نهر الموجى العظيم
محمد الموجى سليل العذوبة المصرية الريفية التى انتقلت على يديه إلى المدينة، محمد عبدالوهاب، ومحمد القصبجى، والشيخ زكريا أحمد، وداود حسنى، وسيد درويش، على سبيل المثال من الذين شيدوا نهضتنا الموسيقية الحديثة بعد الحامولى ومحمد عثمان والمسلوب وعبداللطيف البنا، كلهم أبناء مدينة. الموجى هو أول من قطف قلب الريف الأخضر فى موسيقاه، وتزامنت بداياته مع ثورة يوليو ١٩٥٢، التى صنعت مناخًا يسمح لشخص من كفرالشيخ، ودرس الزراعة فى شبين الكوم، وعمل فى محافظة البحيرة أن يقود الوجدان المصرى بصحبة كمال الطويل وسيد مكاوى وبليغ حمدى وإبراهيم رجب وغيرهم، لكل واحد منهم طريقة فى القنص، لكل واحد منهم مذاق يختلف عن الآخرين، خبرات الموجى فى ريف الدلتا ظهرت فى ألحانه، تشعر معه أنك مع أحد أقاربك، يبحث معك عن مناطق الشجن التى تم تجاهلها رسميًا سنوات طويلة، أنت أمام رجل طيب ينشد الألفة بألحانه، تصاحب ألحانه نسائم لا تعرف من أين تأتى، من الصعب أن تقول إنه تأثر بأحد، رغم اعترافه بأنه تلميذ محمد عبدالوهاب، ورغم أن القصبجى حين تعرف عليه مع أم كلثوم قال إنه القصبجى الجديد، الجيل السابق عليه مباشرة كان مزدحمًا بالمواهب الكبيرة أيضًا، محمد فوزى ابن الدلتا وابن المدينة الإقليمية الكبيرة الغنية بالمقرئين، محمود الشريف، أحمد صدقى، منير مراد، فريد الأطرش، عزت الجاهلى، أساتذة كبار أصبحوا زملاء جيل يوليو فيما بعد، الموجى لم يشبه أحدًا، ولم ينجح أحد فى تقليده، لأن فطرته النقية حمته وجعلت صوته صادقًا، ولِمَ لا؟، فهو الذى اقترب فى طفولته وصباه من المداحين والصييتة والمنشدين ومقرئى القرآن، ولمس بقلبه الطيب العذابات الصغيرة والأشواق الكبيرة التى رسمت حدود الدلتا، الأستاذ عبدالوهاب قال عنه إنه «يتمتع برأس ملىء بالموسيقى بحيث لا أكاد أعرف من أين تأتيه هذه الجمل الرائعة التكوين؟»، وقالت عنه أم كلثوم إنه «نهر لا يجف ولا يتوقف، ملىء بالموسيقى الجديدة الشرقية المتطورة»، محمد الموجى الذى لم ينجح فى اختبارات الإذاعة كمطرب، وتم اعتماده كملحن فيما بعد، اكتشف أن صوت عبدالحليم هو صوته، صوت ليس فى قوة صوت محمد قنديل وكارم محمود وعبدالغنى السيد، ولكنه يكفى ليكون صوت أقرب أصدقائك الذين يحبون الغناء ويحبون الناس، أغنيته الأولى معه «صافينى مرة» هى بداية مرحلة فى الغناء المصرى، فيها من البساطة والرقة والبداهة ما يجعلها تشير إلى ملحن يؤسس لطريقة تبدو سهلة، ولكنها فى الحقيقة تغرف من مخزون الوجدان الجمعى، الموجى لحن ١٥٠٠ أغنية، وغنى له معظم الأصوات، وفى كل احتفال بذكراه يركز الجميع على تجربته مع أم كلثوم، وهى تجربة عظيمة جدًا لا شك، أو تجربته مع شريكه وصوته المحبب عبدالحليم، ولا يتم الحديث عن المساحات الأعرض فى تجربته مع فايزة أحمد، خصوصًا مع كلمات الشاعر الكبير مرسى جميل عزيز، مثل «يامه القمر على الباب»، أو مع شادية فى «شباكنا ستايره حرير» أو «وأصالحك بإيه أو قاللى الوداع»، أو «غاب القمر يابن عمى»، والأخيرة واحدة من أجمل وأعذب ما فى تراثنا الغنائى، فيها شعر غزير كتبه مجدى نجيب، ولحن صعد بهذا الشعر إلى أجمل ما تبعثه الموسيقى فى الروح، وله فى هذه المنطقة مع حورية حسن صاحبة الصوت الساحر لحنين ماركة محمد الموجى، هما «يابو الطقية الشبيكة ومن حبى فيك يا جارى»، فهو يعرف ما يناسب الصوت الذى يلحن له، فهو مع صباح صاحبة الصوت المبتسم يقدم «زى العسل، والحلو ليه تقلان قوى، والدوامة، على سبيل المثال»، وعندما يتعامل مع صوت نجاة الدافئ الحنون يقدم «عيون القلب»، ومع صوت قنديل يقدم «منديل الحلو»، ومع وردة يقدم «أكدب عليك»، ومع ليلى مراد «أكتب لك جوابات»، ومع هدى سلطان، وشريفة فاضل، وشهرزاد، وعصمت عبدالعليم، ومديحة عبدالحليم، وماهر العطار، ولور دكاش، وميادة الحناوى، وعزيزة جلال وعفاف راضى وعبدالمطلب، ومحمد رشدى، ومحرم فؤاد، وغيرهم، هو يتجول بألحانه فى مناطق وأزمنة بسلاسة وتنوع نادرًا ما تجدهما عند الكثيرين، وعندما تصدى لتلحين القصائد لم يتقمص شخصية رياض السنباطى، وقدمها بطريقته هو، و«قارئة الفنجان» خير دليل، لم تشعر أنه منهار أمام جلالة اللغة الفصحى، ولكنه صادقها، وجعلها سهلة كالماء بطريقته التعبيرية الآسرة.. الأستاذ الموجى «حاجة كبيرة» فى فن الموسيقى، والاحتفال بمئويته، هو احتفال بمصر الموهوبة الناهضة الطيبة الحزينة المبهجة التى من الصعب أن ينافسها فى العذوبة والرقة أحد.