مَنْ هو عمرو دياب؟ الظهور الصحفى الأول يكشف سر أسطورة الهضبة
مَن هو عمرو دياب؟
سؤال يبدو مبتورًا ومرتبكًا وغير مفهوم، لكنه فى واقع الأمر سؤال مهم ومن الممكن أن يسرد كل شخص متأمل مئات الصفحات فى إجابته من وجهة نظره وسوف تكون كل الإجابات تحمل الكثير من المنطق.. والسؤال يعنى: لماذا بقى عمرو دياب كل تلك السنوات على قمة زلقة لا تحتمل أن يبقى عليها شخص واحد سنتين على بعض.. قمة اخترعها هو بشخصيته التى أتى بها بداية الثمانينيات من بورسعيد ولم تتغير حتى تلك اللحظة التى تقرأ فيها هذه السطور؟.. وإن كنت تريد دليلًا على ذلك فتعال نتنسّم رائحة ورق الجرائد والمجلات ونبحث عن الشاب البورسعيدى الطموح صاحب العينين اللامعتين بالموهبة والشغف ماذا قال فى أول ظهور صحفى له فى مجلة «الإذاعة والتليفزيون» فى ٩ يوليو ١٩٨٢ ونقارنه مع حوار مطول أجراه مع الكاتب الصحفى الكبير يسرى الفخرانى فى «الأهرام الرياضى» بعدها بأكثر من عشر سنوات، وتحديدًا فى ١٩٩٣.
١٩٨٢- مجلة الإذاعة والتليفزيون.. عمرو دياب.. صوت جديد تحت أضواء القاهرة
تعالى أدهشك وأقول لك إن السؤال الذى بدأنا به الموضوع هو السؤال الصحفى الأول الذى وُجّه لعمرو دياب فى حواره الأول فى مجلة الإذاعة سنة ٨٢، ولكى يلطف الصحفى سؤاله يقول: «وقبل أن ترتسم الدهشة على وجهه قلت: لقد كان ظهورك مفاجأة لم تسبقها مقدمات إعلانات بالتليفزيون وإعلانات بالمجلات الفنية ولكن بقى السؤال من هو عمرو دياب؟».
انتهى كلام المحرر وبقى أن نعرف الإجابة التى سترسم لنا شخصية هذا الوافد الجديد.. عمرو لم يرتبك ولم يجب إجابات معلبة وكأنه يقرأ بطاقته الشخصية.. لكنه أجاب إجابة معتزة واثقة، قال بالنص من ضمن إجابته: «لم أقدم أغنياتى من خلال حفلات بالقاهرة، وبالتالى لم يكن للجمهور فرصة للتعرف علىّ.. فكيف أقدم بطاقتى الشخصية لجمهور لم يعرفنى من خلال صوتى الذى سعيت أن يكون هو بطاقة التعريف بينى وبينه».
الإجابة قد تبدو متعالية أو فيها نبرة تعجرف.. لكنها ليست كذلك، هى إجابة عمرو دياب الذى جاء لتوه إلى القاهرة وهو يعرف ماذا يريد، وكأنه كان يرى القمة من موطنه الأصلى فى بورسعيد وأتى فقط لاقتناصها كتحصيل حاصل لأنه يستحقها.
عمرو فى معرض إجابته الطويلة قال إن مشواره الفنى بدأ قبل ٦ سنوات من هذا الحوار فى بورسعيد، من خلال وجوده فى إحدى الفرق الغربية، وكانت البداية بتقديم أغانى عبدالوهاب القديمة القصيرة بأسلوب يتناسب مع آلات الباند التى يعزفها.
ويحكى عمرو عن دور الموسيقار هانى شنودة الذى استمع له فى إحدى تلك الحفلات بالصدفة وعرض عليه الحضور للقاهرة «إن كنت عاوز تعمل حاجة» بنص كلام عمرو فى الحوار.
عمرو يكمل رسم شخصيته قائلًا: «وفعلًا حضرت والتحقت بالمعهد العالى للموسيقى العربية قسم تأليف موسيقى حتى أكون على إلمام بكل شىء عن التأليف والموسيقى والهارمونى وقراءة وكتابة النوتة الموسيقية.. وحتى يكون مشوارى الفنى فى طريقه الصحيح تقدمت لامتحانات الإذاعة ونجحت كمطرب وبدأت فى مشروع الكاسيت الأول».
ويكمل الشاب البورسعيدى كلامه عن مشروعه الطموح بأنه يعد مجموعة أغانٍ جديدة من تلحين الموسيقار الكبير بليغ حمدى وكلمات الشاعر الغنائى عبدالرحيم منصور.. صحيح أنه فى الأغلب لم يكتمل هذا المشروع مع بليغ ومنصور لكنه يقول لك عن هذا الشاب الكثير.
