الجانب الغائب فى متابعة المشهد السودانى
بعد أربعة أيام من المعارك الدائرة بين قوات الجيش السودانى، وقوات الدعم السريع التى اندلعت صباح السبت، فى الخرطوم العاصمة، وعدد من مناطق وولايات السودان المختلفة، يتصدر انتباه المتابعين بشكل كبير أخبار تلك المعارك وتطورها، ومدى التعقيدات التى قد يفاقمها حمل السلاح والاحتكام له، فضلًا عن عديد البيانات الصادرة التى تحمل ما حققته وحدات الجيش من استعادة مناطق ووحدات سادتها أعمال الشغب المسلح. كما تشمل الرد والتصحيح لما يجرى بثه هنا وهناك على مدار اليوم، فى إطار الحرب الإعلامية والنفسية التى تسود الغالب الأعم من المشهد خلال هذه الفترة الأولية من عمر الأزمة.
لكن الغائب بحق أن تلك الفترة الأولية تحمل أيضًا، وفق الإحصاءات السودانية الرسمية، عددًا للضحايا اقترب من «٢٠٠ قتيل»، فيما وصل عدد المصابين الذين تمكنوا من الوصول إلى المستشفيات لنحو «٢٢٠٠ مصاب». وأن العاصمة الخرطوم صارت بعد أيام معدودة فى حالة شلل كامل، فيما بات من الصعب على سكانها «٥ ملايين نسمة» التحرك لقضاء احتياجاتهم المعيشية الأساسية، فى أيام رمضان وعيد القيامة وما يسبق عيد الفطر المبارك. فالقصف وزخات الرصاص أصابت الجميع بخوف شديد، بعد وقوع كثير من حوادث الوفاة التى جرت فى الطرقات، ولم يتمكن ذووهم أو أى من الأطقم الطبية فى الوصول إليهم، وقد صدر بالفعل أكثر من تقرير مناشدة واستغاثة من «لجنة أطباء السودان» المركزية ترسم بدورها صورة قاتمة عن الأوضاع الإنسانية. حيث تناولت فيها ما يعانيه القطاع من تدهور حاد، أول ما أصاب البنية التحتية الأساسية التى يعتمد عليها لتقديم الغوث والخدمات العاجلة، مثل فرق الإسعاف وأقسام الطوارئ بالمستشفيات التى باتت تعانى من نقص حاد فى الكوادر والمعدات الطبية، فضلًا عن الأدوية والعلاجات المطلوبة بإلحاح فى تلك الفترة.
أحدث التقارير الصادرة عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية، والذى غاب تناوله نظرًا لحجم الانشغال بما يجرى على ساحة المشهد العسكرى، ذكر بوضوح أن الاحتياجات الإنسانية فى جميع أنحاء السودان وصلت بعد ٣ أيام فقط من أعمال القتال، إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق. وقد استدعى التقرير أن عمل المكتب بالسودان خلال السنوات الماضية، مكنه من الوقوف على المخاطر الرئيسية التى تهدد دولة السودان والسودانيين، وحددهم بأربعة مخاطر رئيسية هى الأهم فى عام ٢٠٢٣. تتمثل فى الصراعات، والكوارث الطبيعية، وتفشى الأمراض، والتدهور الاقتصادى. حيث يحتاج جميعها لميزانية تقدر بـ«١.٧ مليار» دولار، فقط لتقديم المساعدات الإنسانية العاجلة والحماية الطارئة لنحو «١٢ مليون» شخص فى ربوع الولايات السودانية. كما تطرق التقرير بدوره إلى أن هذا الصراع الجديد أدى إلى تفاقم ظاهرة انقطاع التيار الكهربائى المستمر، واتسعت بشكل سريع المناطق التى تعانى نقصًا فى إمدادات المياه، وجميعها ترتب أعباء إضافية وصعوبات تتطلب من القائمين على أمر هذه الخدمات الضرورية بذل قصارى جهدهم لتكون الخدمات الأساسية للمواطنين مستمرة حتى ولو فى حدها الأدنى. وختم التقرير بتطلعه أن تعود الحياة فى داخل السودان لطبيعتها قريبًا، حتى تستطيع مرافق البلاد الهشة أصلًا أن تسهم فى تحقيق استقرار نسبى، قد يساعد فى فتح آفاق العملية السياسية التى طال أمدها، فيما لم تتمكن طوال السنوات السابقة من الصمود أو التقدم للأمام.
