"ابتسم.. فقد عشت عصر عادل إمام".. كيف كشفت الصحافة بداية أسطورة الزعيم منذ الستينيات؟
- إيريس نظمى تكتب عن الصدفة القدرية التى صنعت عادل إمام باستخدام محمد عوض
- عندما قال الشاب عادل إمام صاحب الـ25 عامًا: أنا لون لوحدى ولا أنتمى لأحد
- مقالب الواد عادل فى أبناء الحلمية التى صنعت شخصية بهجت الأباصيرى
لماذا عادل إمام؟
إذا كنت تقرأ تلك الكلمات الآن فأنت محظوظ لأنك عشت عصر عادل إمام الذى يصادف اليوم ذكرى ميلاده الـ٨٣.. وإذا راودك شيطانك لتظن أن فى الأمر مبالغة لقيمة الزعيم.. ما عليك إلا أن تتمتع بخيال واسع وتغلق عينيك لثوانٍ وتتخيل قوة مصر الناعمة دون وجود عادل إمام فى المعادلة.
تخيلت؟
صُدمت، أليس كذلك؟
بالتأكيد أحسست بهول الأمر.. القصة ليست فيها مبالغة صدقنى.
لأن عادل إمام ليس شخصًا أو ممثلًا مر على سيرة الفن المصرى مثل عظماء غيره لهم قيمة كبيرة فى وجداننا ووجدان كل عربى تربى على فنهم.. لكن عادل امتلك ميزة عن غيره من هؤلاء العظماء، وهى أنه تحوّل إلى مشروع قومى وليس مجرد فنان كبير وقدير يملك أدوات فنية هائلة.. مشروع قومى حقيقى لصالح هذا الوطن ضمن مشاريع كثيرة عبر التاريخ كانت لها دراسات جدوى ومخطط لأبعادها وما ستدره على مصر عند الانتهاء منها.. لكن عادل إمام تستطيع أن تقول إنه مشروع قومى ربانى أو منحة إلهية تشكلت فى عقود موزعة على قرنين.
لعلك ما زلت ترى فى الأمر مبالغة رغم كل ما قيل، وتتساءل: لماذا عادل إمام وحده عن غيره الذى نقول عنه ذلك؟
هنا سأضطر لترك أحد كبار تلك المهنة يرد بنفسه على هذا السؤال وهو رجاء النقاش، ولعلنا ندرك قيمة هذا الاسم جيدًا وما تمثله كل كلمة خرجت من مداد قلمه المنصف غير القابل للمجاملة.
«رجاء» كتب مقدمة عدد خاص عن عادل إمام صنعته مجلة «الكواكب» فى نوفمبر ١٩٩٤، التى كان يترأس تحريرها، وكأنه كان يسمع تساؤلك الآن لذلك وضعه عنوانًا للمقدمة «لماذا عادل إمام؟»، دعنا نقتطع هذا الجزء فقط من مقدمة رجاء العبقرية الكاشفة لقيمة الرجل، وهذا جزء من نص ما كتبه النقاش:
«لو لم يظهر عادل إمام فى ربع القرن الأخير لاخترع المصريون عادل إمام آخر، لأن المصريين لا يستطيعون الحياة بدون عادل إمام.. أو ما يمثله عادل إمام.
عادل إمام هو الضحكة التاريخية التى لا يستغنى عنها شعب مصر فى أى لحظة من لحظات حياته.
إنه ملح الطعام، ورغيف الخبز بالنسبة للمصريين الذين يكدحون ويعرقون كل يوم لكى تستمر الحياة مزدهرة فوق هذا الوادى الصعب، جيلًا بعد جيل، وألفًا من السنين بعد ألف من السنين.
إن عادل إمام، بموهبته الفذة وثقافته الأساسية وإدراكه العميق لرسالته بين أهله وشعبه، هو تجسيد لظاهرة تجسدت من قبله فى عبدالله النديم وحافظ إبراهيم وبيرم التونسى ونجيب الريحانى وإسماعيل يس ومدبولى وعوض والمهندس وصلاح جاهين.. وغيرهم من الفنانين والفلاسفة الضاحكين.
عادل إمام هو زهرتنا المليئة بالعطر والتى من غيرها نموت من التعب والإعياء واليأس.
عادل إمام هو القوة المتدفقة فى نهر الحياة المصرية وبدونه يتحوّل هذا النهر إلى مستنقع ملىء بالأوبئة والمياه الراكدة.
