، كما يقول فوكنر، أن يعرف الشخصيات واحدة، واحدة، وتتمثل أوضاعها، ونتخيل كيف تنمو كما تنبت الأوراق فى الشجرة، بترابط مع حبكة الرواية، هل هذا كل شىء؟ يجيب باموق أنه بالرغم من التمكن هذا، فالكاتب لا يعرف إلى أين سيصل ولا الشكل الذى سينتهى به عمله، هكذا تجربة «جيمس جويس» الذى صمم «عوليس» قصة قصيرة، ثم انتهت إلى رواية ملحمية. أما عن تجربته الشخصية فى كتابة الرواية، فأوجزها فى ثلاثة عناصر: أنه إضافة إلى ما سبق، يأخذ عمله باعتباره صنعة، فهو صانع. ثانيًا، أن يتوفر على أفكار واضحة للورقة الأولى، والاهتمام بعناية بالتفاصيل، لذلك فهو يدون فى دفاتر كثيرة تفاصيل رواياته ويستخدمها حسب الحاجة. ثالثًا، يبدأ العمل فى التكون، تارة يسرع وتارة يبطئ الإيقاع، يخاطب الناشئين: إذا ضبطتم الحبكة والحوادث فلا تقلقوا، ستصلون إلى تعبئة ما تأخر، فى المحاضرة الثانية، قال إنه عندما يعتمد على الفكرة أساسًا فإنه يفقد فاعلية الرواية، ولو اعتمد الصورة، الخيال فقط، فالرواية ستفتقد الواقع، الحياة والإنسان، إن ما يجعل الرواية مقروءة هو تفاصيل الواقع، وترى القارئ فيها يتساءل: ما حصته وما حصة خيال الروائى؟ الروايات والسيرة الذاتية يسقط فيهما التناسب وتغرقان فى خيال صاحبهما، بينما الرواية المعتمدة على الفكرة تعد تربوية وتلقينية، والمثالى هو حدوث التوازن بين الفكرة والخيال ووجود حركة ذهاب وإياب وتناقض بينهما أيضًا، الأهم والهدف هو تحقيق المتعة للقارئ، ومتعة الرواية هى فيما تثيره فينا من مشاعر وأحاسيس، القارئ يحب رواية تولد فى نفسه انفعالات وتقدم له عالمًا بديلًا، وغير كافٍ إطلاقًا إنجاز رواية بمقتضيات واقعية مقنعة وجمالية بارعة وإنما أن نتأكد أنها ستثير فى القارئ مشاعر معينة، وهذا يتطلب عملًا متقنًا جدًا بمقدار حرص الملحن على ضبط نوتاته ليصنع لحنًا متناغمًا.