الروح في السودان والجسد في مصر.. "الدستور" بين حكايات العالقين على الحدود (ملف)
بين ليلة وضحاها تحولت حياتهم رأساً على عقب، اشتباكات مسلحة سرعان ما تحولت إلى عمليات فرار من السودان خوفًا من طلقات الرصاص، الأطفال في حالة من الفزع، والأمهات غير قادرة على استيعاب أبنائها وتقديم كلمات لطمأنتهم، والآباء يلهثون وراء جمع كل قرش يملكونه للعبور بأسرهم إلى بر الأمان، ولكن مع ويلات الحرب المشتعلة اضطر البعض منهم لتفضيل أسرته على نفسه، فأصبحت الأسرة منقسمة والأصدقاء مشتتين، فكأنما رجُل يضع قدمه في السودان والأخرى في مصر، وتلك الأحوال هي ما سنرويها لكم في السطور التالية.
حافظ المصري: كنت أسابق الزمن لأصل إلى زوجتي في القاهرة
"نتيجة لأخطاء طبية قاتلة في السودان نقلت زوجتي إلى القاهرة"، تلك السطور كانت البداية التي روى بها حافظ المصري، وهو صحافي سوداني، قصته مع أزمة الحرب في السودان، فيقول إنه قبل عام تعرضت زوجته لوعكة صحية نتيجة عدة أخطاء طبية في السودان ومع تفاقم وضعها الصحي قرر نقلها إلى القاهرة، وأصبحت أيامه مقسمة بين مصر والسودان، لكن خلال الأيام السابقة والتي كانت موعد سفره إلى زوجته في مصر اندلعت الاشتباكات في مدينة الخرطوم، تحديدًا في 15 إبريل الماضي، فوقع تحت وطأة الحيرة بين المغامرة بحياته ومحاولة السفر إلى زوجته، وبين استمرار تواجده في السودان وآلات الحرب محتدمة.
وآثر "حافظ" أن يكون بجوار زوجته، وفي طريقه من منزله بمدينة "أم درمان"، تحرك ليلًا نحو موقف "قندرها" وهو الموقف الذي تتحرك منه الحافلات لمصر، ويقع هذا الموقف غرب سوق ليبيا الشهير الكائن اقصى الجنوب الغربي لأم درمان، وعلى بعد خطوات من منزله استوقفه مجموعة من الأشخاص وعلى مقربة منهم سيارة دفع رباعي، وطلبوا من السائق التوقف وتم إنزال كل الركاب بحجة تفتيش السيارة، ولم يكن الأمر مفاجئًا له بسبب وجود تلك المنطقة قرب نقطة ارتكاز للشرطة، لكن ما آثار دهشته أن هؤلاء كانوا يرتدون زيًا مدنيًا، وبعد معاينة السيارة طلبوا تسليم كل الهواتف، وهنا ساوره الشك.
"كان عددهم نحو 10 أشخاص لكن من يتحدث عنهم شخص واحد"، هكذا وصفهم "حافظ" متابعًا حديثه مع "الدستور"، أن هؤلاء طلبوا هاتف السائق وسألوه إذا كان يعرف هذا الشخص -يشير بإصبعه إلى الصحافي حافظ المصري- فأجابهم أنه شخص أوقفه من نقطة "الزلط" مثله كالبقية، فاتجهوا نحو "حافظ" واستولوا على هاتفه وعندما علموا أنه يعمل صحافي سألوه عن وجهته وسبب سفره إلى القاهرة، واتهموه بأنه عميل وسرقوا الأموال التي في جيبه تاركين حقيبته له، ثم دفعوا السائق للتحرك وترك "حافظ"، الذي استكمل رحلته مشيًا على الأقدام حتى وصل إلى موقف الحافلات، وكانت الرحلة على وشك الإلغاء.
وظهر بعدها شخص أخبر المتواجدين بموقف الحافلات: "أنتم محظوظون وصلتوا الموقف في ناس ما هتسافر"، تاركًا تساؤلات المتواجدين خلفه، ثم بات يفكر فيما يفعله بعدما سُرقت أمواله، ولوهلة جاء أحد الأصدقاء في تفكيره، فبحث عن هاتف قريب وتواصل معه استنجادًا به لمواصلة الرحلة وتكاليفها دون شرح ما حدث حتى لا يسبب القلق له ويضاعف من قلق أسرته، وكانت حركة الحافلة بطيئة في البداية حتى وصل إلى منطقة الملتقى القريب من "مروي" حيث المطار، وهناك شهد مواجهات دامية على أثرها تم توقيف الحافلات لفترة طويلة، "وقتها علمنا بانفجار الأوضاع في الخرطوم ومن هنا عرف زملأئي بأني عالق".
