عن الطيران والفن ونجيب سرور
الكتابة عن نجيب سرور يجب أن تكون بلا مناسبة، كما كانت عبقريته بلا مناسبة ولا قيود.
وكأن نجيب سرور هو التمثيل الحي لتفكيري. هو الفنان صاحب الشخصية الظاهرة في نصوصه وفنه، هذا الفن المتنوع رغم قلته.. هذا الفن الذي كتب بيد متمرد، بالقلم مغرد، وفي الفن مجرب.
الجغرافيا والذكرى تخلق الفكرة
كبرهان على ذاتية الأدب، والتحليق من خلاله بالتخييل والتأويل إلى سماء ورحابة الفلسفة والرموز والبحث عن الإنسان يظهر مشوار نجيب سرور الأدبي.
سترى ذاتية نجيب سرور في نصوصه. سترى أسئلته ومواضيع الرابضة في قلب الإنسان، وسماء الوطن وتاريخه، ومن خلال هذه الذاتية يبحث "سرور" عن التجريب؛ فنجده يستخدم في بداية مسرحيته الشعرية "لزوم ما يلزم" استشهاد لنص مصري قديم للكاتب "خمخبردع سنب"، الذي يرجع عهده إلى سنة ٢١٥٠ قبل الميلاد.
"ألا ليتني أجد ألفاظاً لم يعرفها الناس، وعبارات وأقوالا بلغة جديدة لم ينقض عهدها، فليس كما تلومه الألسن أقوال لم تصبح تافهة مملة، ولم يقلها أباؤنا من قبل".
ونجده يتجه الذاتية للتعبير عن نفسه وثورته وبلاده والإنسان في المقطع الأول من النص، "لزوم ما يلزم"، قائلا:
"«اخطاب».. قريتي الحبيبة:
هو لم يمت بطلا ولكن مات كالفرسان بحثاً عن بطولة.."
و"أخطاب" هي القرية التي ولد بها نجيب سرور عام ١٩٣٢. ولأن البيئة الجغرافية والمتغيرات السياسية من أكثر العناصر المؤثرة في كيان الإنسان والفنان؛ فإن فن نجيب سرور كان متأثراً تأثر شديد بنشأته.
الفن، ككل، وبالأخص الأدب هو كلمات ومشاهد وعناصر تجتزأ من ذاتية خالقها لتخلق المعاني بالتخييل والتأويل. تأثر "سرور" بنشأته وقريته يظهر جلياً في التعبير عن الفلسفة والبلاد والإنسان؛ فنجده يكتب معبراً عن الجهل والتشدد الديني، وثنائية الإنسان/ رجال الدين في ديوان "بروتوكولات حكماء ريش" كلمات تنساب على أوراق القصيدة:
"_مولانا يغضب لو سأل الغلمان..
عن شئ ما..
يسعد حين يكون الغلمان..
من صنف «أبي العريف»..
_عار أن يعرف أن الغلمان..
جهلاء من قلب الريف..»
تظهر أيضاً شخصية نجيب سرور في نصوصه.. شخصيته وثورته وتمرده..
كتب الروائي والقاص عبده جيبر عن شخصية نجيب سرور التي عاش معها في مقالا عام ٢٠٠٥، ومن المواقف التي كتبها كان عندما رآه يمثل مسرحية برفقة ابنه فريد في ميدان "التحرير" بالقاهرة.
انساب سحر شخصية نجيب سرور في كتاباته؛ فرأى عبده جيبر مرة الشاعر الكبير أمل دنقل غاضباً، يدخن بعنف، وعندما سأله:
_مالك؟ فيه إيه؟
قال بغضب:
_روح شوف نجيب بيعمل إيه في التحرير.
كتب عبده جيبر عما رأى نجيب سرور يفعله:
"رأيت نجيب سرور يقوم بأداء عرض مسرحي كامل، ممسكاً بيد ابنه الصغير الأشقر الجميل فريد:
_الاؤنا، ألا ترى، مين يشتري الورد مني؟
وتذكرت أنني حين رأيته، منذ ليال مضت، على خشبة وكالة الغورى يقوم بالتمثيل في مسرحية «أوكازيون» أحسست ساعتها بأن مساحة المسرح ضيقة على هذا الممثل العبقري، وهأنذا أراه وقد وجد الحل:
_التمثيل في أكبر ميادين القاهرة.
