«أبناء حورة».. الانتصار على الطبقية والشر والحرب بـ«المحبة»
يعبر الكاتب عبدالرحيم كمال عتبات الواقعية، ويخط بقلمه على خيال ينساب على أرض الواقع، فيبنى عالمًا هو خيال يرمز للواقع، ويبحث عن حلول له، ويعبر عن ثنائيات وعلاقات فلسفية وإنسانية، مثل: علاقة الإنسان بالماضى والخوف والحقد والتاريخ والفن والبوح والإله والمأساة والشوق.
ومن الثنائيات ثنائية «الحب/ الحرب» و«الرؤية الحالمة/ الرؤية الواقعية»، ضمن الأفكار التى تبنى رواية «أبناء حورة»، للكاتب والسيناريست عبدالرحيم كمال، الصادرة عن دار «الكرمة»، وتولد منها رموز، وتولد بسرد يقوم على فكرة فلسفية عن الإنسان، الذى هو راوٍ عليم يستمد حكاياته من راوٍ فى هذه الحالة، وخلق بناء روائى يقوم على الخيال المرتبط جزئيًا بالواقع، وكأنه يقف فى منطقة بين ثنائية «الواقع/ الخيال».. منطقة تنحاز للخيال المولد للرموز، وتأويلها، الذى يمثل العنصر الأهم للنص.
السارد يحكى والشخصيات تؤول
السرد يقوم على فكرة الحكى الخالص، وأن يكون من منظور راوٍ عليم يطوف بالمدن ويقص حكاياها، ولكنه ليس براوٍ عليم؛ فهو يقص مشاهد الراوى «غلاب»، ويخاطب القارئ، ويحكى ويؤرخ، بداية من الحدث المحورى وظهور بيضة «حورة»، رغم أن الحكايات مولودة من رحم ما يرويه «غلاب»، الذى يحكى عما حدث بعد وقبل ظهور «حورة» لـ«المرمرية»، بناء على ما يجيئه فى المنام من العشيقة دون خصام أروى.
يروى السرد حكاية «أبناء حورة» الذين حكموا، ويبنى عالمًا من الرموز، التى تؤول، وهو ما يوضح التقنية السردية المستخدمة، تقنية التشويق فالنص؛ فالتشويق يقطن بهذه الرواية ويستخدمه السرد.
أيضًا، المشهدية والسينمائية فى سرد هذه الرواية تمثل جزءًا كبيرًا من تميزها، رغم خيالها الجامح إلا أن المشهدية تمثل عنصرًا قويًا يقدم سردًا يشيد مدنًا وبلدانًا وحكايات، تعكس الحاضر والماضى وتتنبأ بمستقبل، عن طريق الرموز، وتربط هذا الخيال بالواقع عن طريق الرموز، وحتى عن طريق، أحيانًا، الإيهام بالقرب من الواقعية، مثل ذكر أن أحد النجوم الشعبيين البارزين هو «فريد الأشقر».
ورغم ذلك الإيهام إلا أن الواقع المحض يحتل جزءًا من الرواية. الواقع يتم تقديمه فى النص عن طريق رؤية تبدو حالمة لعالم «شبه أفلاطونى»، فثنائية «العالم المثالى/ العالم الواقعى» تمثل العنصر الأهم فى رواية عبدالرحيم كمال.
فيقدم العالم الحالم رؤية للواقع، مثل نبذ الطبقية والتخلى عن الشر، ومحاربة الحرب بالحب، وقتل الوحشية وعدم الإنسانية، وتقدير الفن حق قدره، وبناء دولة للاجئين، وانتهاء دولة عظمى ورأسمالية، وخلق عالم يربض به المثالية كحجر يبنى مدينة، وفكرة تبنى نظرة فلسفية لنص أدبى.. نظرة فلسفية ترى المحبة كشرط أهميته تظهر كائنة فى نتائجه، وتبدو جلية فى مواضعه، ومباهجه، ومشاعره، المسرودة على لسان الراوى بتدفق كلمات تعبر عنه، كلمات ذات لفحة صوفية، وأوراد عاشقة للمحبة..
وكأن هذه الرواية تبدأ، فلسفيًا، من حيث تنتهى رواية «الكرنك»، للأديب الراحل نجيب محفوظ، الصادرة عام ١٩٧١؛ حيث يسرد «محفوظ» على لسان الضابط «خالد صفوان» أهم أسباب التقدم، النابعة من ينبوع واقع عاشه، وهو واقع ذو رمز فلسفى، وذو إسقاط واضح، فيبين الضابط الطرق المثلى للتقدم، وبعد عرضها يؤكد أن كل شىء يبدأ من القلب.
ولذلك، فإن عبدالرحيم كمال وريث لجزء من عالم نجيب محفوظ، وهو أيضًا وريث لحكايات «ألف ليلة وليلة»، وروى «شهرزاد»، وسردها، وكأن القارئ و«المرمرية» هنا هما «شهريار»، واللذان يخاطبهما الحكاء «غلاب»، ومن بعده ابنه «رماح».