واختتم حديثه معنا: "شاءت الأقدار ألا أفقد حياتي لكن فقدت كل ما كان معي من مال لمواصلة رحلة علاج زوجتي، أيضًا فقدت حقيبتي في المعبر بكل محتوياتها بعد أن سرى خبر باحتمال إغلاق المعبر قبل اكتمال إجراءات الدخول فكان الكل يسابق الزمن لإكمال الإجراءات".
ريهام نصر: الحرب فرقتني عن زوجي
قصتنا التالية كانت على الحدود المصرية مع إحدى العائدات من السودان، مع السيدة ريهام نصر، وهي سيدة مصرية ضمن العائدين من السودان رفقة أطفالها الثلاث، لكن الحرب فرقتها عن زوجها السوداني الذي لم يتمكن من العودة معها للقاهرة.
تحدثت لـ"الدستور" وهي تمسك بيد أطفالها ترفرف في أياديهم الأعلام المصرية، موضحة أن الدولة المصرية لم تبخل عليهم بأي شيء وأن السفارة المصرية في السودان كانت على مدار 24 ساعة على تواصل معهم وتعرضهم كأنهم هنا في القاهرة وليس في الخرطوم.
"ريهام" تشير إلى أن الجهود المصرية في استعادة مواطنيها من قلب الأحداث المشتعلة أمر لافت جدًا ونال إعجاب كل البعثات الأخرى التي نظرت باحترام لما تفعله السلطات المصرية لأبنائها العالقين، كأول دولة تقوم بعملية الإجلاء ولكل تلك الأعداد.
ووجهت ريهام رسالة إلى المصريين بضرورة الحفاظ على الدولة ومقدراتها، مضيفة: "لو رأيتم ما رأينا في الخارج فلن تتخيلوا شيئا".
وعلى هامش اللقاء مع الأم، ذكر ابنها "محمد" أنه من مواليد السودان وأنه كان يشعر بالخوف من أصوات الرصاص وكان يحتضن ورفاقه ووالدته التي أكدت له أن مصر لن تتركهم وحدهم هناك وستفعل كل شيء لاستعادتهم، وهو ما تم، مشيرًا إلى أنه يحلم بأن يعود السودان لما كان عليه ليرى والده وتجتمع أسرته من جديد.
عزالدين أحمد: كنا ننطق الشهادة كل دقيقة وننتظر الموت
قصتنا التالية كانت مع طالب أراد العودة إلى أهله هربًا من ويلات الحرب التي عانى منها وزملائه إلا أن طريقه كان محفوفًا بالشوك، وهو عزالدين أحمد، طالب بالفرقة الأولى طب الأسنان في جامعة افريقيا، حدثنا عن مكوثه مع أصدقائه في سكن الطلاب والذي انقطع عنه الماء والكهرباء لمدة 3 أيام، إلى أن تواصلوا مع أصدقاء لهم كانت الكهرباء لا تزال تعمل عندهم، وهم يقطنون في سرداب، فذهبوا للجلوس معهم، لكن ولأن عمارتهم تقع على مقربة من جامعة افريقيا فكانت الاشتباكات قريبة جدًا منهم، ولم يتمكنوا من الذهاب لمكان آخر ليستطيعوا الأكل والشرب وشحن هواتفهم والتواصل مع أهاليهم، وظل هذا الحال أسبوع.
وتابع "عزالدين" حديثه مع "الدستور"، أن الاشتباكات زادت وانقطع معها الاتصال بالشبكة والإنترنت، ووصف الوضع قائلًا: "كان في بعض الرصاص بيجي في الشبابيك عندنا فكل اللي ساكنين في العمارة ينزلوا السرداب تحت معانا وكانت بتيجي شظايا صواريخ تهز العمارة هزة شديدة لغاية ما بعد أسبوع ونص النور والمياه موصلوش تاني، والأكل عندنا في العمارة كلها كان بيخلص ومحدش عارف يطلع يجيب أكل ولا أي حاجة وحتى لو طلعنا مكنش بيبقى فيه أي سوبر ماركت أو محل فاتح وكنا قاعدين بنقول الشهادة ومستعدين للموت في أي لحظة لغاية ما سمعنا إنهم خدوا هدنة لمدة 72 ساعة".