١٩٩٣- مجلة الأهرام الرياضى.. عقل عمرو دياب الذى صنع به أسطورته
الآن حوار صحفى مع عمرو دياب من موقع مختلف.. حوار مع نجم اعتلى القمة بالفعل وقد صال وجال فى القاهرة طيلة إحدى عشرة سنة سابقة منذ حوار مجلة الإذاعة بداية الثمانينيات.. لذلك كان عبارة عن أكثر من حلقة نُشرت داخل المجلة على مدار أكثر من عدد.
يسرى الفخرانى بدأ حواره بسؤال أيضًا عندما واجهه بمن يتهمونه بأنه يغنى بعقله وليس إحساسه، وهو ما يتعارض مع فكرة التطريب فى الأساس المعتمد على الأحاسيس ومخاطبة المشاعر.. وقال له: هل يزعجك هذا الكلام؟.
رد عمرو دياب ملمح آخر يجيب عن السؤال الأول مَن هو عمرو دياب؟.. حيث لم ينزعج النجم بل رد بابتسامة صافية طبقًا لوصف يسرى فى الحوار ورد قائلًا: « وماله! وهو عيب إنى أغنى بعقلى! يقولوا اللى يقولوه طالما الناس حبت ده»، وكل ما يهمنى هو أن يظل العمار بينى وبين جمهورى موصولًا حتى ولو وصفنى البعض بأننى أعتمد على الإبهار فى حفلاتى لأغطى على «ضعف صوتى!».
نفس النبرة الواثقة فى الإجابة لم تتغير بين الشاب البورسعيدى القادم توه من بورسعيد والنجم المتألق فى سماء القاهرة الفسيحة.. كان يستطيع عمرو أن يجيب إجابات معلّبة أيضًا وينفى تلك الفكرة التى قد تؤرق أى مطرب، خاصة أن تلك الفترة كانت فترة ذهبية أيضًا لنجوم التطريب بالإحساس مثل على الحجار ومحمد الحلو ومدحت صالح وهم تقريبًا من نفس جيله أو يسبقونه قليلًا.. لكن عمرو لم يتعامل مع العقل باعتباره تهمة بل إنه اعتبره ميزة إضافية صافية له، فحوّل السؤال الصحفى المحرج لصالحه ليحرز هدفًا فى مرمى يسرى الفخرانى.. ولم يكن غريبًا أن يكون عنوان هذه الحلقة من حوار «الأهرام الرياضى» بالبنط الكبير «عقل عمرو دياب».
ومن عجائب الربط القدرى أن عمرو فى الحوار الأول قال إن بدايته فى بورسعيد كانت غناء أغانى عبدالوهاب القديمة القصيرة بأسلوب يتناسب مع آلات الباند التى يعزفها هو وأصدقاؤه البورسعيدية.. هنا فى حوار «الأهرام الرياضى» يحكى عن موقف آخر عبارة عن هدية قدرية على اجتهاده وهو عبدالوهاب نفسه يكلمه ويطلب مقابلته.
قال عمرو دياب إنه استيقظ ذات يوم على صوت التليفون؛ ليجد صوتًا ليس بغريب عليه، يقول له: «يا أستاذ عمرو، أنا عبدالوهاب»، فيرد عمرو دياب مندهشًا: «بقى أنا أستاذ يا أستاذ!».
وعندما التقى به قال له: «أنا بس كنت عايز أشوف منظرك، وأعرف مين هو عمرو دياب ده اللى بيتكلموا عنه.. إنت طلعت إمتى؟»، ويستطرد عمرو دياب حديثه بأنه كان يرغب فقط فى رؤيته، وأنه عرفه من أحفاده الذين يسمعونه.
كان من الممكن أن يثمر لقاؤه به عن تعاون فنى يُكتب فى تاريخ عمرو بحروف من نور، لكن هذا لم يحدث ولم يعطه عبدالوهاب لحنًا لكنه أعطاه ما هو أهم، نصائح ثمينة هى خلاصة أطول عمر فنى لمبدع، وهو العمر الفنى لموسيقار الأجيال الذى صال وجال فى سنوات القرن العشرين من بداياته حتى العقد الأخير فيه مبدعًا آسرًا للقلوب والعقول.
بماذا نصحه عبدالوهاب؟
نصحه بالنوم الكثير حتى يحلو صوته، على حد قول عمرو فى الحوار، ثم يستيقظ ليمارس رياضة عنيفة، وبعدها يتناول طعامًا دسمًا ثم ينام نصف ساعة ومن بعدها يذهب للغناء. وصدّق أو لا تصدّق، هذه هى عادات عمرو دياب التى يمارسها قبل الغناء حتى الآن.
