مناورات الصين العسكرية وموقعها من حلبة التنافس الدولى
نددت الرئيسة التايوانية «تساى إنغ ون» بالمناورات العسكرية الصينية، التى جرت مؤخرًا حول جزيرة تايوان، ووصفتها بأنها «غير مسئولة». فتلك المناورات التى استمرت ثلاثة أيام بداية هذا الأسبوع، جاءت باعتبارها ردًا مباشرًا وسريعًا، على ما اعتبرته بكين تجاهلًا لاعتراضها وتحذيرها من إتمام زيارة تساى للولايات المتحدة، ولقائها رئيس مجلس النواب «كيفن مكارثى» فى لوس أنجلوس. فى حين يرى الجانب الأمريكى والتايوانى أن الزيارة اعتيادية، جرت على هذا النحو مرات من قبل خلال العقود السابقة. لكن الصين وفى العامين الأخيرين بدت وقد وضعت محددات جديدة، على الأقل صارت مثل تلك اللقاءات تثير لها حساسية لا تخفيها، بل وتعبر عنها بشكل فورى ومعلن. وفى الأشمل من هذا وفق الرؤية الصينية الحالية أن أى لقاء يكون طرفاه الولايات المتحدة وتايبيه بصرف النظر عن وزنه أو مكانه، يعد خرقًا لمبدأ «صين واحدة» الذى لا يقبل حسب بكين القسمة على اثنين.
حالة التوتر التى تصاعدت بشكل لافت، وقت زيارة الرئيسة السابقة لمجلس النواب نانسى بيلوسى لتايوان فى أغسطس من العام الماضى، وصفت بكين حينها عبر نائب وزير خارجيتها تلك الخطوة بـ«الشنيعة للغاية، وعواقبها ستكون وخيمة جدًا». ثم تلتها بالعديد من الإجراءات المضادة بحق تايوان وتجاه الولايات المتحدة عبر المسارات الدبلوماسية وغيرها. هذا يشير وبوضوح للمرة الثانية فى أقل من عام إلى أن بكين باتت لا تتساهل مع محاولة الطرف الأمريكى ومعه تايبيه، فرض أو تصور علاقات من هذا النوع يمكن تمريرها وقبولها صينيًا، لذلك فإزاء الزيارة الأخيرة لرئيسة تايوان للولايات المتحدة، انتظرت بكين فور عودة تساى حتى بدأت مناورتها فى اليوم التالى مباشرة، وفيها أجرى الجيش الصينى أثناء المناورات محاكاة لضربات دقيقة لتايوان، وحصارها، وذلك بمشاركة العشرات من الطائرات المقاتلة والقاذفات. وخلالها أيضًا أبدت وزارة الدفاع التايوانية انزعاجها من حجم مشاركة جوية قياسية «٩١ طائرة»، حلقت حول الجزيرة ونفذت تدريباتها على مدار أيام التمرين العسكرى الذى بدا جاهزًا ومخططًا، فقط كان ينتظر أمر الانطلاق والتنفيذ الذى لم يتأخر كثيرًا.
القيادة الشرقية بالجيش الصينى أشرفت ونفذت تلك الجولة من مجموعة مناورات عسكرية، تسمى «السيف المشترك»، تختبر فيها بشكل كامل قدرات القتال المشتركة المتكاملة لفروع عسكرية متعددة فى ظروف قتال فعلية، لذلك جرت التدريبات بالذخيرة الحية فى مضيق تايوان، فى محاكاة لعملية «تطويق كامل» حول الجزيرة، كما أشرك الجيش الصينى للمرة الأولى حاملة الطائرات «شاندونج» وهى واحدة من اثنتين تمتلكهما بكين، فى حين كان هناك «١١ سفينة حربية» و«٥٩ طائرة» مكلفة بمحاكاة عمليات قصف محددة الأهداف فى الجزيرة. مسرح تلك التدريبات شهده ساحل مقاطعة «فوجيان» فى شرق الصين، المواجهة مباشرة لجزيرة تايوان، حيث جرت على بُعد ٨٠ كيلومترًا جنوب «أرخبيل ماتسو»، و١٩٠ كيلومترًا عن تايبيه العاصمة بالتحديد حول «جزيرة بينجتان»، التى تعد أقرب نقطة بين الصين وتايوان. وهذه دلالة لافتة أيضًا لا تخطئها العين، فهناك رسالة تعكسها درجة الاقتراب التى تبدو أقرب بكثير من الانتشار الذى نفذه الجيش الصينى حول تايوان فى أغسطس الماضى، وقتها مثلت الرشقات الصاروخية المتطورة التى أطلقت للمرة الأولى، الرسائل المحمولة بقوة بخار الغضب الصينى.
