"الأب هنري عيروط ".. رائد تنمية الصعيد الذي كرمه جمال عبد الناصر
"نعمل أولًا ثم نتحدث، فقد تحدثنا كثيرًا دون أن نعمل أي شيء".. هذه ليست مجرد كلمات له، وإنما فلسفته في خدمة الفلاحين وأبناءهم في قرى الصعيد، هو الأب الدكتور هنري عيروط مؤسس جمعية الصعيد، ومؤلف كتاب "الفلاحون" الذي تحل ذكرى رحيله هذه الأيام وتحديدا في 10 إبريل بعدما قدم حياته لخدمة وتنمية أبناء الريف في مصر.
حياته
ولد الأب هنري عيروط، في 20 مايو1907، وكان والده حبيب عيروط، المهندس المعماري الشهير، الذي شارك في تخطيط وبناء ضاحية مصر الجديدة بالقاهرة، اهتم الأب بتعليم هنري وتثقيفه، فألحقه بمدرسة العائلة المقدسة للآباء اليسوعيين بالفجالة، ثم سافر إلى فرنسا لاستكمال دراسته هناك.
فدرس هنري، علم الاجتماع بجامعة "ليون" حتى حصل على درجة الدكتوراه وكانت عن الفلاح المصري وعاداته، وذلك عام 1938، ثم سيم كاهنا على الرهبنة اليسوعية في نفس السنة، وكتب له مقدمة الرسالة، البروفيسور أندريه أليكس رئيس جامعة ليون وقتها، ثم صدرت الرسالة في كتاب باسم "الفلاحون" باللغة الفرنسية أولًا، ثم تُرجمت بعد ذلك إلى عدة لغات، وصدرت طبعتان بالعربية قام بترجمة إحداهما عام 1942 د. محمد غلاب أستاذ الفلسفة بجامعة الأزهر.
خدمته في قرى الصعيد
ووفقًا لجمعية الصعيد للتربية والتنمية، فأولى الأب هنري مسؤولية الاهتمام بمدارس الصعيد الأربعين المهددة بالإغلاق لقلة الموارد حينها وطلب من المسؤولين حينها، التصريح بتكوين "الجمعية الكاثوليكية لمدارس قرى الصعيد"، فرحب المسؤولون بهذا الطلب، وتم إنشاء جمعية المدارس المجانية في قرى الصعيد في أواخر عام 1940 على يد الأب الدكتور هنري عيروط.
وسرعان ما تطور الأمر وتفرع النشاط في قرى الصعيد النائية التي لم يكن يصلها لا قطار ولا سيارة، كما اهتم الأب عيروط بنشر العلم والمعرفة، وجمع حوله جيشًا من المتطوعين والشركاء والمتبرعين رجالًا ونساءً لرعاية شؤون المدارس، إلى أن بلغ -في غضون عشر سنوات- عدد المدارس المجانية مائة وعشرين مدرسة، ضمت قرابة 10000 تلميذ، و60 مستوصفًا للرعاية الصحية لأهل قرى الصعيد النائية.
استطاع الأب هنري عيروط أن يأخذ بأيدي أبناء الريف، الذين كانوا فريسة للفقر والمرض والجهل، وكان ينادي بالعدالة الاجتماعية، فقد عاش عيروط، وسعى لبناء مدرسة في كل قرية، اكتشف إنها محرومة الخدمات الاجتماعية والصحية والثقافية.
كرمه الرئيس جمال عبد الناصر
وفي 9 أبريل عام 1964، التقى الأب هنري عيروط بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وقد أبدى الرئيس المصري إعجابه الشديد بنشاط الأب هنري عيروط في الصعيد، حتى أنه قال له :"لقد قمت بالثورة قبلي".
وفي عام 1969، وبعد وفاة الأب عيروط، كرم الرئيس عبد الناصر اسمه وقلده قلادة الشرف من الدرجة الأولى "وسام الاستحقاق"، وتعتبر هذه القلادة أهم وسام يمنح للمصريين، وقد أتت تكريمًا لحياة وأعمال هنري عيروط، وتم تسليمها لإحدى أخواته، وأقيم الحفل في وزارة الشؤون الاجتماعية بالقاهرة بحضور وزير الشؤون الاجتماعية ووزير الصحة، والأباء اليسوعيين، وأعضاء من الجمعية.
"الأب هنري" حلقة وصل بين الطوائف
"سأذهب نحو الآخرين الذين هم فعلًا آخرين، لمحاولة بناء روابط معهم.. سأذهب إلى مغامرة التقارب المتبادل"، هكذا كان يرى الأب هنرى ضرورة وجود روابط قوية بين شتى الطوائف، فكانت له صداقات متينة مع الجميع، فكوّن عيروط جمعية "إخوان الصفا" التي تدعم الحوار المسيحي الإسلامي؛ وكان قد أسسها مع الأب الراحل جورج شحاتة قنواتي، والشيخ الراحل محمد يوسف موسي، والشيخ الراحل محمد بدران في عام 1944، والتي تحولت بعد ذلك إلي "جمعية الإخاء الديني".
رحل الأب الدكتور هنري عيروط، عن عالمنا في مثل هذا اليوم 10 إبريل عام 1969، تاركًا إرثًا كبيرًا لأصدقائه وأبناءه من الفلاحين، ولم يقتصر اهتمام الأب هنرى على الريف المصرى فقط، بل امتد إلى خدمة جميع الفقراء الذين قابلهم، سواء في مصر أو في وسط وجنوب إفريقيا، وقد نشر تجربته معهم، في كتاب صدر باللغة الفرنسية بعنوان Liaisons Africaines ، نشرته أسرته بعد رحيله.