توشكى.. شرق العوينات.. وأشياءٌ أخرى!
(1)
دون مبالغة أعتبر نفسى من أكثر المصريين سعادة بمشهد حضور الرئيس السيسى اليوم بدء موسم حصاد القمح بشرق العوينات. فلم يكن المشهد لى مجرد إنجاز يُضاف إلى قائمة طويلة بدأتها مصرُ منذ عام 2014م، لكنه لحظة تحقق ما كنت أراهن عليه منذ سنوات، وخضتُ -من أجل إيمانى بحتمية تحققه- نقاشات طويلة عبر السنوات الماضية! عام 2010 صدرت الطبعة الأولى من كتابى عن منطقة بحيرة ناصر تاريخًا وآثارًا ومشاريع تنموية، وأفردتُ بعض الفقرات لمشروع توشكى الذى كان يوُاجه آنذاك بهجوم كبير وصل لقناعة كثير من المصريين أنه المشروع الخطأ من ناحية الاختيارات والطبيعة الأرضية! لم يعترف كثيرون أن المشروع هو جزء طبيعى متمم لمشروع السد العالى، وأنَ اختيار مكان مفيض توشكى لم يأتِ ارتجالًا، كما لم يكن فقط من أجل تصريف المياه الزائدة من بحيرة ناصر، وإنما كان مقدمة لمشروعات تنموية طويلة الأمد يتم بمقتضاها الإفادة من منخفض توشكى!
هذا ما كنتُ أقوله لمئاتٍ من زائرى مصر من غير المصريين قبل أحداث يناير 2010م، لأننى كنتُ على يقين أنه فى يومٍ ما سيُكتمل المشروع، لأن ما يحول دون اكتماله آنذاك كان مجرد أسباب تخص منظومة الحكم، وأن المصرى الشريف د.كمال الجنزورى كان يؤمن بقيمة هذا المشروع!
كان أكثر المعترضين على حديثى من المصريين وكان البعض يسخر من المشروع، ويعتقد أنه خطأ وتوريط لمصر وأن الحكومة لا تستطيع إعلان ذلك للمصريين! ربما كان لدى هؤلاء بعض العذر لما كانوا يرونه على أرض الواقع فى تلك السنوات، فحتى وقوع أحداث الاضطرابات السياسية فى مصر لم يكن مجمل ما تم استغلاله وزراعته بالفعل يتخطى عشرة آلاف فدان!
(2)
تولى الرئيس السيسى مسئولية حكم مصر، وأعاد فتح ملف مشروع توشكى مرة أخرى وشكل خلية عمل علمية وإدارية متخصصة للوقوف على تفاصيل المشروع اللوجستية ومدى جدواه حسب رأى المتخصصين. ورأى- فى خلاصة ما تم تقديمه له من معلومات وبيانات– أن هذا المشروع يمكن أن يمثل انطلاقًا لخطط تنموية حقيقية تساعد فى سد الفجوات من إنتاج مصر الزراعى، وبعد دراسة المشروع دراسة كافية أعلن الرئيس أن مشروع توشكى لم يكن خطأ فى مكانه أو فكرته، وإنما لم تكن هناك قدرة على تنفيذه! وهذه الرؤية هى ما كنتُ أرددها ووثقتها فى كتابى فى طبعتيه الأولى الصادرة 2010م والثانية الصادرة 2019م!
اتُخذ القرار وتم تدشين المشروع الجديد عام 2020 فقط، أى منذ ثلاثة سنوات.
فى هذه السنوات القليلة، كنتُ أحد شهود العيان على ما يتم إنجازه على الأرض خلال رحلاتى المتكررة بين أسوان وأبى سمبل. كان ما يتم فى الصحراء ومستوى التقدم فى الإنجاز مذهل لمن يرى الموقع على فترات قصيرة أسابيع أو شهور، وتمهيد مساحات شاسعة من الأرض وتسويتها والبدء فى شق أفرع من قناة الشيخ زايد ومحطات رفع مزودة بطلمبات رفع ضخمة ومحطات كهرباء وبنية أساسية، حتى شاهدنا اللحظة الفارقة، حين رأينا عشرات الكيلومترات على جانبى الطريق وقد اكتست باللون الأخضر!