عادل إمام هو فرحتنا بالحياة فى عز الشقاء والشعور بالتعب! عادل إمام هو القلب النابض فى أجسامنا وهو الذى يدفع فينا بالدماء الحارة الدافئة، ويجعلنا نصحو كل يوم لنقول، ونحن مبتهجون: صباح الخير أيتها الحياة.. صباح الخير أيتها المتاعب والمنغصات التى سوف نتحملها ونتغلب عليها.. صباح الخير يا مصر».
هل يمكن أن يصل عادل إمام إلى تلك المكانة فى قلوب الناس البسيطة إذا لم يكن قد تشربت روحه من روحهم الحلوة؟ الإجابة بالطبع لا، لأن المقدمات دائمًا ما تؤدى إلى النتائج، ومقدمات الزعيم بهجت الأباصيرى بدأت من عطفة على باشا أو ما كان يطلق عليها حارة الماس فى الحلمية، ذلك المكان الغنى بالبشر.. والمقصود هنا ليس الغنى فى العدد ولكنه غنى إنسانى.. والصحافة الورقية فى رحلات احتفائها بالنجوم دائمًا ما ترجع للأصل.. وفى حالة عادل إمام فقد قام صحفى شاب اسمه هانى سميح- رحل مبكرًا للأسف- بجولة داخل عطفة على باشا ليخرج بتحقيق بديع فى عدد مجلة «الإذاعة والتليفزيون» فى يناير ١٩٩٤.. قابل «سميح» كل من فى العطفة تقريبًا دون انتقاء، والغريب أن الكل كانت له ذكريات شخصية مع عادل وليس مجرد معرفة ظاهرية.. كل شخص لديه ما يحكيه عن عادل، ابن الحلمية.
فهذا عم سيد الفكهانى، الرجل البسيط طاعن السن، يروى ذكرياته معه على مسماه القديم الذى كان يناديه به «الواد عادل ده كان شقى وهو صغير»، وعندما سأله «سميح»: «هل تعرف أبوه يا عم سيد؟» قال: آه طبعًا أعرفه كان «صول» فى مصلحة السجون وكانت ليه قيمته وهيبته فى العطفة كلها.
ويصف محرر «الإذاعة والتليفزيون» المشهد داخل العطفة عندما دخلها وعرفوا أنه يسأل عن عادل إمام فيقول: «التف ناس العطفة حولى وخرج حبايب عادل إمام، نسوان ورجالة وعيال، الكل يريد أن يحكى عن واحد منهم خرج من عطفتهم الشعبية بخلاصة ما تعلمه داخلها لينشره عبر فنه».
قابل المحرر أيضًا أصدقاء طفولة عادل، المهندس محيى النخال والأستاذ عبدالسلام النمر وتوأم روحه الدكتور ماهر فهمى، ليكشف الثلاثة أبعاد طفولة ومراهقة الزعيم بهجت الأباصيرى بكل ما حملته من شقاوة ومقالب، لنكتشف أن بهجت الأباصيرى هو صورة مسرحية لما كان عليه عادل، ابن الحلمية، فى الواقع.. شاب مشاكس متمرد صاحب كاريزما مبكرة تدفعه دائمًا إلى موقع الزعامة بين أقرانه، لكنه عند الجد جدع يقف مع الضعيف، لا تخرج مقالبه فى أهل عطفته عن حدود الأدب مهما بلغت جنونها.. لذلك كان فى نظر كبار العطفة «الواد عادل ده شقى بس دمه شربات».
إيريس نظمى، كما كانت اسمًا ناصعًا فى الصحافة فى الستينيات والسبعينيات، هى أيضًا كانت اسمًا مهمًا للفنانين، خاصة الشباب منهم فى ذلك الوقت.. فقد شهد باب «ناس تحت الأضواء» الشهير، والذى كان يُنشر فى مجلة «آخر ساعة»، إعلانًا عن مواهب فنية بدأت بشكل خافت ثم انطلقت بعد أن سلطت إيريس نظمى الضوء عليهم فى هذا الباب الممتع.. وفى عدد «آخر ساعة» بتاريخ ١٠ يناير سنة ١٩٦٨ كتبت تحت عنوان «مولد نجم والسبب محمد عوض».. وكان مرفقًا مع المقال صورة لعادل إمام لها تعليق طريف قصدته إيريس بالتأكيد والتعليق هو: «عادل إمام وليس عادل أدهم كما تظن الإعلانات»، وفى هذا التعليق إشارة لما كان يواجه عادل كممثل جديد فى أوائل أفلامه مثل فيلم مراتى مدير عام.. حيث كان يكتبه مصممو الأفيشات بشكل خاطئ على أنه عادل أدهم، الذى كان وجهًا سينمائيًا معروفًا حينها، عكس عادل، خريج الزراعة الذى يجرب حظه فى السينما حديثًا.
