يهوذا الإسخريوطي.. "الدستور" تحلل شخصية تلميذ المسيح الخائن
“كان خيرٌ له لو لم يولد”.. مقابل ثلاثين من الفضة باع معلمه وسلمه لمن يتآمرون عليه سرًا لكي يمسكوه بعيدًا عن أعين الشعب، تسلل إليهم يهوذا سرًا يسألهم عن مقابل خيانته.
“التلميذ الخائن”، هكذا وصفه الكتاب المقدس، أحبه السيد المسيح ودعاه ضمن تلاميذه الإثنى عشر الذي اختارهم بعناية، حتى أنه على مدار ثلاث سنوات من ملازمته تلامس مع حنانه وحبه وصفاته الفريدة من نوعها، شهد معجزاته في إقامة الموتى وشفاء الأمراض وحنانه على الفقراء، ولم يعترض يومًا أو يعلن تمرده عليه في أي شيء ولا لأي شيء حتى دخل الشيطان إلى قلبه فقسى وطمع باع وخان.
أحب المال أكثر من معلمه وأصدقائه، حتى أظلم حبه للمال نور قلبه، فخان من علمه وأستأمنه وأطعمه وعلمه واختاره، وغَمَره بثقة كبيرة، فقابل هذا بخيانة عظيمة لم يكن يتخيل أنها ستميت معلمه وتقتله، حتى ندم وذهب شنق نفسه.
وفي هذه السطور تسعى “الدستور” لأن تقترب من شخصية يهوذا الإسخريوطي لترصد وجهات النظر المختلفة حول الدوافع وراء خيانته مقابل ثلاثين قطعة من الفضة، ومن هنا قامت “الدستور” بتحليل شخصية التلميذ الخائن من خلال رؤية الكنيسة القبطية الأرثوذكسية التي تعيش اليوم تفاصيل أحداث الخيانة التي حققت مساعِ أعداء السيد المسيح من رؤساء كهنة اليهود في القبض عليه حتى صُلب ومات على يد الرومان.
هذا يأتي مع معايشة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، هذه الأيام رحلة الآلام السيد المسيح، حيث تشهد الكنيسة اليوم طقس صلوات خميس العهد، من خلال عدة كواليس مرورًا بغسل أرجل التلاميذ وتأسيس سر الأفخارسيتيا، لاتفاق يهوذا مع رؤساء الكهنة على كيفية تسليم معلمه بـ"قبلة" حتى جاءت لحظة القبض عليه.
الأنبا بنيامين: بمال قليل وثمن بخس عكس “الخائن” قدر السيد المسيح عنده
سألت “الدستور” الأنبا بنيامين مطران المنوفية وشبين الكوم الكوم وأستاذ اللاهوت الطقسي بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية عن السبب الرئيس الذي جعل يهوذا يسلم سيده إلى رؤساء كهنة اليهود، فأوضح أن السبب الرئيس في خيانة يهوذا الإسخريوطي للسيد المسيح هو محبته الشديدة للمال والتي سجلها الإنجيل بحسب ما رواه الإنجيليين الأربعة.
وأضاف أن الثلاثين قطعة من الفضة الذي باع بهم التلميذ الخائن معلمه، وهو المبلغ الذي حددته الشريعة اليهودية في سفر الخروج من الكتاب المقدس كتعويض للسيد الذي يُقتل له عبدٌ، يُعتبر مالاً قليلاً وثمنًا بخسًا يعكس قدر السيد المسيح عنده.
القمص ميخائيل إدوارد: أحب يهوذا المال الذي هو أصل كل الشرور
و قال القمص ميخائيل إدوارد ميخائيل، راعي كنيسة القديس مارمرقس بكليفلاند، إن السيد المسيح اختار يهوذا ضمن الـ12 تلميذًا، وجعله أمينًا على الصندوق الذي يجمع أموال الخدمة، وعاش مع المسيح أكثر من 3 سنوات ورأى العجائب العظيمة التي صنعها، ولكن أحب يهوذا المال الذي هو أصل "كل الشرور" كما يصف الكتاب المقدس.
وأضاف لـ"الدستور" أن الإنجيل بحسب ما رواه التلميذ يوحنا الإنجيلي يقول إن يهوذا الإسخريوطي كان عنده الصندوق وكان سارقًا للصندوق، لافتًا إلى أن الإنجيل أيضًا ذكر أنه في الأسبوع الأخير أخبر السيد المسيح التلاميذ عن صلبه وموته فحزن التلاميذ ما عدا يهوذا لأن محبة المال سيطرت على قلبه فقرر أن يبيع سيده بالفضة.
واستكمل أن الأمور الأرضية هي ما كانت تشغل الإسخريوطي، وبحسب وصف الإنجيل، ألقى الشيطان في قلب يهوذا الإسخريوطي أن يُسلم السيد المسيح، وتآمر مع رؤساء الكهنة والكتبة وشيوخ الشعب وقال لهم الذي أقبّله هو، حتى أن المسيح عاتبه ليلة التسليم قائلاً: "أبقبّلة تُسلم ابن الإنسان".
