صدمة سيليكون فالى.. ماذا جرى وما المنتظر؟
أعلنت السلطات الأمريكية يوم الجمعة ١٠ مارس على نحو مفاجئ عن إغلاق مصرف «سيليكون فالى» المقرب من أوساط الشركات والكيانات التى تستثمر فى مجال التكنولوجيا، بعد أن وجد البنك نفسه فجأة فى حالة عسر مستحكم، فيما شمل القرار أيضًا تعهد المؤسسة الفيدرالية لتأمين الودائع فى كامل الولايات المتحدة.
لم يلبث القرار الأمريكى سوى ساعات ليعبر ضفاف الأطلسى كى يصل إلى بريطانيا التى اضطرت حكومتها سريعًا للإعلان عن خطة تسمح لشركات التكنولوجيا البريطانية بالحفاظ على سيولتها بعد إفلاس بنك «سيليكون فالى»، فيما سادت هواجس واسعة حتى إعادة فتح الأسواق الإثنين.
فى ألمانيا التى بدت أكثر صلابة، أعلنت الهيئة الفيدرالية للمصارف عن تجميد أصول «سيليكون فالى بنك جيرمانى»، ولم تسمح ببيع الأصول أو إجراء مدفوعات لأى جهة، كونها معرضة لـ«خطر عدم القدرة على الوفاء بالتزاماتها للدائنين»، فيما أكدت الهيئة فى برلين أن البنوك الألمانية قوية ومستقرة، ولديها مرونة التعامل مع الأزمة التى وقعت فى الولايات المتحدة.
وزيرة الخزانة الأمريكية أعلنت عن أنه سيتم طرد مديرى البنك، كما أشارت إلى أن تدابير الحماية الفيدرالية لن تشمل المساهمين وبعض أصحاب الديون غير المضمونة، وذلك بعد تعهد مجلس الاحتياطى الفيدرالى بأنه سيوفر «تمويلًا إضافيًا» لمؤسسات الإيداع المؤهلة للمساعدة، لكن وفق ضوابط تأمين الودائع التى لا تتجاوز قيمتها ٢٥٠ ألف دولار، رغم أن العديد من الشركات والأثرياء كانت مدخراتهم فى البنك تفوق هذا المبلغ.
رئيس مجلس النواب الأمريكى «كيفين مكارثى» فى تعليقه على الأزمة أوضح أنه يأمل فى إتمام عملية شراء البنك فى نهاية المطاف، باعتبار ذلك سيكون أفضل طريقة من أجل تهدئة الأسواق، والسماح للناس بفهم أنه يمكن للولايات المتحدة تجاوز الأمر على نحو سليم، حتى لا تذهب الذاكرة لإيقاظ تجربة انهيار بنك الاستثمار الأمريكى «ليمان براذرز» قبل عشر سنوات، فحينها طلبت الهيئات التنظيمية الأمريكية من البنوك الكبرى ضرورة الاحتفاظ برأس مال إضافى، لاستخدامه فى حالة وقوع أزمات مماثلة.
بنك «سيليكون فالى» لم يكن قبل انهياره ذا شهرة كبيرة بين الجمهور العادى، لكنه ظل لسنوات أحد المصارف الرئيسية التى تقدم قروضًا للشركات الناشئة فى مجال التكنولوجيا، فى الولايات المتحدة وخارجها، فضلًا عن تمتعه بروابط قوية مع شركات رأس المال الاستثمارى.
ووفق آخر قوائم التصنيف، احتل البنك المرتبة السادسة عشرة فى الولايات المتحدة، من حيث قيمة الأصول التى بلغت ٢٠٩ مليارات دولار أمريكى، وقيمة ودائع تتجاوز الـ١٧٥.٤ مليار دولار فى نهاية ٢٠٢٢، لكنه خلال ذات العام كان شبح الأزمة يغلف تعاملاته طوال الوقت بعد تعرضه لضربة كبيرة تسببت فيها ارتفاع أسعار الفائدة بمعدلات كبيرة من قبل الفيدرالى الأمريكى خلال العام الماضى. وتسبب هذا فى عرقلة الأحوال المالية لدى قطاع الشركات الناشئة، خاصة أن القيمة السوقية للعديد من أصول البنك المرتبطة بالرهن العقارى فقدت قيمتها مع تلك الارتفاعات المتتالية لأسعار الفائدة. الانزلاق إلى عين الأزمة جاء بعد أن اضطر البنك إلى بيع السندات التى يملكها رغم عدم تحقيق أى مكسب، بل وبالخسارة فى أغلب الأحيان، من أجل تغطية عمليات السحب من قبل عملائه. فهؤلاء ومعظمهم من المساهمين فى شركات التكنولوجيا لجأوا إلى سحب ودائعهم، فى ضوء احتياجهم إلى السيولة؛ للحصول على التمويل اللازم لشركاتهم ولالتزاماتهم الاستثمارية بالخصوص.