(3)
لم يقتصر الأمر على المنطقة القريبة من بحيرة ناصر والملاصقة للطريق السريع، إنما تمدد المشروع والتحم بمشروع شرق العوينات بعد إعداد الطريق وتأهيله، واستكمال شبكة الطرق الفرعية، ثم رأينا ذلك السور الحجرى الممتد لأكثر من عشرين كيلومترًا، والموازى للطريق الرئيس وهو يتم بناؤه يوما بيوم لتقام خلفه واحدة من أضخم مزراع النخيل فى مصر، وربما فى العالم، أكثر من مليون نخلة قفزت بإنتاج مصر لتضعها فى مقدمة الدول المنتجة للتمور!
منذ أشهر قليلة شهدت مصر حصاد القمح الأول من منطقة توشكى، واليوم تشهد مصر حصاد القمح بشرق العوينات مع افتتاح عدد من المشروعات الموازية مثل مصنع إنتاج البطاطس.
إن الأرقام التى تم إنجازها على الأرض فى أقل من ثلاث سنوات مثل أطوال الترع التى تم شقها وتبطينها– 375كم- أو الطرق– 2933كم- أو التخلص من العائق الحجرى الممتد لأكثر من تسعة كيلومترات، والذى كان يعوق استكمال شق إحدى قناتى الرى الرئيسيتين للمشروع، كل تلك الأرقام تخبر بشكلٍ عادل عما يجرى على أرض مصر، وتتم محاولة تسفيهه أو حجبه أو توقيفه!
(4)
اليوم أرى ما كنت أراهن عليه وقد غدا حقيقة واقعة على أرض مصر، كما أرى به بندًا عادلًا من بنود الرد الواقعية على أكثر أكذوبة تم ترديدها فى السنوات الماضية؛ لدرجة أنى سمعتُها من بعض الأجانب العاملين بمصر من كثرة سماعهم لها من بعض المصريين!
تقول الأكذوبة– التى صدقها البعض من كثرة إلحاح أصحاب الهوى على ترديدها– أن نظام الحكم الحالى لم يدرك الصواب فى اختيار المشروعات، وأطلقوا على ذلك لقبًا براقًا هو عدم إدراك (فقه الأولويات) فى انتقاء المشاريع التى يتم الإنفاق عليها! وأن هذا الخطأ هو ما قاد إلى أزمة الاقتصاد المصرى!
سمعت ذلك كثيرًا، وأكثر ما فاجأنى أن أسمعه منذ عدة أسابيع من أحد الأجانب العاملين لمدة عامين فى مصر! قالها نصًا فى إطار سؤاله عن أوضاع مصر الحالية!
(5)
بصفتى أحد متابعى ما يحدث فى مصر منذ سنوات طويلة فقد رصدتُ ما وضعته إدارة الرئيس السيسى من أولويات تمت ترجمتها على الأرض عبر السنوات السابقة..
ويمكننى أن أقول– من المتابعة الزمنية لما حدث– أن إدراة السيسى قررتْ قائمة أولوياتها كالتالى:------
خوض المعركة العسكرية الحتمية دون توقيف للحياة فى مختلف مجالاتها الأخرى لدرجة شعر معها بعض المصريين أن مصر لا تخوض حربًا!
أول زيارات خارجية للرئاسة كانت للدول التى تمول– عن طريق حكوماتها أو شركاتها خاصة– سد إثيوبيا!
أول ما تم إنفاق أموال الدولة فيه، حملات الصحة الطارئة المليونية، وبناء أضخم عدد من وحدات سكنية تخطت المليون وحدة دون تحقيق عائد تجارى منها لإيواء من لا مأوى لهم– هوملس بالأمريكانى!– وقاطنى المناطق العشوائية!
خوض معركة الطاقة وتنفيذ مشاريع الطاقة الشمسية، وإعادة صياغة خريطة مصر من الكهرباء، والتى لن يكون ممكنًا بدونها خوض أية مشاريع تنموية!
