مصر التى لا نعرفها «2-١»
إن الدرس الأول الذى يقدمه لنا التاريخ، أن نمعن النظر وراءنا حتى نتحسس جيدًا موضع قدمنا، لكى نختار الطريق المناسب للمستقبل. هكذا يعلمنا التاريخ الواقعية، ولا أقول التفاؤل، لأن الواقعية تُبنى على قراءة جيدة للماضى للانطلاق نحو المستقبل.
أقول ذلك وأنا أتمعن فى بعض فترات التاريخ المصرى، لا سيما الفترات التى يعتبرها البعض لحظات الضعف والتدهور فى مصر، ويمر عليها بعض الباحثين مرور الكرام، تحت زعم أنها فترات لا تستحق الدراسة، وأن مصر فقدت فيها استقلالها، وتحوّلت إلى مستعمرة للمحتلين، وتدهورت أوضاعها، وفقدت مجدها القديم، ودخلت فى عصور التدهور والاضمحلال. بينما القراءة الواعية للتاريخ لا تشير إلى ذلك، بل تذهب إلى أن مصر قادرة على الاحتفاظ بحيويتها حتى فى هذه اللحظات، ربما استعدادًا لانطلاقة جديدة.
من أهم هذه الفترات، العصر الرومانى البيزنطى، الذى يمتد من زوال حكم البطالمة، هذا العصر الذى يعتبره البعض تعبيرًا عن مصر المستقلة، حيث دولة البطالمة «الإغريقية» وعاصمتها هى الإسكندرية، وصولًا إلى الحكم العربى أو «الفتح العربى» وزوال حكم البيزنطيين «الروم» من مصر. وهى فترة تمتد عبر مئات السنين، يحلو للبعض وصفها بعصر التدهور، وأن مصر لم تكن إلا مستعمرة رومانية وبيزنطية.
والحق أن فى هذه النظرة بعض التشاؤمية، وأيضًا التعميم الشديد، وعدم النظر الدقيق فى أحداث هذا العصر. ربما من الصحيح أن مصر لم تعد قاعدة الحكم فى المنطقة، وصحيح أيضًا أنها تحوّلت إلى مستعمرة، لكنها ليست أى مستعمرة، بل ستستمر مصر درة التاج الرومانى والبيزنطى. كما لم تفقد مصر قدراتها الاقتصادية ولا حتى الفكرية، فمن المعلوم أن مصر ستستمر فى لعب الدور الذى لعبته فى تاريخها الاقتصادى، وهو أنها «سلة غذاء العالم». ربما لا تصدق أيها القارئ الكريم أن روما كانت تعيش على وارداتها من القمح المصرى، بل إن شرق البحر المتوسط كان يعيش على الغلال المصرية! كما استمرت مصر فى لعب دورها الاستراتيجى كممر عالمى برى وبحرى للتجارة الدولية بين الشرق والغرب.
وعلى المستوى الفكرى هل ننسى استمرار الدور الحضارى للإسكندرية كمنارة فكرية فى عالم البحر المتوسط. وستضيف الأيام بُعدًا جديدًا فى هذا الشأن ذا طابع دينى وفكرى، هو ظهور المسيحية وانتشارها فى مصر؛ إذ ستصبح «كنيسة الإسكندرية» الكنيسة القبطية واحدة من أهم المدارس الدينية والفكرية فى العالم أجمع. والأكثر من ذلك أن مصر ستُهدى- كعادتها- إلى العالم مظهرًا جديدًا من مظاهر الحضارة الإنسانية، وهو نظام الرهبنة، هذا النظام الذى سيخرج من مصر لينتشر فى جميع أنحاء العالم، ويستمر فى لعب دور إنسانى ودينى حتى يومنا هذا.
الأكثر من ذلك أن أى إمبراطور رومانى أو بيزنطى كان يتوجس خيفة من ولاية مصر، لثرائها وأهمية موقعها. لذلك كان من المهام الصعبة فى أروقة الحكم آنذاك اختيار «والى مصر» لأن اختيار والٍ قوى ذى نظرة بعيدة، يعنى فى الوقت نفسه أن هذا الوالى ربما سيستند على ثراء مصر وموقعها المهم وينفصل عن الإمبراطورية. ومَن ينظر إلى وقائع التاريخ السياسى لتلك الفترة سيجد الكثير من الحوادث فى هذا الشأن.
هكذا استمرت حيوية مصر وأهميتها حتى فى لحظات تحوّلها إلى مستعمرة رومانية وبيزنطية، وهو ما سنلاحظ مثيلًا له فى الفترة العثمانية، فى المقال القادم.