إيريس نظمى تحكى عن الصدفة التى صنعت عادل إمام وهى شخصية «دسوقى أفندى» فى مسرحية «أنا وهو وهى» لفؤاد المهندس، وهو الدور الذى تعالى عليه محمد عوض بعد أن سطع نجمه بداية الستينيات واعتذر عنه لأنه رأى فى نفسه أنه يستحق أن يناطح فؤاد المهندس لا أن يكون فى دور سنيد فى مسرحية له.. وهى الصدفة القدرية التى لا بد أن نحمد الله عليها.. لكن حينها لم تكن صدفة بل كانت توريطة صعبة لمخرج المسرحية عبدالمنعم مدبولى الذى وقع فى حيص بيص، حيث لم يتبق على عرض المسرحية غير ٣ أيام وقد حفظ كل الممثلين أدوارهم وبقى «دور دسوقى» يبحث عن صاحبه.. وكما تقول إيريس إن مدبولى عرض الدور على آخرين ورفضوه حتى حضر عادل إمام، الممثل المغمور حينها، ولم يجد مدبولى بدًا من الموافقة الفورية عليه حتى إنه عندما طلب أن يقرأ السيناريو قبل بدء البروفة، والكلام على عهدة إيريس، قال له مدبولى منفعلًا: «مثّل على طول.. مفيش وقت للقراءة».
وما إن بدأ حتى قال مدبولى بفرحة: هو ده.
وتنطلق إيريس نظمى فى مقالها البديع فى محاولة تفصيص ظاهرة عادل إمام الوليدة، حيث تقول بالنص: «الحقيقة أن عادل إمام غير كل الممثلين الكوميدى الآخرين.. فهو يدخل المسرح دون أن يكون فى قصده إضحاك الناس بأى شكل، ولكنه يمثّل الشخصية المرسومة له بدقة وصدق تجعل الجمهور يضحك من قلبه وبدون استجداء لمشاعره، وهذا عكس ما نراه فى بعض ممثلى الكوميديا عندنا الذين يعتمدون على الحركات والتلاعب بالألفاظ والقفلات والاسترسال فيها وتكرار المواقف المضحكة لاستجداء مزيد من ضحكات الجمهور.. أما عادل فيمثل نوعًا من الكوميديا الرفيعة».
وتسترسل إيريس نظمى فى الحديث عن عادل إمام، ابن الـ٢٥ عامًا حينها وخريج كلية الزراعة، لتصل إلى رأى عادل نفسه فى أبطال الكوميديا المعاصرين كما أسرى به إلى إيريس لتكتبه فى مقالها البديع، تقول:
«عادل إمام له رأى فى أبطال الكوميديا عندنا وهم الثلاثة الكبار، فيقول: فؤاد المهندس امتداد للريحانى لكنه امتداد شيك ومتطور.. وأمين الهنيدى له لون معين فى التمثيل.. وسيظل يخرج على النص ويعتمد على القفلة التى توجد له جمهوره، أما محمد عوض فأنا أحب أن أراه وأضحك عليه ولكننى أحس أننى (أنهج) معاه».
ولما سألته إيريس سؤالها الذكى: أين يضع نفسه بين هؤلاء؟ قال عادل إجابة كاشفة لما سيكون عليه هذا الشاب حيث قال: «أنا لون لوحدى، والناس هى التى تحكم علىّ فى النهاية وليس أنا».
فقط بهذه البساطة والثقة أجاب الشاب الذى لم يكمل عمره ربع القرن، فهذه هى رؤيته لنفسه، من البداية يعرف ماذا يصنع حتى وإن كان ما زال اسمه يُكتب على أفيشات الأفلام ببنط صغير جدًا- هذا إن كُتب صحيحًا من الأساس ولم يُكتب عادل أدهم- الإجابة كان يمكن أن تكون أكثر دبلوماسية وفيها قدر من الموالسة غير المضرة للنجوم مثل أن يقول مثلًا: «أنا تلميذ فؤاد المهندس ومتأثر به» كنوع من المهادنة للوسط الفنى وإيثار السلامة من مرض النفسنة العضال المصاب به ذلك الوسط.. لكن عادل رأى أن يكون صريحًا وواضحًا وقاطعًا لرؤيته لذاته «أنا لون لوحدى»، وقد كان.