خلق مشروعات تنموية فى الصحراء بإعادة إحياء مشاريع مثل مشروع العاصمة الجديدة بضخ بعض الأموال لمنح قيمة استثمارية للأرض والبنية الأساسية التى بنتها الدولة، وهذه العاصمة تحديدًا كانت هدفًا لحرب إعلامية صريحة، واتهامات بأنها سبب ما يحدث للجنيه المصرى، وكانت ربما أكثر الكلمات تكرارًا بعد مصطلح فقه الأولويات!
مشاريع استصلاح زراعية لتحقيق حلم الوادى الموازى، وقبل مشروع توشكى وشرق العوينات، لا ننسى مشاريع الظهير الصحراوى واستصلاحه فى عدد من محافظات مصر الوسطى والصعيد (المنيا- سوهاج- أسيوط ومعجزة زراعة وادى الشيح)، ومشاريع الفرافرة، وعين دلّة، ومشروع مستقبل مصر!
وفى سياق البند الأخير تحديدًا تحضرنى موجات السخرية الموجهة من اهتمام إدارة السيسى بفكرة (الأضخم) لمبنى معين مثلًا، أو (الأطول) للبرج الأيقونى، وعلى الرغم من أن فكرة (اللاند مارك) معروفة عالميًا ومدى جدواها الاقتصادى وما تضيفه للقيمة الاقتصادية لمساحات كبيرة محيطة، لكننا مثلًا لم نقرأ يومًا فى صفحات هؤلاء أو قنواتهم الموجهة أن مصر قد حصدت جائزتين عالميتين لوجود (أضخم) مزارع نخيل، و(أضخم) مزارع مائية، وكلاهما مشاريع إنتاجية خالصة!
(6)
هذه هى قائمة الأولويات التى وضعتها الإدارة المصرية، والتى يمكن التحقق منها بمراجعة تواريخ كل بند وما تم فيه! واليوم يتم تحقيق وتنفيذ إحداها.. من عشرة ألاف فدان عام 2011م إلى 300 ألف فدان تم استصلاحها وزراعتها بالفعل! لتكون جزءًا من إجمالى مساحة الأرض المستهدفة بالاستصلاح والزراعة– 3 ملايين فدان– تم الوصول إلى ما يقرب من ثلثيها عبر خريطة مصر، وهو ما يعنى إضافة حوالى 25 % من مساحة الأرض المزروعة فى كل مصر!
(7)
مشهد اليوم يُضاف إلى حقيقة مهمة، فهذا العام، ولأول مرة منذ سنوات مصر ليست الأولى فى استيراد القمح!
بسبب الحرب الأوكرانية! هذه هى الجملة التى سمعتها ردًا من محدثى غير المصرى حين أخبرته بهذه الحقيقة ردًا على سؤاله عن تأثر مصر بالحرب فى أوكرانيا!
عفوا هذا ليس صحيحًا.. والصحيح هو ما تمت إضافته من مساحات مزروعة قمحًا مؤخرًا وما تم إضافته للإنتاج المصرى! وهذا لم يكن ممكنًا دون أن يحرر صاحب القرار مصرَ من الالتزام بالخط الأحمر الذى فُرض على مصر سابقا من عدم زراعة مساحات غير مساحات معينة من القمح رضوخًا لسياسة غير عادلة؛ لضمان استمرار دخول شركات عالمية كبرى وضمان استقرار حياة مزارعى القمح فى بلدين أو ثلاثة!
اليوم هو انتصار سياسى للدولة المصرية؛ لأن كل طن قمح يضاف للإنتاج المصرى فى الحقيقة هو إضافة لاستقلال السياسى المصرى ولبنة فى قوة مصر! هذه هى القضية! التوسع فى زراعة القمح قضية من القضايا المصيرية المصرية، ويمكنها أن تحقق لمصر كثيرًا من الأهداف الأخرى بخلاف المساهمة فى تحرر الدولة من أية ضغوط سياسية، فكل طن قمح يُزرع فى مصر يعنى توفير دولارات تدخل فى ميزانية الدولة مباشرة، ولا تصب فى جيوب بعض الأباطرة!