ومن غير المرجح أن يؤدى انهيار بنك «سيليكون فالى» إلى إحداث تأثير من نوع الدومينو، الذى سيطر على الصناعة المصرفية خلال الأزمة المالية فى العام ٢٠٠٨. فالبنوك التى تعانى الآن المتاعب أقل بكثير من أن تشكل تهديدًا حقيقيًا على النظام الأوسع، لكن يظل شبح انتقال العدوى قائمًا لا شك، خاصة للبنوك الصغرى، المرتبطة بالاستثمارات والصناعات التى تعانى فى الأصل من ضائقة مالية، مثل المجال التقنى أو العملات المشفرة.
لذلك لم يكن غريبًا أن تسارع منطقة اليورو، بلدان الاتحاد الأوروبى، للتأكيد على محدودية التأثير، التى يمكن أن تتعرض لها بنوك المنطقة. فبنوك منطقة اليورو تتمتع بتمويل جيد وأكثر تحفظًا من بنك «سيليكون فالى»، لكن المشرفين على تلك البنوك لم يخفوا مراقبة أى تداعيات أخرى عن كثب، فهم يرون أن هذا الوضع ربما يتغير إذا امتد أثر ذلك إلى بنوك أكبر فى الولايات المتحدة.
لهذا جاء فى السياق ذاته تشجيع وزير الخزانة البريطانى «جيريمى هنت» وبنك إنجلترا الصفقة التى تمت فى ساعات، استحوذ بمقتضاها بنك «إتش. إس. بى. سى» على وحدة بنك سيليكون فالى فى بريطانيا. حيث كان المستهدف الحكومى البريطانى أن تضمن تلك الصفقة السريعة حماية ودائع العملاء ومواصلة العمل المصرفى كالمعتاد، دون تحميل أى أعباء على دافعى الضرائب المرهقين من وطأة الأزمة الاقتصادية العالمية.
بنك «سيليكون فالى» تم تأسيسه فى عام ١٩٨٣، ويتخذ من مدينة «سانت كلارا» بولاية كاليفورنيا الأمريكية مقرًا له، ومن الأهمية النظر إلى أن أسباب إعلان إفلاسه ليست مرتبطة بأسعار الفائدة وحدها، إنما هى جملة أسباب طالت أيضًا طريقة تشغيله التى لم تكن بالانضباط الذى يحمى كيانه ومصالح عملائه من الانهيار.
فالثابت أن إدارة البنك قامت بشراء سندات مدعومة بالرهن العقارى بقيمة «٨٠ مليار دولار» مطلع عام ٢٠٢٢، هذه السندات كانت تعطى فائدة ثابتة قدرها ١.٥٪ وهو ما كان يعتبر رقمًا كبيرًا، فى ظل انخفاض قيمة الفائدة دون ١٪ فى بنوك الولايات المتحدة الأمريكية. وعندما اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية لجأ المركزى الأمريكى لرفع سعر الفائدة «٧ مرات» خلال ٢٠٢٢، ما دفع المستثمرين لسحب استثماراتهم وشراء أذون الخزانة الأمريكية، كونها أكثر الاستثمارات أمانًا. الضربة الثانية التى تعرض لها البنك أيضًا كانت علاقته بمنصة تداول العملات الرقمية «FTX» التى أفلست منذ ٤ أشهر، فيما كانت الضربة الثالثة قد جاءته بشكل مركب من أهم عملائه وهى «الشركات الناشئة»، التى تعرضت لأزمات مالية خانقة مع عزوف المستثمرين عن ضخ الأموال فيها بشكل مباشر، مما فاقم الأمر وجعل العديد منها لا يملك مفرًا سوى طلب قروض من البنك. لحل هذه المشكلة قام البنك ببيع سندات بقيمة ٢١ مليار دولار بالخسارة، من أجل توفير سيولة نقدية لسداد احتياجات عملائه، هذه العملية خسر البنك فيها «١.٨ مليار دولار» ليواجه وحده الصدمة القاسية، التى لا يعلم أحد المدى الذى يمكن أن تصل إليه داخل الولايات المتحدة، أو أن تعبر خارجها رغم الإجراءات الصارمة لمحاصرة التداعيات المحتملة.