ميلاد جديد لهشام الجخ
لم يعد موسم الدراما الرمضانية مجرد سيزون لعرض مجموعة من المسلسلات تعجبنا أو لا تعجبنا.. لقد تجاوز الأمر مفهوم الفرجة والبحث عن لحظات تسلية أو متعة بكثير.. هذا النوع من الفن، والذى أصبح له ناسه وقواعده ومفرداته وآليات صناعته وترويجه وتسويقه صار فنًا فى حد ذاته واختلطت فيه عناصر الاقتصاد والفنون والآداب بأشياء أخرى تتجاوز ذلك بكثير أيضًا.
سنوات طويلة مضت شب فيها الوليد الذى خرج من رحم الأدب أولًا ومن خلال وسيط مختلف عن المسرح والسينما والإذاعة واستقل بذاته.. صار الوليد شابًا عفيًا.. وفى رحلة النضج تلك مر بمراحل متعددة معظمنا يعرفها.. لكننا لا ننتبه لها.. من التمثيلية والأوبريت.. من السباعيات والخماسيات والسهرات القصيرة إلى المسلسلات ذات الثلاثين حلقة.. تنوعت الأشكال والمضامين، حتى وصلنا إلى أننا نتخيل أن الدراما هى حياتنا، أو هى صورة منها على الأقل.. تاريخنا.. وفى هذا خلط يوقعنا فى شراك كثيرة أحيانًا لكنه يكشف عن كيف أصبحت الدراما جزءًا مهمًا من تفاصيل أيامنا.. مش مجرد تمثيل يعنى.
فى هذه الرحلة التى تزيد على نصف قرن لعب عدد كبير من الأدباء أدوارًا مهمة فى نمو هذه الصناعة وتطورها.. ممثلون ومخرجون ومنتجون ومهندسو ديكور.. موزعون ومسوقون ومهندسو صوت.. مصورون وفنيون وفنانو أزياء وموضة.. مطربون وموسيقيون.. وشعراء.
ومن الشعراء الرواد يظل اسم الأبنودى وسيد حجاب عنوانًا مهمًا على تطور هذه الحرفة وشاهدًا على بقاء هذه الدراما فى أعماقنا.. وبعد عمنا حجاب وعمنا الأبنودى جاء كثيرون من جيل الوسط وأبناء الثمانينيات والتسعينيات.. أبرزهم جمال بخيت ومدحت العدل وإبراهيم عبدالفتاح وأيمن بهجت قمر.. وكل واحد من هؤلاء أضاف لسابقيه ولهذه الصناعة من إبداعه وروحه ما يضمن استمرار ما خطه الأساتذة من جيل الآباء ومن بينهم أسماء كبيرة، مثل أحمد فؤاد نجم ومجدى نجيب وعبدالرحيم منصور وفواد حجاج.
لم يعد الغناء فى الدراما إذن أمرًا هامشيًا.. اختلفت أساليب الشعراء والملحنين وتعددت الأصوات.. وأصبحت لدينا ذاكرة غنائية لا يمكن الاستهانة بها بفضل هؤلاء المبدعين من أبناء المحروسة.
هذا العام تقدم لنا دراما رمضان اسمين جديدين على هذا العالم من شعراء مصر الشباب.. مصطفى إبراهيم فى سره الباتع وهشام الجخ فى جعفر العمدة.. وربما هناك أسماء أخرى لم تستوقفنى تجربتها.. وربما نعود لها مرة أخرى فيما بعد.
هشام الجخ ليس غريبًا عن ساحة الشعر المصرى.. أتابعه منذ كان طفلًا فى العاشرة يحضر إلى قاعة الندوات فى جامعة سوهاج ليتابع الشعراء الذين يأتون من القاهرة أو من بين أبناء الصعيد.. كنا فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى.. وكان الشعر هو البهجة الوحيدة المتاحة فى ظل صعود التيارات الظلامية فى الصعيد.. انتبهت لذلك الطفل الذى يحب الشعر ويأتى مع شقيقته التى تكتب القصة إلى كل ندواتنا وسرعان ما اكتشفنا أنه يحاول الشخبطة فى هذا العالم السحرى ولم تمر أعوام قليلة حتى كان يشاركنا فى هذه الندوات معبرًا عن موهبة قادمة لا شك فى ذلك.. ثم كان أن انهمك الجخ فى متابعة القوالين من شعراء الصعيد، ثم كتب الفصحى وأدمن حفظ مطولاتها وأدمن لعبة الحروف.. وفى جامعة عين شمس وجد ضالته حتى بعد تخرجه.. رمى نفسه فى المسرح.. وبين الشباب من جيله حتى جاء برنامج أمير الشعراء ليعلن عن نفسه.
النخبة من المثقفين فى مصر لم يستقبلوا هشام بالترحيب بل ناصبوه العداء... فكرته عن شعبوية الشعر ونجومية الشاعر أقلقت البعض وصنعت حاجزًا بين أهل النقد وأصحاب التجارب الحديثة فى الشعر وبين ما يكتبه الجخ... لكنه لم يكترث وراح يقيم الحفلات واحدة بعد أخرى وأصبح له جمهور وألتراس وتجربة تستحق أن نناقشها وأن ننظر لها بشكل محايد لكن هذا لم يحدث.
كان من الطبيعى لشاعر يحترف المسرح ويقترب من الموسيقى كثيرًا أن يذهب إلى عالم الغناء، وقد كان أن تعاون الجخ مع محمد الحلو وآخرين من الشباب فى تجارب قليلة.. وبعد عشر سنوات من هذه البداية التى لم تحقق له ما أراد من وصول، تمنحه الدراما الفرصة ليكون واحدًا من فريق هذه الصناعة عبر أغنية الترويج لمسلسل يحظى بحالة واسعة من الفرجة والالتفاف الشعبى بعيدًا عن اختلافنا مع ما يطرحه من مضامين ومع فنيات السيناريو ذاته.. وعبر صوت هو الأهم فى ساحة الغناء المصرى حاليًا هو أحمد سعد الذى أخذ ما كتبه هشام إلى عالمه الشعبى ليخبرنا بأنه قادر.. أغنية الجخ وسعد أعتقد أنها ميلاد جديد لشاعر مصرى يستحق أن نتابع ما يفعل.. وأن نحتفى به مع خالص الاحترام لأصحاب التجارب الحداثية وما بعدها.