(8)
وجه الرئيس اليوم نداءً لرجال الأعمال أن الدولة المصرية قد أنجزت بالفعل الجانب الأصعب، وهو البنية الأساسية اللازمة لقيام نشاط استثمارى إنتاجى، وأن من يرغب فى العمل فليتفضل!
وأضيف لما قاله الرئيس فى سياق هذا النداء، أن هذا هو الاختلاف بين مصر الآن التى لا يرضى عنها البعض القليل من كبار رجال الأعمال، وبين مصر منذ خمسة عشر عامًا مثلًا، والتى كان نفس هؤلاء رجال الأعمال يرتعون فيها فرحًا وتغنيًا بها! الفارق أن مصر الآن تريد استثمارًا حقيقيًا منتجًا خاصة فيما يخص منح أراضٍ من أرض الدولة! مصر الآن تقوم بتهيئة الأرض لتقديمها للاستثمار المنتج الحقيقى، بينما كانت مصر التى كانوا يتغنون بعشقها منذ خمسة عشر عامًا تمنح آلاف الأفدنة وأحيانا الكيلومترات منحة مجانية، منتظرة أن يقوم هؤلاء بالبنية الأساسية وإعمار مناطق بكر، وذلك بديلًا عن ثمن الأرض أو ثمن الانتفاع بها! لكن ما كان يحدث أنه لا مصر حصلت على ثمن ولا هم قاموا بإعمار، وبعضهم حتى لم يقم بزيارة بعض ممتلكاته من المنح المجانية من أرض مصر، فظلت الصحراءُ صحراء وظلوا هم منتظرون بيعها بنفس طريقة السماسرة وأغنياء الحروب!
عليهم أن يعلموا أن هذا لن يعود مجددًا، وأن مصر الآن تحتاج إلى رجال أعمال حقيقيين، ليسوا أصحاب ثروات طائلة فقط. والفارق كبير!
فرجل الأعمال الذى تحتاجه مصر الآن هو رجل أعمال منتج، يربح لكنه يقدم إضافة للناتج المحلى. فالربح حقٌ أصيل لكل مستثمر، بل ولكل من يعمل، لكن الربح دون أن يقترن بأية إضافات حقيقية للناتج المحلى فمصر ليست المكان المناسب لذلك!
إننى أعتقد أن ما تمر به مصر فى سياق الإنتاج والتصنيع هو فرصة للأجيال الشابة أن تكوّن فيما بينها كيانات اقتصادية جديدة وصغيرة، وتسطر لنفسها ولبلادها تاريخًا اقتصاديًا جديدًا!
كما يحدث من فترة تاريخية لأخرى أن تتغير طبقة الساسة أو المفكرين، تتغير أيضا طبقة رجال الأعمال والاقتصاد! إن فلانا وفلانًا وكبار عائلة فلان وورثة عائلة فلان ليسوا قضاء حتميًا على مصر تجرعه! فلكل عصرٍ رجاله، ولكل دولة رجالها!
ومصر دولة كبرى، وحسب تركيبة سكانها فهى أيضًا دولة شابة!
ومن بين هذه الملايين من الشباب لدينا الآن أعداد لا بأس بها ممن تلقوا قسطًا جيدًا من التعليم بمختلف أفرعه، وتم إعدادهم للقيادة، فهؤلاء لديهم فرصة ويمكنهم أن يصبحوا يومًا ما من كبار رجال الأعمال والاقتصاد فى مصر! وعلى الدولة المصرية أن تمد يدها إلى هؤلاء الذين سيكونون قطعًا مدفوعين بطاقة إثبات الذات وبناء مستقبل أفضل لهم، وأيضًا تحقيق ما تم إعدادهم نظريًا للقيام به.
ببعض التسهيلات لهؤلاء يمكن للجمهورية الجديدة أن تخلق لنفسها جيلًا جديدًا من رجال الأعمال الحقيقيين الوطنيين الذين يؤمنون بأن رأس المال له وطنٌ!