أرض بلا شعب
تمر علينا هذه الأيام ذكرى مرور ٧٥ عامًا على «النكبة»، وبروز مشكلة فلسطين، التى أصبحت بحق قضية العرب لعدة أجيال. والحق أن الهجرات اليهودية إلى فلسطين قد بدأت قبل حرب ١٩٤٨ بعقود عديدة، ولم تكن هناك مشكلة حقيقية فى استقبال هذه الهجرات؛ إذ يؤكد التاريخ على أن اليهود عاشوا فى المنطقة العربية منذ قديم الزمان فى هدوء وسكينة. بل الأكثر من ذلك أن المؤرخين اليهود أنفسهم يعترفون بأنه بعد طرد اليهود من إسبانيا على يد ملك إسبانيا والبرتغال، كانت المنطقة العربية والعالم الإسلامى «الجنة» التى استقبلت اليهود الفارين من التعسف الإسبانى- البرتغالى.
من هنا لم تكن المشكلة إقامة اليهود فى فلسطين، ولكن المشكلة الحقيقية كانت طرد الشعب الفلسطينى من أرضه، من أجل إقامة «المستعمرات اليهودية». وصاحب ذلك الأمر الترويج لأسطورة غريبة فى أوروبا وأمريكا من خلال هذه المقولة: «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض»! والمقصود من هذه المقولة أن أرض فلسطين كانت قبل ١٩٤٨ أرضًا بلا شعب، وبالتالى يحق ليهود العالم، بما أنهم شعب بلا أرض، أن تكون أرض فلسطين هى أرض الميعاد للشعب اليهودى. والحق أنه تم الترويج لهذه الأسطورة جيدًا سواء على المستوى السياسى أو المستوى الإعلامى. وترتب على ذلك تجاهل وجود «الشعب الفلسطينى» أصلًا، ونشأت أجيال عديدة سواء فى الغرب أو حتى فى إسرائيل تؤمن بحق أن أرض فلسطين كانت دون شعب حتى جاءت الهجرات اليهودية وأقامت المستعمرات اليهودية لتعمير المنطقة، وتبع ذلك قيام دولة إسرائيل، التى أصبحت واحة النماء والديمقراطية فى منطقة الشرق الأوسط.
لكن العقود الأخيرة شهدت ميلاد حركة المؤرخين الجدد فى إسرائيل، هذه الحركة التى أخذت على عاتقها إعادة النظر فى التاريخ اليهودى فى فلسطين، والدعاوى التى قامت عليها دولة إسرائيل. وأحدثت هذه الحركة عند ظهورها جدلًا كبيرًا وحراكًا فكريًا وسياسيًا؛ إذ أثبتت هذه الحركة مصداقية مقولة: «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض»، وأوضحت بالقرائن التاريخية الوجود الفلسطينى على الأرض السابق على قيام دولة إسرائيل.
ولا ينبغى النظر إلى حركة المؤرخين الجدد فى إسرائيل على أنها حركة تسعى لسقوط دولة إسرائيل، وإنهاء الوجود الإسرائيلى فى فلسطين، كما انخدع بذلك للأسف بعض المفكرين العرب، نتيجة عدم فهم الواقع العربى فكرة المراجعة وأهدافها أصلًا، فحركة المؤرخين الجدد فى إسرائيل فى حقيقة الأمر هى حركة من داخل النظام، هى لا تهدف إلى إسقاط الدولة الإسرائيلية، بل تسعى إلى استمرارها على أساس سليم، وتنقية التاريخ الإسرائيلى من الأساطير والمقولات المغلوطة، أى النقد البنَّاء من أجل المستقبل. لكن كل جهود هذه الحركة، مثلها مثل جهود حركة «السلام الآن» الإسرائيلية، تراجعت بشدة فى العقد الأخير، لا سيما مع الصعود الكبير لليمين المتطرف الإسرائيلى الذى لا يؤمن بالوجود العربى، حتى بالنسبة للعرب فى الداخل الإسرائيلى، ما دفع المنطقة إلى حالة مواجهات أدت إلى تراجع أصوات أى مراجعة، وذبول فكرة السلام الآن.