هذه المسافة الحرجة من الاقتراب داخل مضيق تايوان استدعت اقترابًا أمريكيًا سريعًا ومماثلًا نفذته المدمرة الأمريكية «ميليوس» الإثنين الماضى، بوجودها فى عملية تندرج تحت إطار تأمين «حرية الملاحة» فى منطقة من بحر الصين الجنوبى تطالب بها بكين. كما أتبع هذا العمل العسكرى نشاط دبلوماسى أمريكى استهدف تسليط الضوء على ما قالت عنه الخارجية إنها تتابع تطوراته عن كثب، وهو تجديد التأكيد على أهمية عدم تغيير الوضع القائم فى بحر الصين الجنوبى الذى يبدو أنه يموج بمشكلات حدودية بحرية عديدة تهدد حرية الملاحة من وجهة النظر المقابلة للرؤية الصينية. فالأخيرة تنظر باستياء شديد للتقارب الذى حدث فى السنوات الأخيرة بين السلطات التايوانية والولايات المتحدة، التى توفر للجزيرة دعمًا عسكريًا كبيرًا رغم عدم وجود علاقات رسمية بين الطرفين. والخشية من وجهة نظر الكثيرين أن ينفلت هذا الاستياء المتبادل بين الطرفين إلى ما هو أبعد، بالنظر كما أشارت الأحداث الأخيرة إلى اقتراب خطوط التماس إلى هذا الحد الحرج غير المسبوق.
فى مقال مهم بدورية «فورين آفيرز» الأمريكية الشهيرة، جاء بعنوان «الإبحار فى العصر الجديد لمنافسة القوى العظمى فن الحكم فى ظل التنافس بين الولايات المتحدة والصين»، ذكر المقال أن لسوء حظ أوكرانيا حربها مع روسيا، هى فى الحقيقة عرض جانبى للولايات المتحدة. فقد أوضحت واشنطن أنها لن تتدخل بشكل مباشر فى الصراع، لأن مثل هذا التدخل قد يؤدى إلى تصعيد نووى خطير. لكنها بقيت أيضًا خارج المعركة لسبب آخر، وهو أن الغزو الروسى يشكل تهديدًا وجوديًا لأوكرانيا، كما يعد تهديدًا خطيرًا لأعضاء الاتحاد الأوروبى على الأطراف الشرقية لأوروبا، لكنه فى الحقيقة لا يمثل تهديدًا للولايات المتحدة على الإطلاق، لذلك ستظل أوكرانيا قضية من الدرجة الثانية بالنسبة للولايات المتحدة، فالقضية الأولى بالنسبة لها هى الصين. وزير الدفاع الأمريكى «لويد أوستن» قال مرة بصراحة إن الولايات المتحدة تريد استخدام أوكرانيا لـ«إضعاف روسيا» حتى لا يتمكن الكرملين من غزو دولة أخرى. كما أكد الوزير أوستن أن واشنطن ترغب بشدة فى جعل دعمها القوى لأوكرانيا بمثابة درس مهم لبكين، والمحصلة التى باتت واضحة على الأرض أن الحرب جعلت من أوكرانيا وكيلًا غير مقصود، فى التنافس بين الولايات المتحدة والصين، وربما الوكيل الأول للمرحلة الحالية من المنافسة والصراع بين القوى العظمى، قد يتبعه وكلاء آخرون على ساحات أخرى من العالم. الساحة الآسيوية بالتأكيد إحدى أبرز الساحات المرشحة كى تكون حلبة لأحداث المستقبل، وجميع البلدان هناك بالمناسبة تدرك تلك الحقيقة، لذلك تتعامل بحرص كبير مع الأحداث، ومع التفاعلات التى تقودها تلك القوى الكبرى، خشية دفعها إلى المراحل التالية من الصراع رغمًا عن إرادتها، فهل لمثل تلك الهواجس مساحة ما فى الفضاء التايوانى الذى بات معبأ ومطوقًا ببخار حار يبحث لنفسه عن مخرج من أى نوع.