رغم وجود راوٍ عليم يقص مشاهده، إلا أن «غلاب» هو «شهرزاد» النص، وصاحب الحكايات، ومنطق المرايا، التى تعكس جوانب الشخصيات، وهو الجانب الذكورى من «شهرزاد»، ولكنه هنا لا يتخلى عن العشق والشوق والأنثى، فمن تنطقه بالحكايات، حتى فترة معينة، هى الحبيبة والزوجة «أروى»؛ فثنائية «الذكر/الأنثى»، «العاشق/العاشقة»، وما تولده من رحم الفلسفة، وثنايا الأحداث، هى ما يخلق حالة تشابه فلسفى بين خطوط الرواية السردية.
ومع توالى الأحداث، وسير الناس فى غياهب الأيام، يرث دور «شهرزاد»، «رماح» ابن «غلاب»، وزوجته أروى، ويعكس باقى الحكايات، من نظرة جديدة، وجيل أحدث من الحكائين.
تأريخ مجتمعى يبحث عن إنسان
فكرة التأريخ، وهى تمثل حدثًا محوريًا فى البناء الدرامى عن طريق أمر أحد الحكام من «أبناء حورة»، وهو «الحليم الخردواتى»، بتأريخ كل ما يعرف، ومعاونة «نبيل السماك» له، هى فكرة تسيطر على النص، حتى وإن كان بشكل غير واضح، فالرؤية الحالمة للعالم، ذاتها، تمثل تأريخًا للعالم الواقعى، والإسقاط عليه.
والتأريخ هو السمة الأساسية للنص، عن طريق الحكايات وتوالى الحكام والحكائين والشخصيات، والتاريخ يبدأ من حيث تظهر بيضة «حورة»، وحتى زوال البشر، وبسبب التأريخ الواضح تبدأ من أحداث ١٩٦٧.
أما عن التأريخ الواضح، وهو المعتمد على سرد شذرات من أحداث جليات، واقعية كانت أم متخيلة، بأفراحها وأتراحها ونصرها وجراحها وطبع الشعب فيها، وسجية الإنسان من خلالها.
والتأريخ هنا يمثل الدافع الأقوى للربط بين الواقع والخيال، حيث يقول نبيل السماك: «إنهم يريدون تأريخًا اجتماعيًا يا حليم، تأريخًا يحكى عن الناس وأحوالهم وأعرافهم وحياتهم العادية، يحكى عن رجالهم ونسائهم وقضاياهم وأحلامهم وأوهامهم، وقصصهم اليومية، وأشعارهم، وأغانيهم، وأمواتهم، وأعراسهم، وأسرار بيوتهم، هكذا فهمت».
وفكرة التأريخ هى أساس البنية الروائية للنص، وهى من تدفعه ليصنع تأريخًا خياليًا يخلق لوحة اجتماعية وفلسفية للبلاد والعالم والعشق.
الشخصيات ما بين الأحادية والرمادية
فى عالم عبدالرحيم كمال، هذا العالم تقطنه شخصيات عديدة.
رواية «أبناء حورة» هى رواية متعددة الشخصيات، كل شخصية تمثل بشكل ما رمزًا فلسفيًا، فهناك «صفى الدين»، الذى يمثل العشق والتصوف والمحبة، وهناك «نبيل السماك»، هذا الذى يمثل سجية الإنسان ونفسه الأمارة بالسوء، وحقده وشره، ورؤيته النسبية، وهناك من يمثل الراوى، وغيره، لكن السؤال الأهم هى ثنائية: «الشخصيات الرمادية/ الشخصيات الأحادية».
«الشخصية الرمادية» هى الأقرب للواقع، مثل «نبيل السماك»، وشخصية أمجد حاكم دولة اللاجئين، المعبر عن الإنسان وعلاقته بالسلطة وشهوانية الإنسان والغيرة. أما عن شخصية «الشيخ صفى الدين» فهى شخصية أحادية، وكأنها بيضاء ملائكية، لا تشوبها إنسانية؛ فهى الرمز، وهى الحل، وهى الخير المرجو من الإنسان والواقع.
هل تبنى الفلسفة غرفة؟
الفلسفة فى هذا النص تخرج من الرموز، أحيانًا، ومن الجمل السردية والحوارية المباشرة فى أحيان أخرى، ولكن فكرة تحويل المشاعر الإنسانية إلى شىء مادى، هى فكرة تسيطر على النص؛ فنجد «غرفة الشوق»، و«وادى الخوف»، وهو ما يرى القارئ بوضوح هذه الفكرة؛ حيث تتحول المشاعر الإنسانية لقيمة مادية.
وكذلك يعبر الكاتب عن التاريخ والفن كمادة تتمثل فى كتاب «نبيل السماك» و«حليم الخردواتى»، والحكاية ككل؛ فبناء النص يقوم على التأريخ للخيال والواقع. يمثل الكاتب كيانًا يحاول تأريخ الوطن وحكاياته، وهو السلاح الأقوى..