حصّان والصياد
حكايات وفتوحات أساتذة مدرسة التلاوة المصرية لا تنتهى، وكانت تتلقفها الصحافة، النجوم الكبار هم الذين يتم تداول سيرهم وحكاياتهم حتى الآن، ولكن توجد أصوات عظيمة أحبها الناس لعقود، ولكنها ظلمت، ولولا جهود بعض عشاق فنون التلاوة لضاعت هذه السير. ومن اهتموا بتسليط الضوء على هؤلاء أساتذة كبار مثل: محمود السعدنى وكمال النجمى، وباحثون مخلصون وأكفاء أمثال: حنفى محمود وأبوطالب محمد، وأصدقاء أعزاء مثل: عصمت النمر وطايع الديب. الشيخ محمد عبدالعزيز حصان «١٩٢٨- ٢٠٠٣» على سبيل المثال يعد واحدًا من أهم القراء، وصاحب أسلوب فريد فى التلاوة، ويمتلك موهبة ناصعة، ولقب بألقاب كثيرة بينها: أستاذ التلوين النغمى، القارئ الفقيه، قارئ الانتصار عام ١٩٧٣، أستاذ الوقف والانتباه، هذا الصوت العظيم الذى ولد كفيفًا فى قرية الفرستق ببسيون بمحافظة الغربية، ظهر نبوغه مبكرًا وهو فى الكُتاب الذى تعلم فيه بقرية مجاورة، حيث كان يصطحبه والده إليها يوميًا مشيًا على الأقدام. وقال الشيخ حَصَّان فى حوار صحفى معه «لأنى كنت غير مبصر لقبنى أهالى المنطقة بـ(الشيخ محمد) منذ صغرى، فكنت أشعر بالفخر والوقار والبطولة المبكرة. ولكننى فطنت- رغم ذلك- إلى أننى لا أساوى شيئًا دون القرآن»، كبر الشيخ واتسعت شهرته بعدها كقارئ، قبل بلوغه العشرين عامًا فى جميع أنحاء محافظة الغربية، وأصبح يقرأ فى المناسبات الدينية المختلفة مع مشاهير القرّاء، أمثال: الشيخ مصطفى إسماعيل والحصرى، والمنشاوى والشعشاعى وعبدالباسط وغيرهم. بعد ذلك انتقل الشيخ إلى مدينة كفرالزيات، ليدخل دائرة التنافس القوى مع عدد من مشاهير قرّاء الغربية الموهوبين، ومنهم راغب غلوش، وعنتر مسلّم، وحمدى الزامل. تقدم حصّان بالفعل لاختبار الإذاعة أمام لجنة القراء فى يناير ١٩٦٤، ولكن اللجنة أعطته مهلة لمدة ٦ أشهر، عاد بعدها للاختبار من جديد، وحصل على «الامتياز» فى الاختبار الثانى، وهو القارئ الوحيد الذى كسرت من أجله الإذاعة قواعدها، القاضية بعدم بث أى قارئ كفيف يقرأ قرآن الجمعة على الهواء مباشرة، لأسباب فنية تتعلق بصعوبة تنبيه الكفيف لانتهاء الوقت المخصص للقراءة، وخشية أن يُخطئ. ولم يتجاوز «حصّان» الوقت المخصص أو يُخطئ، خلال حفلاته المنقولة إذاعيًا، ولو مرة واحدة طوال ٣٥ سنة. ومن أجمل حكايات الموهوب الكبير، فى سنة ١٩٥٨ تمنى رجل يدعى «خليل» كان يعمل فرّاش مدرسة، على أبنائه أن يقرأ «حصّان» فى عزائه. فلما مات الرجل علم الشيخ بأمنيته، فحققها له، ووعد الأبناء بإحياء العزاء والتكفل بمصاريف الجنازة، فى اليوم نفسه، تلقى مكالمة تخبره بأن والدة السادات، وكيل مجلس الأمة وقتها، توفيت، وأنه- أى السادات- الذى كان من كبار المعجبين بصوته