الجهاز المركزى للإحصاء فى أحدث بياناته وضع مجموعة من المؤشرات كان يرى أنها قبل اندلاع تلك المعارك، ظلت تحمل مؤشرات إيجابية لا سيما معدلات التضخم التى سجلت قدرًا من التراجع لأول مرة منذ أعوام، حيث كان معدل التضخم السنوى فى السودان مع بداية يناير ٢٠٢٣ نسبته ٨٣٪، وإذا به يصل إلى مشارف ٦٥٪ فى شهر مارس الماضى. وهى نسب إيجابية بالمقارنة مع ما كان عليه الحال فى منتصف العام ٢٠٢١، حين سجل أعلى معدل له ٤٠٠٪، فيما نهى العام ذاته على معدل إجمالى قدر بنحو ٣٦٠٪ تقريبًا. ومنذ هذا التاريخ شهدت تلك المعدلات تحسنًا مطردًا، حيث أنهت العام ٢٠٢٢ عند نسبة تضخم كلية لم تتجاوز ١٥٥٪، قبل أن تصل فى العام الجارى إلى تلك النسب الإيجابية التى باتت مهددة، وتنذر بمزيد من الانزلاق إلى ما كانت عليه الأمور فى عام ٢٠٢١ وما سبقه. بالرغم من أن تقديرات صندوق النقد الدولى كانت تنظر بإيجابية للاقتصاد السودانى، وترى أنه يتوقع له فى حال حافظ على حالة الاستقرار أن ينهى عام ٢٠٢٣ على انخفاض يصل فى المتوسط إلى حدود ٧٧٪ وهى نسبة مقبولة لو أنها شملت مجمل هذا العام، لكن تلك التقديرات بدورها صارت فى مهب الريح بعد هذا المشهد المدمر.
الجانب الذى ظل مهددًا لتلك التقديرات، والذى جاء مشهد الاقتتال الأخير ليزيده تفاقمًا، هو قضية الغذاء وارتفاع نسب احتياج السكان فى مناطق عدة بالسودان إلى خطط إنقاذ عاجلة. فالهاجس المسيطر الآن فى العاصمة وغيرها أن زيادة المخاطر المتعلقة بالأمن الغذائى السودانى، باتت مرهونة بطول مدة العمليات العسكرية والاشتباكات المستمرة، فالأزمة اليوم فى ملمحها البسيط مقتصرة على عدم قدرة المواطنين الخروج من المنازل بسبب استمرار الاشتباكات، وهذا يزيد من حالة الركود الحادة المسيطرة على الأسواق. والارتفاع الجامح لنسب البطالة التى ما زالت تمثل أزمة حقيقية سبقت حتى المتغيرات الجديدة، فى وقت كان كثير من المواطنين لا يستطيعون تأمين العمل الذى يضمن لهم دخلًا مستدامًا. والجدير أن الشارع السودانى كان يراهن على موسم عيد الفطر، باعتباره موسمًا للتسوق، سيسهم فى كسر حدة الركود وسيخلق انتعاشًا مؤقتًا، لكنه جدير بخلق حالة من الانتعاش لكثير من الأسواق ذات الارتباط. إلا أن تفاقم الوضع الأمنى بات مهددًا لهذا النوع من النشاطات، التى تستخدم الشوارع والمحلات البسيطة فى ترويج تلك المتطلبات للأعياد وغيرها، ويؤثر بشكل بالغ على تلك النشاطات الموسمية التى كانت وحدها توفر الحد الأدنى من حيوية الاقتصاد.