أبوالحسن الندوى «3- 3»
مر بنا فى المقالين السابقين استعراض النشأة الاجتماعية لأبى الحسن الندوى كهندى مسلم من أصل عربى، ينتمى بالنسب إلى السادة الأشراف، وكيف أدى ذلك إلى بروز أزمة «الأنا والآخر» لديه، خاصة أن أغلبية الهنود يدينون بالهندوسية أو ديانة السيخ، وكيف دفع ذلك الندوى إلى الأخذ بالمذهب الحنبلى، والاهتمام بآراء ابن تيمية.
وفى عام ١٩٤٤ انتهى أبوالحسن الندوى من تأليف أول كتبه، وهو فى الوقت نفسه أكثر مؤلفاته شهرة فى العالم الإسلامى: «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟»، وجدير بالذكر أنه كان فى الثلاثين من عمره آنذاك. ومن أول وهلة نلاحظ أن الكتاب مثير فى عنوانه، وأيضًا فى فلسفته، وأسلوب الندوى فى معالجة تاريخ المسلمين، بل التاريخ العالمى بشكلٍ عام. ويحدد الندوى منهجه الذى اختطه لنفسه، وهو الخروج على المألوف؛ إذ اعتاد الناس: «أن ينظروا إلى المسلمين من خلال التاريخ العالمى، أو ينظروا إلى المسلمين كشعب عادى، وكأمة من أمم كثيرة»، لكن الندوى يخرج على ذلك، ويتخطى هذا الإطار التقليدى- من وجهة نظره- لتكون فلسفته الأساسية فى هذا الكتاب: «أن ينظر إلى العالم من خلال المسلمين». وبناءً على هذه النظرة يصل الندوى إلى نتيجة مهمة وخطيرة فى الوقت نفسه: «أن المسلمين هم العامل العالمى المؤثر فى مجارى الأمور فى العالم كله». كما يعمد المؤلف إلى بيان «مدى خسارة العالم الإنسانى والعالم المعاصر بانحطاط المسلمين».
وفى حقيقة الأمر لا نستطيع تفهم الفلسفة التى بنى عليها الندوى أطروحته، ولا حتى تفاصيل الكتاب وطريقة المعالجة للتاريخ، إلا بتفهم «السياق التاريخى» الذى ظهر فيه الكتاب، فكما أوضحنا سابقًا ظهر الكتاب على يد هندى مسلم من أصول عربية، رأى انهيار حكم الإمبراطورية الإسلامية لمغول الهند على يد الاستعمار البريطانى، هذا الاستعمار الذى ترك بصماته على مجمل التاريخ الحديث للهند. كما رأى الندوى الصراع الطائفى الحاد بين الهندوس والمسلمين، هذا الصراع الذى سينتج عنه ظهور «باكستان»، ومعناها الأرض الطاهرة أرض المسلمين، فى عام ١٩٤٧، بعد صراعات طائفية خطيرة، وبقاء الندوى ضمن الأقلية المسلمة فى الهند.
كما لا يمكن تفهم الكتاب إلا من خلال إدراك تاريخ ظهوره والعالم كله فى خضم حرب ضروس هى الحرب العالمية الثانية، وفى انتظار العالم الجديد، عالم ما بعد الحرب.
وواضح تأثر الندوى بكتابات الفيلسوف الألمانى شبنجلر، وأهم مؤلفاته الذى تُرجم إلى العربية بعنوان «تدهور الحضارة الغربية»، وقد راجت مقولته بين الحربين أن حضارة أوروبا إلى زوال مثلها مثل الحضارات السابقة. من هنا يقدم الندوى «الحضارة الإسلامية» بتاريخها الزاهر بديلة عن الحضارة الغربية «الأوروبية» أو كما يقول: «ماذا سيربح العالم ويجنيه من الفوائد، بتقدم المسلمين وتسلمهم قيادة البشرية».
وستلتقى هذه المقولة مع مقولة حسن البنا حول الإسلام و«أستاذية العالم»، من هنا نجد احتفاء سيد قطب بهذا الكتاب، وكتابة مقدمة للطبعة الثانية له، مادحًا أطروحة الندوى قائلًا: «إن الإسلام لا يستطيع أن يعمل- فى العالم- إلا أن تكون له القيادة، لأنه- الإسلام- بطبيعته عقيدة استعلاء ومنهج قيادة، وشرعة ابتداع لا اتباع».