وأدائه، طلبه بالاسم للقراءة فى العزاء، فقدم له الشيخ اعتذاره، لارتباطه بمناسبة أخرى، بعد ذلك تمت دعوة حصّان لإحياء أربعين والدة السادات، استقبله الرئيس مداعبًا وقال له: «والله أنت كبرت فى نظرى قوى يا مولانا عندما علمت أنك اعتذرت عن عدم الحضور فى مأتم والدتى، لتفى بوعدك مع أولاد الراجل الفراش». قرأ حصّان قرآن فجر يوم ٧ أكتوبر ١٩٧٣م، الموافق ١١ رمضان، واتصلت السيدة صفية المهندس، رئيس الإذاعة وقتها، بالمسئول عن الهواء، لإتاحة المجال أمام القارئ ليقرأ أطول فترة ممكنة، لُقّب بـعد ذلك بـ«قارئ النصر»، وبعد رحيل الشيخ مصطفى إسماعيل فى نهاية السبعينيات صار القارئ المفضل للقاعدة العريضة من الناس، لأنه انفرد بعدة مميزات، منها حسن الأداء وجمال وعذوبة الصوت. وعندنا أيضًا الشيخ شعبان الصياد «١٩٤٠- ١٩٩٨»، عالم القرّاء وصياد القلوب، والذى أطلق عليه المطرب الكبير محمد عبدالمطلب لقب ملك الفجر، أى ملك قراءة القرآن فى صلاة الفجر، هو أحد أعلام فن التلاوة البارزين، وهو القارئ الوحيد الحاصل على شهادة «العالِمية» الأزهرية، وهى تعادل درجة الدكتوراه، ولد فى قرية صراوة بأشمون منوفية، وكان أبوه قارئًا معروفًا فى الدلتا، ويحكى أن صوته كان ينهل من عذوبة صوت محمد رفعت، وتقدم للاعتماد فى الإذاعة، وظهرت نتيجة اعتماده مقرئًا يوم رحيله، وكان شعبان الابن فى الرابعة من عمره، فى عام ١٩٦٥ وجد الشيخ شعبان الصياد سيارات الشرطة العسكرية تحاصر منزله، وقد تجمع الجيران لمتابعة الموقف، وعند استفساره من أحد ضباط الحرس الجمهورى، تبيّن أن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، طلبه بالاسم لإحياء عزاء والده، وأحيا الصياد ثلاث ليالٍ بديوان عام محافظة بورسعيد عند وفاة عبدالناصر فى سبتمبر عام ١٩٧٠، وذلك بطلب من السادات، نائب الرئيس وقتها، لمعرفته بحب عبدالناصر لصوته، اختير كأول قارئ يتلو آيات الله فى مسجد «القنطرة شرق» بمحافظة سيناء، عام ١٩٧٤، فى حضور السادات. قال عنه عمار الشريعى فى برنامجه غواص فى بحر النغم «إننى فوجئت بالأمس بصوت (كسر) كل قواعد الموسيقى المتعارف عليها فى دنيانا، سمعت شيخًا اسمه شعبان الصياد، وهو يصعد فى تلاوته بانسيابية مطلقة، ثم ينزل بمنتهى السهولة واليسر كانسياب الماء من الصنبور»، تميّز الصياد فى تلاواته بتعدد القراءات والنغمات، فكان يقرأ الآية الواحدة بعدة طرق، وكلها أجمل من بعضها، حيث إنه كان على دراية تامة بالقراءات والمقامات الموسيقية، بعد رحيله نعاه نقيب القراء آنذاك الشيخ أبوالعينين شعيشع بقوله: «فقدت مصر اليوم عالِم القرّاء»، وقال الموهوب الكبير الشيخ راغب مصطفى غلوش عنه إنه «أعظم من قرأ القرآن فى العصر الحديث».. وللحديث إذا أراد الله بقية.