مرت الستينيات وفى ذيلها السبعينيات وعادل إمام نجمه يصعد ويصعد حتى إذا أتت الثمانينيات كان عادل يتربع على قمة لم يصلها غيره.. كان ذلك العقد يعج بجيل من أهم أجيال الفن المصرى الذين حضروا مع عادل من السبعينيات مثل نور الشريف ومحمود ياسين وأحمد زكى وفاروق الفيشاوى وغيرهم.
فى تلك الفترة فرضت على عادل صورة ذهنية أخذت عنه لم ينفها على الرغم من خطئها وتلك عادة عادل إمام التى ستكتشفها فيما بعد.. لا يرد على أى اتهام وترك عمله فقط هو المتحدث الرسمى باسمه مثلما سنتحدث بعد قليل عن لعنة ظلم سعيد صالح التى طاردته.. المهم أن عادل لم ينف غروره مثلما قال فى حواره مع الصحفى الساخر الألمعى فؤاد معوض «فرفور» أنا مغرور، وهو العنوان الكبير الذى تصدر غلاف مجلة «الإذاعة والتليفزيون» فى عدد ٩ أبريل ١٩٨٣.. لكن هل قصد فعلًا عادل هذا المعنى؟.. الحقيقة لا، لكن السياق كان كالتالى.. سأله فرفور: «البعض يقول إنك قد أصابك الغرور والبعض الآخر يقول بأنك مصاب بالميول الاستعراضية ما دفاعك؟».
عادل رد قائلًا بالنص: «أنا فنان متزن وجاد وعاقل وشديد الاهتمام بعملى، وغرورى هو تصرف طبيعى، أو بتعبير أدق هو الغرور المشروع، والعقلاء ممن أتعامل معهم يقولون إن غرورى وميولى الاستعراضية ليست نتاج عقد ولا تعبير عن كبت.. باختصار أنا أحترم فنى وأقدر موهبتى وإذا كنت تسمى هذا غرورًا فأنا مغرور جدًا».
انتهت إجابة عادل إمام، وإذا تأملتها لن تفصلها عن شخصية عادل المعتزة الواثقة من نفسها منذ أن كان فى العشرينيات من عمره، وهى إجابة لن تكون بعيدة عن موقفه الذى أعلنه مع إيريس نظمى فى الستينيات عندما قال: «أنا لون لوحدى».
وحتى لا يكون الكلام مرسلًا دعونا نقلب فى مجلة «المصور» العريقة فى عدد ٢٥ ديسمبر ١٩٨١ حيث حوار آخر مع عادل إمام «نمبر وان» الجيل بالمعنى الحرفى.. لم ينس عادل ما قاله مع إيريس لأنه لم يكن «طق حنك» لشاب عشرينى متحمس، لذلك تجده يقول، ردًا على عائشة صالح- ولتلك الصحفية العظيمة قصة أخرى معه سنحكيها بعد قليل: «أنا لست امتدادًا لأحد ولا أقلد أحدًا.. أنا نتاج الشارع المصرى، أنا هذا الجيل من الشباب بمعاناته وكل المتناقضات فى حياته اليومية.. كل واحد يجد فىّ بعضًا من نفسه وربما كان هذا سر شعبيتى فى أحلام الفتى الطائر.. ولا أتجاوز الحقيقة إذا قلت لكِ إن هذا الدور جعلنى أبحث عن الأدوار التى أختارها عن الشهامة والأصالة والمجدعة وحب الناس العاديين البسطاء والاستعداد للتضحية من أجلهم حت لو عرضت حياتى للخطر».
انتهى كلام عادل الذى أنقله نصًا فيما يخص تلك النقطة وسأتوقف عند آخر جملة عن تعريض حياته للخطر من أجل الناس البسطاء.. قد تظن أن فى الجملة مبالغة من عادل، لكن عادل يرد عليك بنفسه هذه المرة وفى نفس المجلة وأمام نفس الصحفية عائشة صالح، ولكن بعد هذا الحوار بسبع سنوات تقريبًا حيث عام ١٩٨٨ والإرهاب على أشده ويده أطبقت على شرايين بعض الأقاليم فى مصر وعلى رأسها أسيوط.
