"مصرى أصلى".. "الجينوم الفرعونى" يفضح أكاذيب "نتفليكس" و"الأفروسنتريك"
مخطئ من يظن أن الجدل الدائر حول الأصل الجينى لقدماء المصريين، ومحاولة الإصرار على نسب الفراعنة إلى أصل إفريقى هو وليد اللحظة، أو جاء بين ليلة وضحاها، أو أن سلسلة الدراما الوثائقية التى أعلنت منصة «نتفليكس» عن إطلاقها خلال الفترة المقبلة، وفى مقدمتها عرض لفيلم «الملكة كليوباترا»، يوم ١٠ مايو المقبل، الذى تظهر فيه بطلته التى تجسد دور الملكة «كليوباترا السابعة» بملامح إفريقية وبشرة سمراء اللون جاء محض صدفة.
لقد علمتنا التجارب مع الإعلام الغربى أنهم لا يتركون شيئًا للصدفة، خاصة لو تتبعنا المحاولات العديدة التى سبقت هذه السلسلة، لتأكيد أن «أصل الحضارة المصرية جاء من أدغال القارة السمراء»، التى لا يمكن أن ننكر فخرنا كمصريين بالانتماء إليها، لكن فى نفس الوقت لا يمكن أن نقبل أن تمر محاولات تزييف التاريخ مرور الكرام، وأن نسلم بنظريات سبق أن تم تفنيدها مئات المرات، ولا يوجد مبرر لإعادة التركيز عليها عبر أعمال درامية أو وثائقية، إلا إذا كان هناك من يقف وراءها، ربما أقوى من جماعات «الأفروسنتريك» الذين يتصدرون المشهد فى الفترة الأخيرة، مدعين أنهم «أصحاب الحضارة المصرية».
هنرى بريستيد يفسر سبب ادعاءات «بودج» ونظريات الشيخ أنتا ديوب
الجدل حول «أصل الفراعنة» يعود فى الأساس إلى محاولات الأفارقة لتأكيد أن لهم حضارة، وأنه لا يمكن ألا تخرج من هذه الصحراء الشاسعة حضارة يتحدث عنها العالم، فوجدوا ضالتهم فى الحضارة المصرية، التى لا ينفك العالم فى البحث عن أسرارها التى لم تنضب حتى الآن.
لذا كتب جيمس هنرى بريستيد، عميد علماء المصريات الأمريكيين، فى عام ١٩٢٦، كلمات مشهورة جاء فيها: «ظل الزنوج والزنجيون، الذين لم يتلاءموا مع عصور الحياة الاستوائية، من أجل أى تأثير فعال للعرق الأبيض، دون أى تأثير على تطور الحضارة».
ومع اكتشاف حجر رشيد ونجاح «شامبليون» فى فك شفرات الحروف الهيروغليفية، وجد البعض ضالته فى أن يشير إلى أن «الفراعنة جاءوا من أدغال القارة السمراء».
وكان من بين من حاولوا بكل الطرق إثبات أن الحضارة المصرية لا صلة لها بالشرق أو الشمال، وإنما تنحدر كلها من الجنوب، هو واليس بودج عالم المصريات والمستشرق الإنجليزى الذى عاش فى الفترة بين ١٨٥٧ - ١٩٣٤، وألف كتابًا عام ١٩٢٠، أطلق عليه «قاموس الهيروغليفية المصرية»، وصنف فيه «المصرية» على أنها «لغة إفريقية» وليست «لغة سامية».
ورغم ذلك لم يلتفت العلماء أو يتقفوا على تلك الادعاءات، حتى جاء عالم سنغالى يدعى «الشيخ أنتا ديوب»، الذى انتقل إلى باريس عام ١٩٤٦ ليدرس الفيزياء تحت إشراف فريدريك جوليو كورى، صهر مدام كورى، وأتقن كذلك دراسات التاريخ الإفريقى وعلم المصريات واللغويات و«الأنثروبولوجيا» والاقتصاد وعلم الاجتماع.
وحاول «ديوب» تفسير الكلمات الفرعونية القديمة حسبما أراد أن يصل بنظريته إلى أن الحضارة الإفريقية هى أصل الحضارة الفرعونية، التى هى أصل الحضارات فى العالم، وبالتالى فإن إفريقيا تصبح هى أصل العالم فى كل شىء.
ومن بين ما ادعاه الباحث السنغالى فى ذلك الوقت لصالح زعم «الأصل الإفريقى للحضارة المصرية»، أن المصريين أنفسهم أطلقوا على أرضهم اسم «كيميت» أى «الأرض السوداء»، وسموا أنفسهم «كاميو»، والتى تُترجم حرفيًا إلى «السود».
وقال أيضًا إن «النقوش المصرية تشير إلى أن أرض البنط (الصومال الحالية وشمال كينيا) هى موطن الأجداد»، وغيرها من التفسيرات التى تحاول تأكيد ادعاءاته وتحاول جماعات «الأفروسنتريك» أيضًا الاستناد إليها.
تحليل جينات مومياوات أبوصير الملق ينهى الجدل علميًا
يأتى ذلك رغم أن علماء المصريات فى شتى بقاع العالم بذلوا جهدًا كبيرًا لتفنيد تلك الادعاءات، من خلال جهد عملى وليس مجرد قراءة نظرية للنقوش أو الصور المنتشرة فى المعابد القديمة.