وأشار القمص ميخائيل إلى أنه حين ندم على ما فعل وأحس أنه باع "دمًا بريئًا" بالمال، أرجع قطع الفضة الثلاثين إلى رؤساء كهنة اليهود طالبًا منهم أن يتركوا المسيح لكنهم رفضوا، فذهب وشنق نفسه، وهي الخطية الأعظم ليهوذا لأنه لم يحوّل ندمه إلى توبة بل ساقه اليأس إلى إنهاء حياته، فالكتاب المقدس يقول أن لم تتوبوا فجميعكم تهلكون.
واختتم القمص حديثه لـ"الدستور" عن فرصة خلاص يهوذا، قائلاً إن السيد المسيح كشف لتلاميذه الإثنى عشر ومن ضمنهم يهوذا الإسخريوطي في العشاء الأخير أنه سيمضي من العالم بإرادته، لكن ويا لذلك الرجل الذي به يُسلَّم، فكان خيرٌ له لو لم يولد، كما نص الإنجيل.
المفكر القبطي كمال زاخر: يهوذا الخائن صُدم عندما أعلن السيد المسيح أن مملكته ليست من هذا العالم
وقال كمال زاخر المفكر القبطي لـ"الدستور": أظن أن يهوذا الإسخريوطي كان متصورًا السيد المسيح بحسب الحلم التاريخي الذى سيرد المُلك لليهود ويقود الشعب في الثورة على المحتل الروماني ويُعلن حريتهم.
ولفت "زاخر" إلى أن اختيار السيد المسيح ليهوذا الإسخريوطي كأمين للصندوق يعكس أنه كان شخصًا منظمًا ومدققًا، لكنه صُدم عندما أعلن السيد المسيح أن مملكته ليست من هذا العالم، عندما كان يوبخ المتكلين على مراكزهم وأموالهم، فادرك يهوذا تبدد حلمه، وهى الثغرة التي أعتمد عليها قادة اليهود الدينيين في إقناعه بأن هذا الشخص يِّقوض حلمهم القومي وأنه لابد من التخلص منه، فخططوا معه للإيقاع به فسلمه لهم.
الباحث القبطي فادي سمير: جاءت خيانة يهوذا بسبب فقدان الإيمان
أما الباحث القبطي الدكتور فادي سمير، فقال إن علماء تفسير العهد الجديد في الشرق والغرب اختلفوا حول شخصية يهوذا الإسخريوطي والدوافع الحقيقية وراء خيانته، وذلك أمر منطقي لأنه يصعُب التنبأ بنية أي شخص ولا سيما الشخصيات المذكورة في التاريخ.
وأضاف "سمير" لـ"الدستور" أن النظريات التفسيرية تختلف عن ما إذا كان خيانة يهوذا ترجع لأسباب مادية أو لأسباب سياسية ودينية، فتلك الأخيرة تركز على تصاعد مشاهد مواجهة السيد المسيح مع كهنة اليهود والكتبة والفريسيين، تلك المشاهد التي حضرها يهوذا جميعاً، فالمسيح بعد أن استقبله أهل مدينة أورشليم مثل الملوك، طرد الباعة من الهيكل وهو يقول لهم: بيتي بيت الصلاة يُدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص، كما أن المسيح وقف جهاراً بين الناس ووبخ الرؤساء الدينيين لليهود على ريائهم ونفاقهم وتدينهم الحرفي الشكلي وتسلطهم على الشعب اليهودي باسم الدين.
واستكمل أن النظريات التي تدعم الدوافع السياسية الدينية تقف تحديداً عن اختبار اليهود للمسيح عن موقفه فيما يخص وجوب دفع الجزية للمحتل الروماني، ورد المسيح عليهم بقوله الشهير: أعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر، وهو الموقف الذي يهدم الطموحات القومية في إشعال ثورة ضد الرومان للاستقلال ورد مملكة داود الملك، الذي من شأنه أن يهوذا "كان خيرٌ له لو لم يولد".
ويعزز هذا الرأي أن يهوذا هو التلميذ الوحيد وسط الإثنى عشر الذي أتى من إقليم اليهودية ذات النزعة القومية الأهلى أما الباقون جميعاً فهم من إقليم الجليل.
وأوضح “سمير” أنه شخصياً لا يتفق مع استبعاد شبهة الطمع المادي من وراء الخيانة، لأن الإنجيل ذكر صراحةً أن يهوذا كان يسرق من الصندوق الذي كان مؤتمناً عليه، وأنه حينما ذهب سراً لرؤساء كهنة اليهود لعرض تسليم المسيح أليهم، بدأ حديثه معهم بالسؤال عمَّ يعطونه ليسلمهم معلمه.
يهوذا الخائن في الأيقونات المسيحية
وبالنسبة لربط الفن المسيحي تاريخياً ليهوذا مع مشهد الصلب في الأيقونات المسيحية الأثرية، فيقول الشماس أغنسطس حسام كمال عبد المسيح في كتابه، "الخلفيات الكتابية والعقيدية للأيقونات القبطية" "الجزء الرابع"، أنه توجد قليل من الأيقونات التي تمثل صلب السيد المسيح وربطه بمشهد الخيانة قبل القرون الأولى، فمثلاً يوجد نحتاً علي العاج يرجع لعام 425 ميلادية ويصور السيد المسيح مقابل يهوذا الإسخريوطي مع قطع الفضة تحت رجليه وهو محفوظ المتحف البريطاني.