الذى حدث أن عائشة صالح المحاورة العظيمة التى يعج الأرشيف الصحفى بدروس مجانية فى فن الحوار الصحفى باسمها.. كانت تجرى حوارًا مع عادل إمام حتى فاجأها أثناء الحوار برغبته فى عرض مسرحيته «الواد سيد الشغال» فى أسيوط، التى كانت حينها تعوم على بحيرة من النار بعد أن اغتال الإرهابيون اثنين من شباب المسرح الهواة بعد أن أعلنوا عن تقديم عرض مسرحى يحض الناس على التمسك بالأرض وعدم الهجرة فى قرية تدعى «كودية الإسلام» تابعة لمركز ديروط.. فواجه شباب المسرح جنازير الإرهابيين ومطاويهم حتى قُتل اثنان وأصيب آخرون، وكانت النتيجة عدم عرض المسرحية.
وقتها شعر عادل إمام بالضيق الشديد ولم يجد أفضل من مجلة «المصور» وعائشة صالح ليلقى فيها قنبلته برغبته فى عرض مسرحيته على مسرح جامعة أسيوط.
عندما ذهبت عائشة صالح بالحوار لمكرم محمد أحمد، رئيس تحرير «المصور»، تلقف مكرم التصريح وكلم عادل إمام يسأله: «هل تريد يا عادل أن تذهب إلى أسيوط حقًا؟»، فاجأه عادل بأنه جاد جدًا وقال له: «أنا وفرقتى جاهزون تمامًا».
وحكى عادل بنفسه عن إحساسه حينها حيث قال: «قررت أننى يجب أن أذهب إلى أسيوط قبل أى شىء آخر، للوقوف إلى جوار هؤلاء الفنانين وللدفاع أيضًا عن نفسى وأسرتى ووطنى، ذهبت لأدافع عن الفن الذى أحبه وعن صورتى أمام أولادى، ولكى يعرفوا جيدًا أن مهنتى ليست حرامًا، وأن الطعام الذى يأكلونه والتعليم الذى يتعلمونه وحياتهم كلها ليست حرامًا فى حرام، ولكى يدركوا أننى أكسب أموالى من عرق جبينى، ومن خلال أشرف مهنة، وهى الفن، قررت الذهاب لإحساسى بوطنى».
ويكمل عادل بنفسه حكايته:
«كان محافظ أسيوط وقتها هو عبدالحليم موسى، وكذلك اتصل بى وزير الداخلية آنذاك وسألنى: (يا عادل أنت عندك استعداد فعلًا تروح أسيوط؟).. قلت: (طبعًا)، وكانت العناصر المتطرفة تحتل شوارع وأحياء وفكر المحافظة وقتها، وأبلغت فرقتى بأننى سأتوجه إلى أسيوط، وأعطيت لكل واحد منهم الحرية الكاملة للاعتذار، لكن جميع أفراد الفرقة أعلنوا أنهم سيسافرون معى، وأخذت فرقتى وسافرنا».
ويضيف عادل: «فى أسيوط طلبت أن يحضر الحفلات الجميع، حتى المتطرفون، وتحوّلت أيام إقامة الحفلات فى المدينة إلى أعياد، وسعدت بالتجربة إلى أقصى مدى، وبأننى أسهمت مع فرقتى فى إعادة بناء المسرح، ورد الاعتبار لفرقة (كودية الإسلام)، وهناك شعرت بأن الناس فى أسيوط يقولون لى: (كنت فين.. ليه ما جتش عندنا من زمان؟)، وبدأت محلات العصير تستقبل زبائنها، وأُعيد فتح محلات بيع الكاسيت، وعادت حركة البيع فى الشارع، كأن هناك عرسًا فى أسيوط، وكنت سعيدًا بهذه المظاهرة الفنية.. لقد ذهبت إلى أسيوط بمبادرة شخصية وكمواطن مصرى».