ونشرت مجلة «نيتشر كوميونيكيشنز» العلمية المتخصصة دراسة أجراها مجموعة من الباحثين الدوليين لتحليل «الجينوم» الخاص بالمومياوات الموجودة فى «أبوصير الملق» باستخدام أساليب فريدة.
و«أبوصير الملق» تقع إلى شمال غرب بلده «أشمنت» وإلى الشمال من «ميدوم» بنحو ١٥ كم، وتتبع مركز الواسطى فى بنى سويف، وعُرفت فى النصوص المصرية باسم «أوزير» أى «مقر الإله أوزير»، وكانت من مراكز عبادة هذا الإله، وضمت مجموعة من «الجبانات» من العصور المختلفة، وبعض مقابر الدولة الحديثة.
وتعرض هذه المقبرة جوانب تكشف عن تكريس عبادة «أوزوريس» (إله الحياة الآخرة). ووجد العلماء أن قدماء المصريين كانوا أكثر ارتباطًا بشعوب الشرق الأدنى، خاصة من بلاد الشام، أى شرق البحر الأبيض المتوسط، الذى يضم اليوم دول تركيا والعراق وفلسطين والأردن وسوريا ولبنان.
وكانت المومياوات المستخدمة من عصر الدولة الحديثة وفترة لاحقة «فترة متأخرة عن المملكة الوسطى»، عندما كانت مصر تحت الحكم الرومانى.
وأكدت الدراسة المنشورة فى المجلة العلمية أنه يتشارك المصريون المعاصرون بـ٨٪ من «الجينوم» الخاص بهم مع سكان إفريقيا الوسطى، مضيفة: «لم يحدث تدفق الجينات الواقعة جنوب الصحراء الكبرى إلا خلال ١٥٠٠ عام الماضية». ويمكن أن يرجع ذلك إلى تجارة الرقيق عبر الصحراء أو فقط من التجارة العادية طويلة المسافة بين المنطقتين. وقال الباحثون إن تحسين التنقل على نهر النيل، خلال هذه الفترة، أدى إلى زيادة التجارة مع الداخل.
وقال رئيس المجموعة فولفجانج هاك فى معهد «ماكس بلانك» بألمانيا: «لم تخضع العوامل الوراثية لمجتمع أبوصير الملق لأى تحولات كبيرة خلال الفترة الزمنية التى درسناها والتى تبلغ ١٣٠٠ عام، ما يشير إلى أن السكان ظلوا غير متأثرين وراثيًا نسبيًا بـالفتح والحكم الأجنبى».
وبينت الدراسة أنه فى السابق كانت هناك مشكلة فى العثور على حمض نووى سليم من مومياوات مصرية قديمة، وأن المناخ المصرى الحار، ومستويات الرطوبة العالية فى العديد من المقابر وبعض المواد الكيميائية المستخدمة فى تقنيات التحنيط، تسهم فى تدهور الحمض النووى، ويعتقد أنها تجعل بقاء الحمض النووى على المدى الطويل فى المومياوات المصرية أمرًا غير محتمل. وكان يُعتقد أيضًا أنه حتى لو تم استرداد المادة الجينية، فقد لا تكون موثوقة.
وعلى الرغم من ذلك، نجح العلماء فى استخدام تقنيات حديثة لتسلسل الحمض النووى والتحقق منه، وأكملوا أول اختبار جينومى ناجح على المومياوات.
وشرحت المجلة تفاصيل ما تم لإجراء البحث، بداية من أخذ جينومات الميتوكوندريا من ٩٠ مومياء، حيث وجد «كراوس» وزملاؤه أنهم يستطيعون الحصول على الجينوم الكامل من ٣ مومياوات فقط. وحصّل العلماء عينات من الأسنان والعظام والأنسجة الرخوة، وقدمت الأسنان والعظام معظم الحمض النووى.
ونقل الباحثون تلك العينات إلى مختبر فى ألمانيا، وبدأوا بتعقيم الغرفة، ثم وضعوا العينات تحت الأشعة فوق البنفسجية لمدة ساعة لتعقيمها، وبعد ذلك تمكنوا من إجراء تسلسل الحمض النووى.
وسعى العلماء إلى معرفة التغييرات التى حدثت للجينوم المصرى مع مرور الوقت، فقارنوا جينومات المومياوات بجينوم ١٠٠ مصرى و١٢٥ إثيوبيًا. وعقب ذلك قال كراوس: «على مدى ١٣٠٠ عام، نرى استمرارية جينية كاملة».
تلك كانت تجربة لم تعد تدع مجالًا للشك فى أصل الفراعنة أو «الجينوم المصرى القديم»، لكن وسط إصرار «الأفروسنتريك» أو من يدعمونهم فى الغرب، كان لزامًا علينا البحث مجددًا لتأصيل تلك الأكاذيب.
وحسنًا فعلت وزارة الآثار حين أصدرت بيانًا، أمس الأول، فنّدت من خلاله آراء العلماء فى تلك الادعاءات، وإن كان من الضرورى وضع خطة عاجلة للرد على السلسلة التى سيتم بثها على شبكة «نتفليكس» خلال أيام، وتنفيذ حملة منظمة تصل إلى عقل المواطن الأوروبى، قبل أن تجرفه الحملات المسمومة لجماعات «الأفروسنتريك» ومن يعاونهم.