وبالرغم من حالة الاعتداد بالنفس التى ميزت حوارىّ عمرو دياب، التى قد يفسرها البعض بالغرور، لكن عمرو لم يخجل من أن يصرّح فى حوار «الأهرام الرياضى» بأنه كان يتخذ من الكينج محمد منير مثلًا أعلى له، عندما كان شابًا صغيرًا فى بورسعيد؛ لأنه يراه يطوّر نفسه دائمًا ويبحث عن الجديد حتى تغيّرت هذه الصورة وأضحى يراه يغنى ما يريده هو وليس ما يريده الجمهور. ولعل هذا يفسر عدم وقوف عمرو دياب عند نمط غنائى معين وتطوير أدواته بشكل مطرد دون الرضوخ لرغبات الجمهور فقط لأنه يدرك أن رقعة جمهوره قابلة للاتساع طوال الوقت ولا بد ألا تقف عن حدود شريحة أو فئة واحدة، وهو الدرس الذى لا يخجل عمرو بكل هيلمانه فى بداية التسعينيات من التصريح بأنه تعلمه من محمد منير الذى يعتبر من نفس جيله أو يسبقه قليلًا.
فضل على حميدة.. كيف أنقذت أغنية «لولاكى» عمرو من الضياع
ملمح ثالث يكشفه حوار «الأهرام الرياضى» فى شخصية عمرو دياب، التى صنعت أسطورته، ليكمل الإجابة عن السؤال الأول فى هذا الموضوع «مَن هو عمرو دياب؟»، سوف أترك عمرو يحكيه بنفسه دون تدخل كما نُشر فى حواره مع يسرى الفخرانى وفيه يتحدث عن صيف ١٩٨٧ ويقول:
«صيف ١٩٨٧، هذا صيف لا أنساه أبدًا.
كنت طرحت ألبومًا اسمه (هلا هلا)، وكان الألبوم ناجحًا على قدر أحلامى وقتها، الناس بتكلمنى فى التليفونات، الصحفيين بيعملوا معى حوارات، وأغنى فى ملاهى شارع الهرم فى أكثر من مكان، وأصحاب الملاهى بيتعاقدوا معى بأجور كبيرة، والأهم أننى وقتها انتقلت من حياة الشقق المفروشة وأقمت فى فندق ماريوت الذى كنت أغنى فيه كل ليلة، وكان كل هذا بالنسبة لى إنجازًا رائعًا فى حياة شاب قادم من بورسعيد، يعنى فكرة الأفراح مع شلة من الأصدقاء اسمها العفاريت، وقتها أيضًا كنت سافرت مرة الأردن صورت برنامج منوعات للتليفزيون مع محمد فؤاد وحسيت إن الدنيا فتحت لى أبوابها، أول مرة أركب طائرة فى حياتى وفؤاد أيضًا، كان حدثًا بالنسبة لنا، وكنا خلاص مش عايزين حاجة تانية من الدنيا، وبعدها سافرت لندن عملت فرح، وخلص شريط اسمه (خالصين)، وقاعد فى ماريوت واسمى فى الجرايد وفى إعلانات شارع الهرم، وفى وسط كل هذا النجاح الذى اعتبرته آخر الدنيا من وجهة نظرى، زارنى المنتج تيمور جودة، كان شريك صديقى نصيف قزمان فى صوت الدلتا، وكان منتج ألبوماتى وصدمنى صدمة عمرى، قال لى عبارة لن أنساها: إنت قاعد هنا فرحان ومبسوط إنك بتغنى فى شارع الهرم وراء نجوى فؤاد وفيه مغنى مكسر الدنيا اسمه على حميدة عامل أغنية مصر كلها بتسمعها اسمها لولاكى، قوم اخرج واشتغل وماتفرحش بنفسك قوى كده، كلامه كان مثل صفعة على الوجه، فوقت، حسيت أنا فين والنجاح فين، حسيت إن النجاح ليس غرفة على النيل ولا قرشين تحت المرتبة- مكانى المفضل وقتها للاحتفاظ بالنقود التى أكسبها- ولا العقود التى تحتكرنى فى شارع الهرم، هذه العبارة وهذه الزيارة لن أنساها أبدًا ولا أنساها مهما مر من الوقت أو حصلت على شهرة أو نجاح، زيارة هزتنى، جعلتنى أولد من جديد، أقلب الصفحة، أنسى أى نجاح حققته وأبحث عن غيره».
ينهى عمرو كلامه مخاطبًا الشباب: «أتوقف هنا لأقول لجيلى من الشباب اقلب الصفحة دائمًا فى نجاح أو فشل، لا تتوقف عند نقطة وتقول هنا آخر المشوار، سواء كان حلوًا أو مرًا، اقلب الصفحة وشوف صفحة جديدة».
نصيحة عمرو دياب التى وجهها للشباب لم تكن إلا لنفسه، وهى النصيحة التى مشى عليها عمرو دياب حتى الآن ليجيب عمرو بنفسه على مدار ٤١ عامًا منذ أن خطت قدمه القاهرة عن أول سؤال وجهه له محرر مجلة «الإذاعة والتليفزيون»: «مَن هو عمرو دياب».
وما زال قوس الإجابة مفتوحًَا.