وبالرغم من الصدى الذى فعله عادل إمام بقراره التاريخى باقتحام وكر الإرهاب بفنه إلا أنك ستندهش عندما تعرف أن عادل لم يرد لخطوته تلك أن تكون دعاية له، ولم يحاول أن يستعرض عضلاته ولا زعامته بها.. بل كان حريصًا على ألا يأخذ الموضوع فى طريق لا يريده وإلا يفقد معناه، والدليل على ذلك يحكيه واحد من أكثر الصحفيين قربًا لعادل إمام وهو محمود سعد.
سعد كتب مقالًا بديعًا فى نفس عدد «الكواكب» الخاص الذى استعرنا منه كلمات مقدمة رجاء النقاش، فى المقدمة حكى محمود سعد عن زاوية أخرى لقصة أسيوط حيث قال: «يوم أخذ عادل إمام قراره التاريخى بالسفر إلى أسيوط، وأعلن ذلك فى حواره الممتع مع الزميلة عائشة صالح فى مجلة (المصور) اتصلت به للتأكد من إعلانه هذا.. فقال لى: نعم سوف أسافر.. وأبديت له رغبتى فى السفر معه، فقال لى: إنه لم يفكر فى الموضوع من الناحية الإعلامية على الإطلاق».
واشترط الزعيم حينها، كما يقول محمود سعد، أن يكون ذهابه معه فى إطار الصداقة فقط ليحضر العرض وليس كصحفى يغطيه.. لكن على ما يبدو أن روح الصحفى سيطرت فى النهاية على محمود سعد فذهب إلى لويس جريس، رئيس تحرير مجلة «صباح الخير» حينها، لإبلاغه بأنه مسافر مع عادل إمام إلى أسيوط.. فما كان من لويس، ابن أسيوط، إلا أن اتخذ قرارًا بعمل عدد كامل عن هذه الرحلة التاريخية وأرسل ١٤ صحفيًا وصحفية للتغطية.
انتهى كلام محمود سعد عن موقف عادل التاريخى غير المسبوق لرجل يعرف المعنى الحقيقى للفنان صاحب الدور والموقف.
بهجت الأباصيرى ومرسى الزناتى علاقة فنية وإنسانية ارتبطت فى أذهان الناس بشكل غير مسبوق، وهما الشخصيتان بطلا مسرحية مدرسة المشاغبين، المسرحية التى شكّلت نقطة الانطلاق القصوى لكل أبطالها بلا استثناء، خاصة عادل إمام وسعيد صالح.. وتنبهت فرقة «الفنانين المتحدين» لسطوع النجمين بهجت الأباصيرى ومرسى الزناتى، لذلك فقد أنتجت مسرحيتين، الأولى لعادل إمام وهى مسرحية «شاهد ماشفش حاجة» والثانية لسعيد صالح ومعه باقى المشاغبين فى مسرحية «العيال كبرت».. والحقيقة أنه منذ بدأت تظهر بوادر نبرة لازمت علاقة الاثنين من بعد هذا الانفصال الذى كان فى صالح الفرقة، تلك النبرة تتحدث عن أن موهبة سعيد صالح أكبر وأضخم بكثير من موهبة عادل، لكن عادل أذكى واستطاع أن يستغل كل المعطيات حوله لكى يصنع من نفسه نجمًا أوحد بعكس سعيد الذى ترك نفسه وموهبته لتتآكل بالاختيارات الفنية الخاطئة.. والمشكلة ليست فى كل ما سبق لأنه صحيح، لكن المشكلة الحقيقية هى ربط خفوت نجم سعيد صالح نسبيًا بعادل نفسه.. والإيحاء بأنه حارب رفيق العمر بعد انفصال المشاغبين لأنه يعرف أن انطلاقته ستكون على حساب عادل نفسه لأنه يعرف أن سعيد أكثر موهبة منه.
أخذ هذا التصور يأخذ مكانه فى العقول، حتى بدأ يتعامل معه البعض على أنه حقيقة.. أما عادل إمام فلم يحاول مرة أن يرد على تلك البالونة بالرغم من رؤيته لها تكبر وتكبر مع كل نجاح لعادل يقابله إخفاق لسعيد.. لكن هل هناك دخان دون نار؟
الحقيقة تقول لا، لأنه على ما يبدو أن البداية قد تكون أتت من سعيد نفسه، مثلما وثّقت مجلة «الشبكة» اللبنانية فى عددها الصادر بتاريخ ٩ مارس ١٩٨١ بموضوع بعنوان «سعيد صالح يفتح النار على عادل إمام»، تحدث فيها سعيد بطبيعته وانتقد عادل صديقه نقدًا شديدًا، متهمًا إياه بأنه يضيع موهبته التى منحها الله له وهى إضحاك الناس مقابل أفلام أكشن ودراما لا تتناسب معه، قائلًا: «عادل بيحاول يثبت إنه مثل محمود ياسين أو نور الشريف أو حسين فهمى، وهذا يضيعه».
