تشرشل فى وادى النيل
دفعتنى الأحداث الحالية الدامية فى السودان إلى إعادة قراءة بعض المراجع المهمة والنادرة عن تاريخ السودان الحديث والمعاصر، فى محاولة لفهم جذور ما يحدث الآن فى السودان. ومن المصادر التاريخية المهمة فى هذا الشأن كتاب «حرب النهر» لمؤلفه الشهير ونستون تشرشل الذى أصبح بعد ذلك رئيسًا لوزراء بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية. وربما لا يعرف البعض أن تشرشل شارك فى شبابه فى حملة كتشنر لاستعادة السودان من الثورة المهدية. وقد تُرجِم الكتاب إلى العربية وصدر فى القاهرة عام ٢٠٠٦.
ويقدم تشرشل فى كتابه وصفًا مهمًا ومثيرًا لنهر النيل، وأهميته فى الحياة بالنسبة للسودان ومصر، بل وأهميته أيضًا حتى فى الحرب، لذلك عنون كتابه بـ«حرب النهر». يصف تشرشل النيل قائلًا: «القارئ الذى يريد أن يعرف مصير الجميع يجب عليه التفكير فى النيل باعتبار أنه حياة البلاد التى يجرى خلالها، إنه سبب الحرب وسبب الحياة... بدونه ما كان لأحد أن يرجع».
ومن النقاط المثيرة فى هذا الكتاب المهم، ما يشير إليه تشرشل من الارتباط المصيرى والحياتى بين شمال الوادى وجنوبه، بين مصر والسودان، ويظهر ذلك جليًا فى وصفه لنهر النيل من الشمال إلى الجنوب: «إذا نظر القارئ إلى خريطة النيل سوف يلاحظ على الفور وجه الشبه الكبير بين شكل النيل وشجرة النخيل، فى أعلى الشكل تمثل الأرض الخصبة الدلتا، الفروع والأوراق الخضراء تهفهف فى كبرياء، الجذع فى انحنائه، النيل أيضًا ينحنى انحناءة جبارة عبر الصحراء، جنوبى الخرطوم تكتمل أوجه الشبه حيث تمتد جذور النخلة داخل السودان بعمق، إذا كان السودان جزءًا مكملًا لمصر، فإن مصر لا تقل أهمية لتنمية السودان، ما فائدة الجذور والتربة الغنية إذا ما قطعت الساق». ويصل الأمر إلى ذروته فى تأكيد العلاقة الوثيقة والأبدية بين مصر والسودان عندما يقول: «يرتبط السودان بمصر كارتباط الغواص بأنبوبة الأكسجين، بدونها لا شىء سوى الاختناق»!
ويربط تشرشل بين الحركة الوطنية فى كل من السودان ومصر، فبالنسبة له كانت ثورة عرابى ثورة ضد تسلط الحكم التركى وفساد الإدارة فى مصر، وكذلك الثورة المهدية ثورة ضد الحكم التركى وفساد الإدارة التى تبدو أنها مصرية، لكنها فى الحقيقة إدارة تركية شركسية.
ويشير تشرشل مبكرًا إلى الحقيقة التى عرفت بعد ذلك من حيث الإمكانيات الاقتصادية الواعدة فى السودان، والتى من الممكن أن تحقق الرخاء لشعبه، لولا الحرب وتجارة الرقيق!! وها هو السودان يعود الآن للأسف الشديد إلى حرب جديدة لا طائل من ورائها، بينما المعركة الحقيقية هى تنمية السودان واستثمار ثرواته لرخاء شعبه.