مصر والسودان «2-2»
مرت بنا فى المقال السابق ملامح العلاقة الوثيقة والوجودية بين وادى النيل منذ التاريخ القديم، وكيف كان نهر النيل هو شريان الوصل بين أرجاء الوادى. ولم تقتصر العلاقات على النواحى المادية فقط، بل اشتملت أيضًا على ما اصطلحنا على تسميته الآن بالقوى الناعمة، وهى فى الحقيقة الأبقى والأكثر تأثيرًا. ظهر ذلك جليًا فى انتشار العبادات المصرية القديمة فى جنوب الوادى- شمال السودان الحالى- ووصل الأمر إلى أن بعض الأسرات الأخيرة الحاكمة فى مصر القديمة كانت من أصول نوبية. كما كانت مصر هى ممر المحبة عبر دخول المسيحية منها إلى وادى النيل وشرق إفريقيا، بحيث أصبحت كنائس هذه البلدان تابعة مباشرةً للكنيسة القبطية حتى القرن العشرين.
ومن مصر أيضًا دخل الإسلام إلى وادى النيل، وتحولت ممالك النوبة المسيحية إلى الإسلام، وانتشر جنوبًا عبر ربوع وادى النيل. ولعب الأزهر الشريف دورًا مهمًا فى الحفاظ على الإسلام واللغة العربية فى جنوب وادى النيل؛ إذ ضمت أروقته أروقة مخصصة لأبناء جنوب وادى النيل.
ومع القرن التاسع عشر كانت الوحدة السياسية بين مصر والسودان الحديث. وهنا لا بد من الإشارة لوجود تيار قومى سودانى راديكالى ينظر إلى الرابطة المصرية السودانية منذ عصر محمد على على أنها فترة الاستعمار التركى- المصرى، وتعقبها منذ نهاية القرن التاسع عشر فترة الحكم الثنائى الإنجليزى- المصرى للسودان. ويرى هذا التيار أن كل ذلك كان عائقًا أمام ظهور «القومية السودانية» الحديثة. والحق أن ثورة المهدى فى أواخر القرن التاسع عشر، وحتى ثورة على دينار سلطان دارفور لم تكن موجهة ضد مصر فى حد ذاتها ولا المصريين، وإنما ضد الحكام فى مصر، وضد الاستعانة بالأجانب الإنجليز «الكفار».
على أى حال استمر تيار وحدة وادى النيل هو السائد فى مصر والسودان؛ حيث سالت دماء مصرية وسودانية تحت راية هذا الشعار. ولا نبالغ أنه وحتى مطلع الخمسينيات من القرن العشرين، كانت المؤشرات كلها تتجه إلى نجاح مشروع وحدة مصر والسودان، إلا أنه وقع العديد من الأخطاء من الجانبين، المصرى والسودانى، أدى إلى تراجع التيار الاتحادى، وصعود تيار تقرير المصير والانفصال عن مصر. وأعتقد أن هذا الانفصال لم يكن فى الواقع فى صالح مصر ولا السودان، كما أعتقد أن مصر بما تحمله من عمق وتاريخية مفهوم الدولة المركزية، ربما كانت ستلعب دورًا مهمًا فى تعميق مفهوم الدولة المركزية فى السودان، وربما حالت دولة وادى النيل «المُتخيَّلة» دون انفصال جنوب السودان بعد ذلك، ومعالجة مسألة العصبيات المحلية فى أطراف السودان. لكن من ناحية أخرى كان من الصعب على الغرب، بل وعلى قوى إقليمية، مجرد تقبُّل فكرة قيام دولة تمتد حدودها من سواحل البحر المتوسط وحتى خط الاستواء، لقد كانت السياسة المستقبلية للمنطقة، تقسيم المُقَسم، وتجزئة المُجزأ، وأنهكت مصر فى العديد من الحروب الطاحنة، ودخل السودان فى دوامة الانقلابات العسكرية، وطاحونة العصبيات القبلية، وترتب على ذلك- بل وربما كان سببًا- غياب الديمقراطية، والفشل فى إرساء مفهوم المواطنة.