«أحسن القصص».. حكايا انتصار العاشر من رمضان
نقول دائمًا إن «كل عائلة مصرية لديها بطل شارك في حرب أكتوبر المجيدة»، وهو أمر أؤمن به، فكل منا لديه حكاية كانت تروى له، وفي كل مرة تتكشف تفاصيل جديدة حول أيام النصر العظيم، الذي تحل ذكراه الغالية اليوم وفق التقويم الهجري، فنحتفل جميعًا بـ«انتصار العاشر من رمضان».
بطل حكايتي وراويها هو جدي لأمي، نقيب شرف محمود شمندي، فكنا نتجمع حوله (بناته وأحفاده) ليقص علينا أحسن القصص، ويحكي لنا ما جرى من البداية للنهاية، وكنت أنا كـ«أحد الأحفاد» أحب تلك الحكايات، وأعتبرها تطبيقًا حقيقيًا وواقعيًا للأفلام التي حُفرت في قلوبنا قبل عقولنا لبطولات وتضحيات أبطال الجيش المصري لتحرير الأرض واستعادتها.
حكاية جدي كانت عن أسره، لكنه كان يحكيها بفخر المنتصر، فيقول: «أيام الحرب محفورة في العمر، القلب، والعقل.. لم نكن نهاب الاستشهاد، قدر ما كنا نريد أن نعبر لتحرير الأرض من العدو الذي احتلها، لنجعلها حرة، وبمستقبل أفضل وآمن لأسرنا.. أُمرنا من القيادات بالعبور إلى الجهة الأخرى من القناة، هناك حيث العدو، ونحن كجنود كنا ننتظر طوال الوقت اليوم الذي سنعبر فيه إلى هناك لتحرير الأرض التي نرى عليها المحتل أمامنا يوميًا.
حارب جدي المقاتل لمدة 23 يومًا في سيناء، وبعدها تم أسره، يقول: عند وصولنا إلى الأسر، كانوا هناك خائفين مما نحمله معنا، فمثلًا "كان لدى كل جندي (علبة تطهير فردية) تضم إسعافات أولية ليداوي نفسه حال إصابته، فكانوا يطلبون منا أن نضعها في الأرض ويطلقوا عليها النار خوفًا من أن تكون قنبلة اصطحبناها لتفجيرها هناك".
طوال تلك المدة، كانت "أسرة شمندي" ترفض تصديق فكرة استشهاده، فلم يبلغوا رسميًا حتى حينه، فكانوا يشعرون بأنه حي يرزق، ويتشبثون بأمل عودته.
ويحكي جدي، بينما نحن منصتون: "في البداية عاملونا بشكل سيئ للغاية، وغير آدمي، الزنزانة الواحدة يوجد داخلها 4 أسرى، ويحاولون إرهابنا، ويسعون إلى هدمنا نفسيًا ولكننا كنا نعلم أسلوبهم جيدًا، فلم نتجاوب معهم أو نحبط حتى.
كانت تدهشني دومًا تلك الشجاعة، فلم يكن الأمر معنويًا فقط، ولكن تعدى الأمر ذلك: "كانوا يتعمدون إضعافنا جسديًا، فيطعمونا نصف رغيف ومعه بصلة فقط، ويستغلون السليم منا في أعمال خارج مكان الأسر، مثل الحفر ودفن الجثث وغيرها، وفي بعض الأوقات كنا نعمل بالقرب من شجر الخروب، فكنا نقطف منه ونأخذه مخبَّأ في ملابسنا، كي ننقله إلى أصدقائنا الأسرى المصابين، سواء جراء الحرب أو التعذيب داخل الأسر، فلم يتمكنوا من الخروج مثلنا"، يضيف جدي.
قضى المقاتل المصري 23 يومًا آخرين داخل الأسر- نفس المدة التي بقي فيها داخل سيناء خلال الحرب- حكى لنا كيف قضاها: "كنا نواسي بعضنا البعض، ونتحدث عن أسرنا وكيف استدعينا للحظة الحرب، ونسترجع ذكريات كثيرة، سواء مع أهلنا، أو خلال الحرب ونجاح العبور لتحرير أرض سيناء، وكيف أن جنودهم جبناء للغاية، فكان يتجمع عشرة منهم لضرب أو أسر واحد منا فقط، خوفًا من قوتنا التي ظهرت حينها.
وكان الإسرائيليون غاضبين منا بشدة، ويقولون لنا (أنتم بتضربونا في عيد الغفران!)، وبعضنا يتساءل: ماذا سيفعلون بنا؟، فنرد بأننا لقناهم درسًا قاسيًا، وبالتأكيد يريدون رده إلينا فلماذا نقلق، ونكمل مداعبات عما فعلناه في الحرب، فلم نكن خائفين، نحن نعتبر أن الأسير شقيق الشهيد.. نفكر في عائلاتنا إذا ما حدث ذلك، ونرى أنه (حتى لو) فيكفي أن نتركهم في وطنٍ آمن لا يشاركهم ترابه أحد، وأننا سنكون أحياء نرزق لدى الله مثل من سبقونا.
أما قصة عودة جدي، فهي «ولا الأفلام»، فيحكي: "قبل أيام من عودتنا إلى مصر، تغيرت معاملة الإسرائيليين لنا داخل الأسر، وبدأوا يمدوننا بطعام جيد، ويتجنبون تعذيبنا أو معاملتنا بشكل سيئ، ويمدوننا بمفروشات وأطقم ملابس جديدة". وما أن تمت صفقة تبادل الأسرى، ولامست قدمه أرض الوطن، قابل في المطار أحد أصدقائه المشتركين مع شقيقه، ليطلب شمندى «قلم» ويقتطع ورقة من إحدى علب السجائر، ويكتب عليها أنه حي يرزق وعاد من الأسر، فضَّل أن تكون الرسالة بخط يده لتصدق أسرته، وقد كان.
أعتبر نفسي محظوظة للغاية، ليس فقط لأن جدي كان مشاركًا في النصر المجيد، ولكن؛ لأنني استمعت إلى تلك الملحمة من أحد أبطالها دون ناقل وسيط، فكنا نتجمع، نحتفل به ويروي لنا ما تيسر من ذاكرته حول تلك «الأيام الجميلة» كما كان يطلق عليها، وهو التعبير الذي لطالما يستوقفني كل مرة، فأبو أمي حارب وهو صائم، وأُسر، وعاد بعد غموض مصيره، لكن من كانوا يطوقون لتحرير أرضهم وتقدموا ببسالة تُدرس حتى الآن، وكتبوا «القول الفصل: لن يبقى محتل واحد».. فخر عظيم، سطروه بدمائهم وتضحياتهم، ويحكوه بأنفسهم إلينا، نحن الأجيال اللاحقة، يشعرون أن ما بذلوه «جميل» لاستعادة أرض غالية علينا جميعًا.