فهذا هو المكان الوحيد الذي يمكن أن يستوعب هذه الطاقة الفنية"
ونرى شخصيته هذه ورؤيته للفن في ديوانه "بروتوكولات حكماء ريش":
"الراية..ما جدوانا نحن الشعراء..
إن لم نتحد الموت ونبحث عنه..
ونبصق في وجهه..
دمنا.. ماذا يبقى إلا أن نحيا..
كالخصيان على المقهى الموبوء.."
العامية أم النثر.. الرواية أم المسرح؟
نجيب سرور حالة فنية فريدة. صدر له رواية شعرية هي "ياسين وبهية". أخرج عدة مسرحيات منهم مسرحية "زقاق الفندق"، المقتبسة من رواية نجيب محفوظ الشهيرة، ومسرحية "ميرامار" عام ١٩٧٢. صدر له مسرحيات ودواوين شعرية عديدة..
هو تمثيل حي للفن والفنان، بتنوعه وتمرده وثورته وتجريبه.
كتب قصيدة النثر وشعر العامية، ونقدر على رؤية تشابه الرمزية الفلسفية والاجتماعية والسياسية بينهم، فنجده يكتب عن الفقر والطبقية في "بروتوكولات حكماء ريش"، و"البحر بيضحك ليه؟"، التي حولها إلى صوت رابض بالأذن والعقل والقلب الشيخ إمام.
"الملاك.. الوزراء.. الكبرياء
من حكام الأمس الماسون..
والجوالون باعة لبن العصفور..
والسائل المحروم..
والعاجز من أصحاب العاهرات المصنوعة..
في إحدى ورش الفورية..
أو بولاق..
والعيارون.. البصاصون..
من كل فئات الشعب"
"مساكين بنضحك من البلوة
زي الديوك والروح حلوة
مساكين بنضحك من البلوة
زي الديوك والروح حلو
سرقاها من السكين حموة
ولسه جوة القلب أمل
والبحر بيضحك ليه، ليه، ليه؟
وأنا نازلة أتدلع أملا القلل"
والعامية كانت مؤثرة في البناء الشعري لنصوصه، ولغة نصوصه؛ فيضع بين تلابيب النصوص الشعرية، التي كان معظمها من قصيدة النثر، وثناياها الألفاظ العامية، وهو تؤثر بالواقع ومحاولة تحويله إلى رمز يأول، وفن يمكن تخيله..
وكذلك قصيده الأشهر "الأميات"، والتي ألقاها منها في مقهى "ريش" الشهير، دون الخوف من رد الفعل على هذه القصيدة الجريئة. منعت القصيدة. عاشت القصيدة. كتب "سرور" في القصيدة عن موته ممثلاً فنه وتمرده وحياته:
"أنا عارف إني حموت موتة ما ماتهاش حد
وساعتها حيقولوا لا قبله ولا بعده
وبطانة تقول مات في عمر الورد
وعصابة تقول خلصنا منه مين بعده"
وقد مات "سرور" في مستشفى "العباسية للأمراض النفسية والعقلية"، الذي دخله عدة مرات، وكان يعاني من فشل في الكبد، ووقتها كانت تعاونه في مرضه ومحنته حبه الأعظم وزوجته "ساشا كورساكوفا"، التي تعرف عليها في "موسكو" بروسيا خلال سنوات دراسته الجامعية.
كان يظهر، أحياناً، وضعه للكلمات العامية كألفاظ من العربية الفصحى، ويحولها إلى لفظ في محل إعراب، وهي عبقرية لغوية وفنية تنبع من تأثره بالبيئة الجغرافية والواقع، وتظهر من تمرده وتحويله لدالذاتية إلى سؤال عن الفن الإنسان في كل زمان وكل مكان.. سؤال عن الأتراح والجراح و"الموتة اللي ما مامتهاش حد".