ثم مع ضغط صحفى الشبكة- غير مذكور اسمه- يتطرق سعيد إلى دور عادل فى وضع العراقيل فى طريقه، دون أن يذكر اسمه صراحةً، حيث ضرب مثلًا بمسرحيته التى كانت تُعرض حينها وهى «لعبة اسمها الفلوس»، وهى مسرحية أنتجتها له أيضًا فرقة «الفنانين المتحدين»، حيث ألمح إلى أن عادل وراء فرض ممثلة بعينها على المسرحية وهى يسرا، وعلى حد تعبير سعيد عنها: «قد عانينا منها كثيرًا حتى تم الاتفاق مع مديحة كامل».
والمفارقة أن سعيد فى هذه المسرحية وبعد إجرائه حوار «الشبكة» بشهور قليلة جدًا تم سجنه بعد خروج عن النص داخل العرض.. صحيح أنه سجن قصير لمدة سبعة أيام.. لكنه صب فى صالح بالونة الذنب التى تطارد عادل حتى الآن.
والغريب أن سعيد لم يتوقف عن مهاجمة عادل حتى بعد رجوعهما للعمل معًا فى فيلم «سلام يا صاحبى» مثلًا.. فقال سعيد مثلًا بحوار لجريدة «الجمهورية» عام ١٩٩٠ عن نفسه إنه نجم المسرح المصرى فى الوقت الذى تأثرت فيه موهبة عادل إمام بأفلام الحركة الأمريكية التى استهلكت موهبته على عكس الأدوار الكوميدية التى أداها ببراعة.
وعلى الرغم من كل ذلك لم يرد عادل إمام مرة واحدة على تهمة ذنب سعيد صالح المعلق فى رقبته، على الرغم من رؤية الذنب يكبر أمامه بفعل اجتهادات البعض وتصريحات سعيد صالح المتباعدة، والتى يدرك عادل جيدًا أن أغلبها لم تكن مقصودة وإنما جاءت بدافع استدراج صحفى لم ينتبه له سعيد صالح بقلبه الطيب.. وبقيت علاقة الود والحب والصداقة موصولة بين الصديقين حتى انتهت بآخر مشهد يجمع بينهما على شاشة السينما فى فيلم «زهايمر»، والذى أصبح مشهدًا أيقونيًا بفعل الصدق الذى ظهر فى عين الزعيم تجاه صديقه الذى أدى دورًا فى الفيلم يتشابه مع حالته الصحية التى انتهى إليها إلى حد كبير.. وكأن دموع عادل فى الفيلم لم تكن تمثيلًا وإنما كانت على أيام مرسى الزناتى وبهجت الأباصيرى الحلوة التى لم تعكر صفوها أى ادعاءات، ورحل سعيد صالح الطيب بعد هذا المشهد الموجّه بأقل من ٤ سنوات.. ولم يخمد حتى رحيله ذلك الادعاء الكاذب والذنب الوهمى وخرج مَن يدّعى أن عادل إمام لم يسأل على صديق عمره وهو فى فراش المرض حتى عندما خرجت هند سعيد صالح بنفسها لتقول إن أكثر الأشخاص وقوفًا بجانبها وأبيها فى الفترات الصعبة كان شخصًا واحدًا فقط هو عادل إمام.. لكن مثل هذا التصريح ليس من النوع المحبوب الذى تفرد له الحكايات، لذلك توارى خلف مئات القصص المفبركة عن عادل الصديق الندل الأقل موهبة من صديقه لذلك حاربه حتى مات بحسرته.. وكالعادة عادل إمام لا يرد لأنه أكبر من ذلك «بكثييير جدًا».
وفى النهاية يبقى أن نقول إن مَن عاش فى عصر عادل إمام فهو بالتأكيد محظوظ، لأنه عاصر ذلك الرجل الذى أثرى حياتنا وتغلغل داخل تفاصيلها دون حتى أن ندرك وجوده لكنه موجود داخل كل منا.. شكرًا عادل إمام على كل شىء وأدامك الله نعمة.