مشهد مرتبك
يعيش العالم فى مجموعه مشهدًا مرتبكًا إلى أبعد الحدود، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة طوال الوقت، إذا انكشف أحدهما، حلوًا أو مرًا، وأردت تفسيرًا، ابحث فورًا عن الآخر، بينما كلاهما ينعكس مباشرة دائمًا سلبًا أو إيجابًا على أى وكل مجتمع، ونادرًا فى واقع الأمر وعلى مر التاريخ ما كان انعكاسه الاجتماعى إيجابيًا، معظم الشعوب على اختلاف مستوياتها وطوال تاريخها اضطربت أكثر مما استقرت، وعانت فوق ما استراحت، ولم تزدهر بقدر ما اضمحلت.
ملامح المشهد المرتبك حاليًا تتلخص دوليًا فى الحرب الروسية الأوكرانية، وهى فى تقديرى الحرب العالمية الثالثة بالفعل وليست فقط مجرد أجوائها، فإن كان فى الظاهر يتصارع عسكريًا دولتان، فلا شك أن اللاعبين فى كواليس المعسكرين كُثُر، آليات الحروب العسكرية اختلفت فى صفتها العالمية على الأقل، كما أراها حربًا عالمية ثالثة باعتبارها تجدد بالفعل فى قواعد اللعبة، ولعلها مع نهايتها تأخذ موازين القوى العظمى فى اتجاه الصين، اللاعب الرئيسى الآن فى المشهد فى مواجهة أمريكا وأوروبا.
إقليميًا، وبخلاف تجدد صراع الأرض المحتلة فى فلسطين من آن لآخر، جاء انفلات الأمور فى السودان صادمًا فى ظل أجواء مضطربة على الصعيد الدولى، خاصة أنه فى واحدة من أسوأ نتائجه يمكن أن يؤدى لانفصال غرب السودان تحديدًا «دارفور» مثلما انفصل شماله عن جنوبه فى دولتين من قبل، والملف برمته، بكل أسف مع تطورات أحداثه، أصبح ورقة ضغط فى أيدى أصحاب المصالح فى المنطقة، ولا توجد مؤشرات مطمئنة لتسوية الأوضاع قريبًا لما فيه وحدة السودان.
محليًا، تواجه مصر تحديات صعبة وهى تعمل جاهدة على إعادة بناء الدولة، زاد من هذه التحديات فى العام الأخير تباعًا انعكاسات المشهد الدولى المتباينة، حتى أن أزمتنا فى عدة شهور تطورت سريعًا من مالية خاصة بانخفاض سعر الجنيه فى مواجهة الدولار، إلى اقتصادية مرتبطة بمناورات رءوس الأموال العربية وما تفرضه الشراكات التنموية مع الأمم المتحدة والبنك الدولى من إعادة هيكلة الاقتصاد المصرى لصالح القطاع الخاص، وأخيرًا سياسية تحت ضغط صراعات الخرطوم الداخلية والخارجية المرتبطة بها.
فإذا أردت تحديد الانعكاس المباشر لهذا كله على المواطن المصرى، فإن غلاء الأسعار هو أزمته الكبرى بلا أدنى شك، تحدث معه عن المشهد المرتبك وكواليسه دوليًا وإقليميًا ومحليًا، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، فلن تجده إلا شارد الذهن مهتمًا فقط بقوت يومه، هو الآن يحمد الله حمدًا كثيرًا لمجرد أن يومه قد مر، ولعل التوقيت الصيفى أساءه لمجرد أن اليوم بمتطلبات التواجد على قيد الحياة قد طال، خاصة أنه لا يدرك بعد ترشيد الكهرباء كغرض أساسى منه.
بعد انتهاء معركة الإرهاب وبسط الدولة سطوتها بقوة على الأرض، خطورة الأمر بشأن أزمة المواطن المصرى وغلاء الأسعار، أنها أصبحت طوال الوقت أقوى الكروت بأيدى المتربصين بـ«مصر» داخليًا وخارجيًا، الساعية فى كل وقت إلى إثارة الأوضاع أملًا فى تجديد فوضى كلنا أيقن، عن تجربة مريرة، أنها لم تكن خلاقة بأى حال من الأحوال، بل مدمرة إلى حد الذهاب بدول كانت يومًا فاعلة أدراج الرياح، وهو ما يفرض على المواطن ضرورة الوعى مهما كان المشهد مرتبكًا.
كما أن الخروج من المأزق يفرض على الجميع مراجعة مواقفه، خاصة ونحن بصدد إجراء انتخابات رئاسية العام المقبل، وهى فرصة يجتهد المتربصون حتى لا تمر مرور الكرام، ولعل ارتباك المشهد بكامله فى الآونة الأخيرة أخذ الحوار الوطنى فى اتجاه الجدية، أيًا كانت دوافع تدشينه العام الماضى، الدولة حاليًا فى حاجة لأن تنصت أكثر من أى وقت مضى، والأوضاع تدفع نحو العودة بخبراء الاقتصاد لصدارة مشهد الحكومة، أما المواطن فكان الله فى عونه فى كل الأحوال.