وأكد أن تلك الهدنة لم تكن سوى وقف إطلاق الصواريخ والطيران، إلا أن الاشتباكات بالأسلحة مستمرة، وهنا قرر وأصدقائه استغلال فرصة الهدنة ورغم خطورة الوضع لكن غامروا وتواصلوا مع سائق حافلة لإيصالهم إلى المعبر الحدودي مع مصر، وبعد انطلاقهم ووصولهم لمنتصف الطريق طالبهم السائق بمضاعفة المبلغ الذي اتفق عليه معهم، وبعد الشد والجذب معه وافقوا مضطرين، وخلال الطريق كانت تقابلهم لجان من الجيش وأخرى من الدعم السريع، ويشاهدوا آثار السيارات المحروقة والجثت بداخلها، فكانت مشاهد مرعبة لهم، حتى انقطعت كل وسائل التواصل معهم، وظلوا يومًا كاملًا دون المرور باستراحات ولا حمامات ولا طعام، حتى وصلوا أخيرًا إلى المعبر.
استغرق طريقهم 3 أيام، وكان الاستقبال لهم في مصر جيدًا، وظلوا من الرابعة عصرًا وحتى الثالثة فجرًا لمراجعة بياناتهم والكشف عن هوياتهم، وعن وصفه لرحلتهم، قال: "مهما وصفت اللي كان حاصل محدش هيتخيل قد ايه تعبنا، وأنا بحكي دلوقتي شايف كل المشاهد اللي كانت تحصل هناك قدام عيني وكأني لسة متواجد هناك مش قادر أنسى".
وتحدث في النهاية عن وجود أصدقاء آخرين له، غير قادرين على الوصول إلى مصر، جانب قصور الموارد المالية معهم وجانب آخر اضطراب الأوضاع الأمنية من جديد بل واستوحش أكثر من ذي قبل، وآخر تواصل معهم كان منذ 3 أيام، ثم انقطع الاتصال عنهم ولا يدري عنهم أي شئ.
سمية: أستغيث بالسفارة المصرية أن ترسل حافلات تعيد زوجي وابني لي
قصتنا الأخيرة كانت مع السيدة سمية، التي علق زوجها وابنها الأكبر في السودان، والذي كان يحاول اجتياز اختبارات الثانوية العامة، وفرقت الحرب بين الأب والابن وبين الأم و5 أطفال آخرين، وتروي أن زوجها سوداني الجنسية يعمل في مجال تصليح الثلاجات والتكييفات، وحاول هو وابنها الأكبر العودة إلى مصر منذ بداية احتدام الأزمة في الخرطوم يوم 15 أبريل الماضي، لكن استغل الناس هناك تلك الأزمة وبدأوا في إشعال حرب الأسعار، أصبحت تذكرة السفر أو التنقل داخل السودان غالية الثمن.
وتتابع "سمية" حديثها مع "الدستور"، أن زوجها اعتاد إرسال لها مبلغ شهري لسد احتياجاتها وأبنائهم الخمسة طوال الشهر، وذلك لحين انتهاء ابنها الأكبر من امتحانات الثانوية العامة في شهر مايو الجاري، إلا أن الاشتباكات المسلحة قريبة جدًا من مكان إقامة الزوج في "الجريف غرب"، حي سوداني يقع داخل مدينة الخرطوم، وبناء عليه تأثرت الأشغال وانقطع الناس عن العمل، بالتالي قابله ارتفاع أسعار كافة المنتجات وتكاد تختفي بسبب انتهاء البضاعة من أصحاب المحلات.
"مبقاش فيه شغل وبقوا يصرفو من الفلوس اللي معاهم اللي المفروض يبعتوهالي أكمل بيه الشهر مع باقي العيال، ورصيد الموبايلات كمان خلصت، يدوبك ابني لقط شبكة نت فقدرت اطمن عليهم"، وتستكمل "سمية" والحزن يخنق صوتها أن أبنائها يحملون الجنسية المصرية، مستغيثة بالسفارة المصرية أن تحاول توفير حافلات لجمع المصريين من المدن السودانية بسبب ارتفاع أسعار التذاكر إلى نقاط التجمع التي حددوها، فكثير من المتواجدين في السودان في الوقت يعانون من تلك الأزمة، فمهما امتلك الفرد أموالًا فهي تصبح بلا فائدة في كل يوم يمر عليهم.