قبل الربيع بشوية
مثل هذه الأيام من كل عام كنت أتعرض لإصابة بالعين تجعلنى أذرف الدمع بشكل دائم.. وكانت والدتى تبسط الأمر بأنه موسم زواج الجناين حيث تقوم الأشجار بعمليات التلقيح.. والأغرب أن أطباء العيون كانوا يصفون الأمر بما يشبه ذلك.. وأنها حساسية موسمية لتزهير المزارع.. وينتهى الأمر بمجموعة من القطرات الحارقة لأسابيع.. كل عام كنت أعرف أن ذلك سيحدث.. وأن بعدها سنعيش أفضل أيامنا فى الربيع.
هكذا تشكلت ذاكرة الطفل الجنوبى قبل أن يقرأ كتابًا واحدًا.. شوية وجع وبعدها فرح وزهور وخير كتير.. أو بتعبير آخر كتبه عمنا سيد حجاب.. كل ضيقة بعدها وسعة.
وهذا ما أشعر به الآن.. نحن على أبواب الخير رغم كل ذلك الضيق.. إحنا قبل الربيع بشوية.. المهم ألا نتوقف عن السعى.. عن العمل.. عن الأحلام حتى وإن بدا فى عيون السماء غيم يشبه الدمع فى مواسم التزهير.
يمر العالم بفوران غير طبيعى.. هذا ما يراه رجال المال والاقتصاد والسياسة كذلك.. لن يصبح العالم كما كان قبل خمس سنوات مضت.. لا الشرق سيظل شرقًا.. ولا الغرب كذلك.. لا الأعداء سيظلون فى مربع الأعداء ولا الحلفاء سيظلون كذلك.. تغيرات اجتماعية أيضًا تحدث.. ونحن فى قلب المشهد ولسنا بعيدين عما يجرى.. انهيار أكثر من بنك كبير فى أمريكا قد يبدو أمرًا لا أهمية له بالنسبة لفلاح يقيم فى الصعيد.. لكن الأمر لم يعد بهذه البساطة.. أى سحابة فوق أى حتة ف العالم ستُحدث أثرًا فينا ولو بعد حين.
عالم جديد يتشكل الآن.. هذا ما نشعر به.. هذه الارتباكات فى مفاصل اقتصاد العالم وتلك التغيرات الحادة فى سياسات بعض الدول تجاه ما كانت شعوبها تظن أنه المستحيل بعينه ستودى حتمًا إلى تزهير جديد لعالم جديد.. قد يكون أفضل.. وذلك لن يحدث بالدعوات أو الأمنيات فقط.. فلا زرع ينبت صدفة. العالم كله فى موسم خماسينى بامتياز.. قد يطول قليلًا.. وربما تتغير مقولة كلنا فى الهم شرق.. إذ إن الشرق عانى لسنوات.. وربما حانت لحظة أن تتغير معادلة الهم لينتقل الهم إلى الغرب قليلًا.
الإعلام الجديد، وقد صارت مواقع التواصل فى القلب منه، صار قِبلة الباحثين عن ملامح ذلك العالم الجديد.. ونحن هنا فى القلب الإفريقى وكما كنا من قبل قلب الصراع القديم قد نصبح أيضًا محور صراع جديد ومختلف.. المهتمون بملامح هذا التغيير لا يزالون فى مرحلة الترقب.. ولم يصدر عن أى جهة بحثية فى العالم ما يشير إلى أن ذلك التغيير قد يحدث فجأة.. تغيرات المناخ ربما نراها كذلك.. لكنه لا مطر دون غيم يسبق ذلك.. ولعل البعض يرى فى الحرب الأوكرانية وما تلاها ذلك الغيم.. الذى قد تنتج عنه سيول قد تغرق بعض البلاد والعباد وليس مجرد غيم.. فماذا نفعل نحن؟.. أو ماذا نملك سوى أن نترقب وأن ندعو.. وأن ننتظر؟..
ربما يفعل المواطنون ذلك.. لكن الساسة وأهل العلم والاقتصاد لا يفعلون ذلك.